عناصر الخطبة
1/ إنذار نبوي من النار 2/ أصناف الناس في يوم الحشر 3/ موقف العرصات تنخلع له القلوب 4/ كيف السبيل يومئذ؟! 5/ صفة العرصاتاهداف الخطبة
اقتباس
لمن الحكم اليوم؟! لمن الفصل اليوم؟! لمن القول اليوم؟! لمن القدرة اليوم؟! لله الواحد القهار!! يا له من موقف تنخلع له القلوب, العرصات, وتوجل منه النفوس، العرصات, وتتفزع منه الرؤوس مروعاتٍ! العرصات؛ حين يقضى فيها بين الخلائق أجمعين, لا فرق فيها بين آدم -عليه السلام-, وبين أدنى أدنى ذريته, كلهم ينتظرون القرار الأخير!!
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
"أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الوادي، أكنتم مصدقيّ؟!". قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". نذير بين يدي عذاب شديد.
أوَنحتاج في كل مرة لرجل يرقى جبلَ أبي قبيس؟! لينادي الأمة بأعلى صوته: يا صباحاه! يامساءاه، وينادي: يا بني فلان، يا بني فلان: اشتروا أنفسكم من الله، إني نذير لكم بين عذاب شديد؟! وينادي: لا أغني عنكم من الله شيئًا!! أوَما قد قالها الرسول الأعظم يومًا؟! أوَما قد قالها؟! بلى قالها عندما صَعِدَ أول جبل قد احتضن كلمة الحق في التاريخ.
أوقدي نارك -أيتها الأمة- وخذي بالخطام إلى ذاك السفر الطويل!
أوقدي نارك, فإنا إلى سفر راحلون!!
سفرٍ إلى ملك الملوك!!
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يُحْشَرُ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفًا مُشَاةً، وَصِنْفًا رُكْبَانًا، وَصِنْفًا عَلَى وُجُوهِهِمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟! فَقَالَ: "إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَمَا إِنَّهُم يَتَّقُونَ بِكُلِّ حَدَبٍ وَشَوْكٍ".
هلموا إلى العرصات!!
وقفت جميع مشاعري تتأمل *** وفمي عن النطق المُبين معطل
ما كنت في حُلمٍ ولا في يقظة *** بل كنت بين يديهما أتململ
أرنو إلى الأفق البعيد فما أرى *** إلا دخانًا تائهًا يتجول
وحشود أسئلة تجر ذيولها *** نحوي وباب الذهن عنها مقفل
أحسست أن إرادتي مسلوبةٌ *** وشعرت أن مخاوفي تترهل
وشعرت أني في القيامة واقف *** والناس في ساحاتها قد هرولوا
والكون من حولي ضجيج مرعب *** والأرض من حولي امتداد مذهل
والناس أمثالُ الفراشِ تقاطروا *** من كل صوبٍ هاهنا وتكتلوا
كل الجبال تحولت من حولهم *** عهنًا وكل الشامخات تزلزل
وجميع من حولي بما في نفسهم *** لاهٍ، فلا معط ولا متفضل
وأقيم ميزان العدالة بينهم *** هذا به يعلو وذلك ينزل
وتجمعت كل البهائم بعضُها *** يقتص من بعض وربك أعدل
حتى إذا فرغ الحساب وأنصفت *** من بعضها نزل القضاء الأمثل
كوني ترابًا يا بهائم عندها *** صاح الطغاة وبالأماني جلجلوا
يا ليتنا كنا ترابًا مثلها *** يا ليتنا عن أصلنا نتحول
هيهات لا تجدي الندامة بعدما *** نُصب الصراط لكم وقام الفيصل
الرحيل الرحيل!!
يخرج الناس جميعًا من قبورهم حفاة عراة غُرْلاً -أي غير مختونين-، فيُحشرون على أرضٍ غيرِ هذه الأرض: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وبرزوا لله الواحد القهار). لله الواحد القهار..
إلى ملك الملوك إليه نمضي *** وعندئذٍ تحدثه الجوارح
لمن الحكم اليوم؟! لمن الفصل اليوم؟! لمن القول اليوم؟! لمن القدرة اليوم؟! لله الواحد القهار!!
يا له من موقف تنخلع له القلوب, العرصات, وتوجل منه النفوس، العرصات, وتتفزع منه الرؤوس مروعاتٍ! العرصات؛ حين يقضى فيها بين الخلائق أجمعين, لا فرق فيها بين آدم -عليه السلام-, وبين أدنى أدنى ذريته, كلهم ينتظرون القرار الأخير!!
تموت الرئاسات في مهدها ويبقى الإله هو الفاصل!!
