عناصر الخطبة
1/ اليقين من أعظم نعم الله على العبد 2/ فوائد اليقين وأثره في حياة المسلم وبعد موته 3/ أعمال القلوب ومن أعظمها اليقين 4/ درجات اليقين الثلاثاهداف الخطبة
اقتباس
وحقيقة اليقين هو ظهور الشيء للقلب كأنه يراه عيانًا، فيكون المخبر به من قبل الشرع للقلب كالمرئي للعين، بحيث تتجلى حقائق الإيمان للصبر كأنه يراها رأي العين، مثل الجنة والنار والصراط والميزان وموقف القيامة والحوض وانصراف المتقين إلى الجنة وانصراف الفجار إلى النار وعذاب القبر ونعيمه، فتتضح تلك الحقائق وتتجلى للموقن، فتعيش ..
أما بعد:
عباد الله: عليكم بتقوى الله في السر والعلن، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 102، 103].
أيها المسلمون: إن نعمة الإيمان واليقين لا تعدلها نعمة؛ لأن الذي منّ الله عليه باليقين فإنه يذوق حلاوة الإيمان ويلتذ بالطاعة ويأنس بذكر الله ويبتعد عن المعصية ويكرهها، ويستغل حياته برضا واطمئنان وسكينة وانشراح؛ لأنه قد نزل اليقين في قلبه بالرضا والاطمئنان بقضاء الله وقدره، فإن أصابته ضراء ومصيبة وفقر وهم صبر واحتسب، وعلم أن ذلك من عند الله، وإن أصابته سراء وصحة وعافية شكر وحمد الله، واستعمل النعمة في طاعة الله، واستيقن أن كل ما به من نعمة فهي من الله.
عباد الله: المؤمن المستيقن هو الذي نظر إلى هذه الدنيا نظرة صحيحة، فهو يعلم أنها دار الغرور والزوال، ودار الأكدار والهموم والفراق، ودار الفتن والابتلاءات، وهي مع ذلك دار الزرع والعمل، ودار الجد والكفاح والجهاد، وحيث يُصبر المستيقنون أنفسهم على الطاعات ويكفون أنفسهم عن المحرمات يريدون الوصول إلى رضوان الله وجنته. نعم إن المؤمن المستيقن ينظر إلى هذه الدنيا نظرة احتقار وزهادة، لا نظرة نهم فيها وطلب، فلم يرضها الله لنبيه حيث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما لي وللدنيا!! ما أنا إلا كمسافر قال تحت ظل شجرة ثم قام وتركها".
أيها المسلمون: إن اليقين عبادة عظيمة، وعمل من أجلِّ أعمال القلوب التي هي الأساس وأعمال الجوارح لها تبع؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات"، والقلب هو ملك الجوارح، وهي له تبع، فإن صلح صلحت سائر الجوارح، وإن فسد فسدت، والعناية بأعمال القلوب مهمة عظيمة، فإذا صلحت القلوب صلح الحال وحصل الصدق مع الله، فيكتب الله لعباده النصر والتوفيق، وتصلح كذلك أخوة المسلمين مع بعضهم، فتسلم الصدور، ويغاث الملهوف، ويطعم الجائع.
ومن أعمال القلوب: حسن الظن بالله، والخشوع والإخلاص والصدق والخوف والرجاء والمحبة واليقين والإنابة والاستعاذة والاستغاثة والشكر والرضا والصبر وغير ذلك، وحديثنا اليوم -إن شاء الله- عن اليقين، فاليقين هو ضد الشك، وهو كمال الإيمان، وهو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فبه تفاضل العارفون وتنافس المتنافسون، وإليه شمَّر العاملون، وإذا تزوّج الصبر باليقين ولد بينهما حصول الإمامة في الدين؛ قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24]، قال سفيان: "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين".
أيها المسلمون: وقد خصّ الله أهل اليقين بخصائص عظيمة، فهم الذين ينتفعون بالآيات والبراهين؛ لقوله تعالى: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) [الذاريات: 20]، وهم المفلحون المهتدون من بين العالمين، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة: 4]، واليقين هو روح أعمال القلوب وهي أرواح أعمال الجوارح واليقين هو حقيقة الصديقية.
عباد الله: وحقيقة اليقين هو ظهور الشيء للقلب كأنه يراه عيانًا، فيكون المخبر به من قبل الشرع للقلب كالمرئي للعين، بحيث تتجلى حقائق الإيمان للصبر كأنه يراها رأي العين، مثل الجنة والنار والصراط والميزان وموقف القيامة والحوض وانصراف المتقين إلى الجنة وانصراف الفجار إلى النار وعذاب القبر ونعيمه، فتتضح تلك الحقائق وتتجلى للموقن، فتعيش معه في حِلِّه وترحاله، يصاحبه همها، فتدعوه وتسوقه وتشحذ همته إلى عمل الصالحات والمسابقة إلى الخيرات، فيزداد شوقه وحنينه ولهفه وحبه العظيم إلى الجنان هناك، حيث رؤية وجه الله الكريم المنان، حيث الحور والولدان والأنهار والجمال والكمال، هناك حيث النعيم الأبدي الذي لا يلحقه الزوال ولا الأكدار، حيث القصور والتفكه في صنوف ضيافة الرحمن الرحيم، فلا موت ولا مرض، (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الزخرف: 71].
أيها المسلمون: والموقن هو الذي يعيش كذلك خوف غضب الله ووعيده بالنار الحامية لأهل الكفر والعصيان، فيشهد بقلبه النار التي تلظَّى بسلاسلها وأغلالها وقيودها، حيث الإهانة والعذاب الأليم والذل والخزي والعار، فيعمل المؤمن الموقن في هذه الدنيا العمل المتواصل الجاد على البعد منها والحذر من معصية ربه والخوف من غضب الله، حتى لا يكون من الذين غضب الله عليهم ولعنهم ومقتهم فيكبهم في النار ولا يبالي.
