عناصر الخطبة
1/اليتم معناه وأنواعه 2/الحروب السبب الرئيس في مضاعفة هذه الشريحة ومتاعبها 3/رعاية الإسلام لهذه الفئة وواجب المجتمع المسلم نحوها 4/فضل رعاية الأيتام 5/اليتم ليس مبررًا للإخفاق في الحياة 6/أيتام خلدهم التاريخ وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم.اقتباس
مع أن اليتيم من الضعفاء، إلا أنه إذا وجد من مجتمعه احتواءً ورعايةً، ثم أَخَذَ بأسباب الكرامة والتسامي، وتمسَّك بحبل الله المتين واتبع هداه، فإنه يترقى في درجات الكمال حتى يبلغ ما لا يبلغه كثير ممن تربوا بين أبويهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
يا عباد الله: إن من نعم الله -تعالى- على الإنسان أن يجعل له والدين هما في غاية الحنو والعطف والرحمة به، وصدق من قال:
وإذا رحمت فأنت أم أو أب *** هذان في الدنيا هما الرحماء
ومن المصائب التي تصيب المرء أن يفقد أباه وأمه، فإن فقدهما في سن طفولته أطلق عليه اسم: "يتيم" وما أدراك ما هو اليتم!
أيها المسلمون: إن اليتم هو الحرمان؛ الحرمان من الحنان والرعاية والتوجيه والشفقة... واليتم هو الانفراد والوحدة، واليتيم هو من فَقَدَ أباه، أما من فَقَدَ أمه فإنه يسمى: "مُقْطَعًا" أو "عَجِيًا"، يقول ابن السكيت: "واليتم في البهائم موت الأم، وفي الإنس موت الأب"، "ولا يقال لمن فقد الأم من الناس يتيم، ولكن: مُقْطَعٌ"، وقد علل بعضهم ذلك بأن نفقة الولد على الأب لا على الأم... أما من فقد أباه وأمه كليهما فيسمى: "لطيمًا".
أنا يا أبي مذ أن فقدتك لم أزل *** أحيا على مر الزمان بمأتمِ
تجتاحني تلك الرياح تطيح بي *** في مهمة قفرٍ ودرب أقتَمِ
ويطلق على من فقد أباه من البشر: "يتيمًا" ما لم يحتلم، فإذا بلغ واحتلم فقد زال عنه وصف اليتم إلى غير رجعة؛ وذلك لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يتم بعد احتلام"(رواه أبو داود).
وهناك نوع آخر من اليتم خارج عن هذا المعنى الشرعي، وهو من كان والداه على قيد الحياة لكنهما مشغولان عنه مهملان له، حتى صار وحيدًا منفردًا لطيمًا رغم حياتهها، وصدق الشاعر:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من *** هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له *** أمًا تخلت أو أبًا مشغولا
عباد الله: إن أعظم الأسباب التي أفرزت هذه الشريحة وفاقمت أوضاعها هي الحروب الطاحنة بين الدول والتي يشعل فتيلها الظلمة ويوقد نارها الطغاة، فتحصد النفوس والأرواح وتخلف الأرامل والأيتام، ويصطلي الجميع بويلاتها، مما جعل بعض المؤسسات العالمية تحدد يوما عالميا لهذه الفئة ليلفتوا انتباه العالم والشعوب إليها.
وهذا يحتم علينا نحن المسلمين أن نبين أن ديننا السماوي لم يغفل في تشريعاه هذه الشريحة واهتمامه بها أيما اهتمام، ورعى مصالحهم أيمًا رعاية، ويكفي أنه قد تكرر لفظ اليتيم في القرآن بضعًا وعشرين مرة، ولم تخل مرة من الوصاية بهم والاهتمام بشأنهم وتحريم الإساءة لهم، وحسبك قوله -تعالى-: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ)[الضحى: 9].