في يوم إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيّرت, وإذا العشار عطلت, وإذا الوحوش حشرت, وإذا البحار سجرت, وإذا الموؤدة سئلت، وإذا الصحف نشرت، وإذا السماء كشطت، وإذا الجحيم سُعّرت, وإذا الجنة أزلفت, علمت نفس ما أحضرت!!
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ).
حدَّث سعيد بن جبير عن حبر الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه حدثهم ذات يوم بموقف رهيب حدثهم به خليلهم محمد بن عبد الله أنه قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطيبًا بموعظة فقال: "يا أيها الناس: إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً، (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ), ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذاتَ الشمال فأقول: يا رب: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة:117-118]، قال: فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتَهم".
العرصات: خمسون ألف سنة مقدار اليوم الواحد فحسب.
والكلمة الأبجدية الشائعة في ذلك الموقف: نفسي نفسي, وأما دعاء الرسل يومئذ: فاللهم سلم سلم..
والله إني -أيها الكرام- أقولها وبكل صدق: لم يصل بنا الحديث بعدُ إلى النار, وإلى الحديث عن أهوالها, ولا الحديث عن طعام أهلها، ولا شراب أهلها، ولا على تفاصيل ذلك كله, أفزعني الحديث حين أردت ابتداء الكلام عن العرصات فحسب, ووجدت أن حوادث التبرؤ من الأنبياء -عليهم السلام- ليست عاديَّة!! أن يقول نبي من الأنبياء في وجه تلك الجموع: نفسي نفسي, اذهبوا إلى غيري!! ولو أن النفوس مُكِّنت يوم العرض الأكبر أن تتبرأ من جلودها وأعضائها وقلوبها لفعلت، حتى تستريح.
كيف السبيل يومئذ؟!
كيف الطريق والطريق عسير *** كيف ماذا والطريق مهيب
كيف يمكن لي أن أتخيل وهذه الجموع قد تدافعت تستفزع الأنبياء والرسل أن تسأل ربها الفصل والقضاء!! أيتها الأنبياء: اشفعوا لنا إلى ربكم, ألا ترون ما نحن فيه؟! ألا ترون ما قد بلغنا؟! وكل واحد من الأنبياء يقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله ولم يغضب بعده مثله!!
اللهم ارحمنا يوم غضبك!! اللهم الطف بهذه الوجوه، وحرِّمها على النار!!
صَعدَ رسول الهدى -عليه السلامُ- المِنْبَرَ فَقَالَ: "يَأْخُذُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ، فَيَقُولُ: أَنَا اللهُ -وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا- أَنَا الْمَلِكُ"، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى المِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!-. وَذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِهِ لله تَعَالَى، وَفِي رِوَايَةٍ: "ثُمَّ يَقُولُ سُبْحَانَهُ: أَنَا اللهُ الرَّحْمَنُ، أَنَا المَلِكُ، أَنَا الْقُدُّوسُ، أَنَا المُؤْمِنُ، أَنَا المُهَيْمِنُ، أَنَا الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ، أَنَا الْمُتَكَبِّرُ، أَنَا الَّذِي بَدَأْتُ الدُّنْيَا وَلَمْ تَكُ شَيْئًا، أَنَا الَّذِي أُعِيدُهَا، أَيْنَ المُلُوكُ؟! أَيْنَ الْجَبَابِرَةُ".
أين الجبابرة الأكاسرة الألى *** كنزوا الكنوز وأينَ أينَ همُ همُ
صغروا أمام العزة الكبرى التي *** هي وصفك القدسي ووصفك أعظم
ساخوا جميعًا يا إلهي لم يفت *** منهم ومن يدك العلية مجرم
من هؤلاء إذا أتوك جميعُهم *** لم يبق إلا أنت ووحدك يحكم
من هؤلاء يا ربي وقد حشرت الناس عراة حفاة غرلاً!! ثم تجلس في كرسيِّك العظيم, ثم تناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قرب, ثم تقول لهم: أنا الملك، أنا الديان, لا ظلم اليوم، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، ولا ينبغي لأحد من الجنة عنده مظلمة حتى اللطمة باليد حتى يقضيها.
ساخوا جميعًا يا إلهي لم يفت *** منهم تقي صالح أو مجرم
اللهم قنا يوم هولك الأكبر...
اللهم صل وسلم على نبينا محمد...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم اللهم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
ذهب العمر وفات.. يا أسير الشهوات.. ومضى وقتك في سهو ولهو وسبات.. بينما أنت على غيك حتى قيل مات، ثم نوديت بأعلى الصوت: هذي العرصات, هذي العرصات!!