اللهم انفعنا بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أكرم أولياءه بطاعته والصدق في معاملته، وأنزل في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وعمَّر أوقاتهم بالبذل لخدمة الدين وإعزاز المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
عباد الله: إن الموقن إذا نزل اليقين في قلبه بالجنة والنار والوقوف بين يدي الله، وعلم أنه محاسب ومجزي بأعماله، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47]، إن المؤمن إذا عاش بهذا التصور واليقظة والتذكر ازدادت رغبته فيما عند الله، وازداد بعدًا عن المعاصي، وازداد محاسبةً لنفسه وردعًا لها، وازداد إخلاصًا وصدقًا، فأصبحت علانيته وسره سواءً، وتعلَّق بربه تعلق المضطر المخبت المنيب الراجي لعفو مولاه، والشاعر بالفاقة والضرورة إلى رحمة الله، ويزداد الموقن احتقارًا لنفسه وازدراءً لها، فتذهب عظمة النفس وغرورها وإعجابها بذاتها، ويذهب التعالي على الناس وظلمهم، وتذهب الرغبة في مديح النفس وثنائها، والموقن يضمحل من نفسه وقلبه التهالك والركض وراء هذه الدنيا الدنية بزينتها وشهواتها، وتُمحى من نفس الموقن المنيب إلى ربه نغمة الجاه والحسب والنسب والمال والسلطان وطغيان الصحة والعافية والاغترار بالمواهب والأعوان؛ قال تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) [المؤمنون: 101].
والمستيقن المؤمن يزول عنه نتن الجاهليات والعصبيات وداء الحسد وفساد ذات البين، وبالجملة -يا عباد الله- فإن الموقن بوعد الله هو الذي يترقب الموت كل لحظة ومع كل نَفَس، فيصدق مع ربه في كل نية وكل قول وكل عمل، أمره كله لله، وحينئذٍ يحبه ربه ويرقيه ويمن عليه بالتوفيق والقبول والكرامة؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -عز وجل-: "ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه". رواه البخاري.
أيها الإخوة: واليقين درجات ثلاث؛ الأولى: علم اليقين، وهو قبول ما ظهر من الله ورسوله من الأوامر والنواهي والأخبار، وقبول ما غاب عنا من أمور المعاد وتفاصيله ومشاهد القيامة وأوصاف الجنة والنار، وقبول ما قام بالله سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله، وهو علم التوحيد.
وأما الدرجة الثانية فهي: عين اليقين، وهو المغني عن الخبر بالعيان المشاهد بالعين.
وأما الدرجة الثالثة فهي: حق اليقين، وهو إسفار صبح الكشف، وهذه الدرجة لا تُنال في هذه الدنيا إلا للرسل -عليهم الصلاة والسلام-؛ فإن نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رأى الجنة والنار بعينيه، وموسى سمع كلام الله منه إليه بلا واسطة، قال ابن القيم -رحمه الله-: نعم يحصل لنا حق اليقين، وهي ذوق ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من حقائق الإيمان المتعلقة بأعمال القلوب؛ فإن القلب إذا باشرها وذاقها صارت في حقه حق اليقين، مثل التلذذ بذكر الله، وحصول حلاوة الإيمان والأنس بمناجاة الله ودعائه وتلاوة كتابه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله-: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة".
عباد الله: وانظروا لمن حضر عنده اليقين وعاين سوق الشهادة في سبيل الله وهو في الدنيا، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- للصحابة: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض"، فبينما الصحابي الجليل الموقن عمير بن الحمام قاعد يأكل تمراته على حاجة وفاقة وجوع ألقى تمراته من يده وقال: "إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات"، فألقاها من يده وقاتل حتى قُتل، وهكذا كانت حال الصحابة؛ فإنهم قد شغفهم حب الله تعالى وحب مراده عن حب ما سواه، فنسبة أحوال من بعدهم الصحيحة الكاملة إلى أحوالهم كنسبة ما يرشح من القربة إلى ما في داخلها.
أيها الإخوة: هذا هو اليقين الذي يسوق النفوس والأرواح والقلوب لتنيب إلى الله وتخبت إليه، فما هو نصيبنا من اليقين؟! فهل حضر عندنا اليقين في الصلاة عمود الدين التي تنهى عن الفحشاء والمنكر والتي هي صلة بين العبد وربه؟! وهل حضر عندنا اليقين في القرآن الكريم كلام ربنا في تدبره واستشعار عظمته وكبير أثره؟! ففيه الهدى والشفاء والموعظة والرحمة، فهو كلام رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ قال تعالى: (فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) [طه: 123]، قال ابن عباس: "تكفّل الله لمن قرأ القرآن وعمل به أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة".
وهل حضر عندنا اليقين في بر الوالدين واستشعرنا التعبد لله ببرهما وإدخال السرور عليهما وتقديم أمرهما والحذر من التأفف منهما أو عصيانهما؟! وهل حضر عندنا اليقين في فعل المعصية ولو كانت واحدة؟! فهل تيقن العاصي أنه يسخط رب العالمين بمعصيته وأنه ربما مات وهو مقيم على ذنبه فيلقى ربه بتلك المعصية؟! وأنها سبب لقسوة القلب وطاعة الشيطان؟! وأنها ربما كانت بابًا تجر مثيلاتها؟! وأنها سبب للغفلة والحجب عن الصالحات؟! وأنها تنافي الصدق والإخلاص؟! لأن الصادق يسعى في طلب رضا محبوبه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 5، 6].
التعليقات