روى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُحشر الناس يوم القيامة على أرضٍ بيضاءَ عَفْرَاءَ كقُرْصَة النَّقِي -يعني كالخبزة المصنوعة من الدقيق النقي- ليس فيها عَلَمٌ لأحد". أي علامة بناء أو أثر.
يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يُسمعهم الداعي، وينفذهم البصر وتدنو الشمس، فيبلغ الناسَ من الغم الكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون!!
ثم يُنصب الميزان فتوزن به أعمال العباد: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ).
وتُنشر دواوين الخلق، فيُعطَى كلُ إنسان كتابَه مفتوحًا: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً).
وأما الكافر والمنافق فيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره ويقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ).
وفي آخر مشاهد القيامة، يُنصب الصراط على مَتْن جهنم، وهو جِسرٌ مدحضة مَزلة، عليه خطاطيف وكلاليب وحَسَكَةُ مفلطحة، لها شوكة عقيفاء، أدقُّ من الشعر، وأحدُّ من السيف، ويُعطى المؤمنون نورَهم فيعبرون، ويُطفأ نورُ المنافقين فيسقطون، ويكون مرور الناس على الصراط، على قدر أعمالهم ومسارعتهم إلى طاعة الله في الدنيا، فمنهم من يمر كلَمْح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ثم كالريح، ثم كالفرس الجواد، ثم كركاب الإبل، ومنهم من يعدو، ثم من يمشي، ثم من يزحف، ومنهم من تَخْطَفه كَلالِيبُ جهنم فتلقيه في النار: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً).
وكلٌ واردٌ في الحشر فردًا *** وكلٌ جاء للجبار عبدًا
وكلٌ سيق يشهد عن فعال *** إذا ما الطود خر يخر هدًّا
أخوف شيء في هذه العرصات المخيفة, هم الشهود المخيفون المفجعون!! كيف لك أن تتخيل والله يقول عن هذا الشاهد المرعب، كيف والله يقول: (إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا).
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: "أتدرون ما أخبارها؟!"، فقالوا: الله ورسوله أعلم، فيقول: "إن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عَمِل على ظهرها، أن تقول: عملتَ كذا وكذا، يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها".
أخبارها الفجائعُ, أنبائها المواجعُ, كيف لأرضٍ أن تحيد عن جوابها، والله راء سامع!!
ثم يأتي الشاهد الأخوف والأكثر رعبًا وفجيعة: حين يقال لك: لا تتكلم؛ لأن هناك من هو أوثق منك, لا تتكلم، فهناك أعضاء تُجيب وتسمع!! لا تتكلم يوم يقوم الروح والملائكة صفًا، لا يتكلمون! أو تتكلم أنت, لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابًا!!
لا تتكلم, فكل عضو من أعضائك سيتحدث وكالةً عنك!! يا ويلتاه ليد بطشت بالحرام، ولقدم مشت لآثام, ويا ويلتاه لبطن غذِّي بالحرام، غذي بالحرام!!
ويا ويلتاه لكل رجل يقول الله له وهو يرجف رعبًا وخوفًا ورهقًا: أما استحييت تعصيني؟! أما استحييت تعصيني؟! وتخفي الذنب عن خلْقي, وبالعصيان تأتيني!!
ويا ويلتاه لفروج حدثت ربها يوم القيامة بانتهاكاتها، وسوءاتها, وخياناتها!!
يا ويلتاه, (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ).
يا ويلتاه لطغاة ملؤوا الأرض فسوقًا وظلمًا وعدوانًا, بأيِّ هذه الأوجه ستقابل الملك الجبار!! إلا بالذلة والصغار!!
يا ويلتاه لهذا الذبح اليومي, لهذه المسالخ اليومية, لهذه الاغتصابات التي تتم في حقوق الأمة، وفي دينها، وأموالها، وشعوبها، وأراضيها!!
يا ويلتاه لطغاة الأموال, وهم يأكلون مال الله بالباطل، ويغصبون أقوات غيرهم من أفواههم.
يا ويلتاه لهذا الطيش الفكري, لهذه الافتراقات المذهبية!
يا ويلتاه لك إن انتهى رصيدك وأفلست, وجبال السيئات لغيرك ما زالت تُكفأ عليك!! حتى تؤخذَ جميعُ سيئات غيرك فتجعل في موازين أعمالك!!
وأنَّى يفقهون!!
تجيء طوابير العصاة, ومجنونو الطغاة في العالم كله, والمجرمون من كل أمة، والظالمون والمتكبرون, والمرابون، والديوثون، والقائمون على إشاعة الفواحش بين الناس، والنمامون، والمغتابون، والمتهاونون في الصلوات، والطاعات، والأمنية الكبيرة لهم: أن لو تُسوَّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا!!
فمن غرك أيها المغرور؟! وما غرك بربك الكريم؟!
(وكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا * إن هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا).
فلا تنكر فإن الأمر جد *** وليس كما حسبت ولا ظننتَ
ولو قد جئت يوم الحشر فردا *** وأبصرت المنازل فيه شتى
لأعظمت الندامة فيه لهفًا *** على ما في حياتك قد أضعتَ
ولست تطيق أهونها عذابًا *** ولو كنت الحديد به لذبتَ
ولا تنكر فإن الأمر جد *** وليس كما حسبت ولا ظننتَ
أقسم بالله العظيم, أنه ليس لهذا العالم حل, حتى يعي أن هناك عرصات يُسأل فيها عن كل شيء, وعن كل صغيرة وكبيرة.
إنه يوم القارعة، يوم الصاخة، يوم الطامة الكبرى، يوم التغابن، يوم الزلزلة، يوم الحاقة، يوم الآزفة, إنه يوم الامتحان الأعظم!!
فيه توفى النفوس ما عملت *** ويحصد الزارعون ما زرعوا
يا لغبن يوم أحدنا وقد تعب في امتحانات الدنيا ونصب لأجلها, ثم يأتي يوم القيامة وقد أكل من صلاة يوم كذا وكذا, ولم يؤد زكاة ماله في حول كذا وكذا, يا للغبن الكبير من قوم وجوههم خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارًا حامية!!
يا حسرة الجسد المعنَّى بالأسى *** في يوم ما وقف العبيد ذهولاً
يا حسرة نفت الرقاد وأطلعت *** للشيب في رأس الوليد نصولاً
في ذلك الامتحان يؤتى الناسُ الكتبَ عن أيمانهم أو عن شمائلهم، ولن تجد أكثرهم شاكرين, بل نادمين على ما فرطوا في الكتاب!
في ذلك الامتحان, سوف لن يكون هناك أدوارُ إعادة, ولن يكون هناك دور ثان ولا ثالث.
امتحانات واحدة ونتائجها واحدة محسومة قالوا: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
فيا كل من سيلقى الله ليس بينه وبينه ترجمان: اعلم أن امتحانًا تخوضُه هذه الأيام, أو معركةَ وظيفة تتنافس عليها, أو منصبًا تتقدم إليه ليس شيئًا وأنت تقف بين يدي علام الغيوب, يذكرك بماضيك ويأخذ منك اعترافاتِك, ويقررك بفعلاتك, فما أنت صانع؟! وهل تستطيع أن تتقدم بورقة استئناف؟! لعل الكتاب عنك يتغير, هيهات!!
ويا أيها الآباء، أيها الآباء: أعيذكم بالله وأبناءَكم هذه الأيام من كل سوء ومكروه, بكلمات الله التامة, من كل عين لامة، ومن كل شيطان من شياطين الجن والإنس ومن كل هامة.
أعيذكم جميعًا من كل شيطان إنسي يريد بأولادكم هذه الأيام سوءًا, وتربصًا, وإطاحة, وانحرافًا, وضياعًا, وندامة.
وأيها الآباء: هذا زمان أصحاب الضحكات الصفراء, حتى إذا نالوا أوطارهم وتفرقوا تركوكم وأولادكم نهب الضياع.
زمان ملئت به خفافيش النهار كما ملئت فيه خفافيش الليل, زمان يعض المرء فيه على أولاده بالنواجذ.
ويا أيها الآباء: إن الكلام الذي يقال عن أولادكم قبلَ عشر سنين ليس هو الكلامَ الذي يقال عنهم في هذا الزمن, فإن هذا الزمان قد أصار سحبانَ باقلاً, وحلم الأحنف حيرة!! وما زمان يأتي إلا والذي بعده شر منه.
ويا أيها الشباب: تذكروا أن كل امتحان تخوضونه أنكم واردون في يوم تقرع فيه الأضراس!!
ثقوا أن كل امتحان جئتم إليه في موعده لم تخلفوه, وأنتم تعلمون عن أنفسكم حين ينادي المنادي: حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة, أنكم ذا إخلاف به, تذكروا أنه لن يعصمكم من الله شيء إن أراد بكم سوءًا يوم الامتحان الأعظم.
فأرِ ربك من أنفسكم خيرًا.
واتقوا الله فتقوى الله ما جاورت قلب امرئ إلا وصل.
اللهم إنا نعوذ بالله من ليلة صباحها نار جهنم, اللهم نجنا يوم الفزع الأكبر, واجعلنا ربنا من الفائزين.
اللهم أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.
التعليقات