أيها المؤمنون: إن عبء العناية بالأيتام يقع على عاتق المجتمع المسلم كله؛ فإن الصبي إذا مات أبوه صار رجال المسلمين كلهم له آباء، ومن ماتت أمه صارت نساء المسلمين جميعهن له أمهات؛ فالجميع مسئول عن رعايته وحمايته؛ فأول دور للمجتمع نحو اليتيم الإحسان إليه وتعليمه وتربيته وتقويمه، كي يشب صالحًا مصلحًا، لا منحرفًا ولا فاسدًا، فيضمه أولى أقاربه إلى بيته وإلى طعامه وشرابه، ويعامله كما يعامل أولاده، فإن لم يكن له أقارب فليضمه رجل من المسلمين يتقي الله فيه، قال -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى)[النساء: 36]، وقال -سبحانه-: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا)[الإنسان: 8]، وكان عبد الله بن عمر "لا يأكل طعامًا إلا وعلى خوانه يتيم"(رواه البخاري في الأدب).
ومن واجبات المجتمع المسلم أن يحفظ لليتيم ماله وأملاكه حتي يبلغ ويقوى، قال -تعالى-: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)[الأنعام: 152]، وأمر أولياء الأيتام بإصلاح أموالهم: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ...)[البقرة: 220]، وخوَّف القرآن وحذَّر من أكل مال اليتيم: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[النساء: 10]، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة"(رواه ابن ماجه)، وفي لفظ لابن حبان: "أحرج مال الضعيفين...".
وعلى المجتمع المسلم عامة وأولياء الأيتام خاصة أن يدربوا الأيتام على القيام بأمور أنفسهم، كحفظ المال وترشيد إنفاقه... فإن أدركوا منهم فقهًا ونضجًا فليدفعوا إليهم ممتلكاتهم يقول -تعالى-: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)[النساء: 6].
عباد الله: إن لكافل اليتيم عند ربه من الأجور والفضائل ما لا يحصى، فأعظم ذلك كله الجنة، وما أدراك ما الجنة! يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من ضم يتيمًا له أو لغيره حتى يغنيه الله عنه، وجبت له الجنة"(رواه الطبراني في الأوسط)، بل هو رفيق النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها، فهو القائل: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا"، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى(البخاري)، ولله در القائل:
يا كافل الأيتام، كفُّكَ واحةٌ *** لا تُنْبِت الأشواك والزقومَ
أبشر بصحبةِ خيرِ مَنْ وطيء الثرى *** في جنة كمُلتْ رضًا ونعيما
ومن فضائل رعاية الأيتام: لين القلب وقضاء الحوائج، فعن أبي الدرداء أن رجلًا شكى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسوة قلبه، فقال له: "أدن اليتيم منك، وامسح برأسه، وأطعمه من طعامك؛ يلن قلبك، وتقدر على حاجتك".
وكفالة اليتيم نهر لا ينقطع من الحسنات؛ فعن أبي أمامة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من مسح رأس يتيم أو يتيمة، لم يمسحه إلا لله، كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات"(رواه أحمد).
عباد الله: مع أن اليتيم من الضعفاء، إلا أنه إذا وجد من مجتمعه احتواء ورعاية، ثم أخذ بأسباب الكرامة والتسامي، وتمسَّك بحبل الله المتين واتبع هداه، فإنه يترقى في درجات الكمال حتى يبلغ ما لا يبلغه كثير ممن تربوا بين أبويهم.
فلم يكن اليتم أبدًا -ولن يكون- مبررًا للفشل والإخفاق في الحياة، وما هو إلا ابتلاء كغيره من الابتلاءات، كمن وُلِد أعمى أو أعرجًا... أو كمن ابتلي بالفقر أو بالمرض... وكم رأينا من هؤلاء من بزغ وبرع حتى بذ أقرانه جميعًا.
وكفى من فقد أبويه أو أحدهما أن الولد ينشأ يعتمد على أبيه وأمه يقول: أبي، أمي، أما اليتيم فلا يتعلق إلا بربه، ولا يقول إلا: ربي ربي... فيكون هذا سر نبوغه وتفوقه... وصدق القائل:
كم رافلٍ في نعمةِ الأبوين، لم *** يسلك طريقًا للهدى معلوما
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: إن أول عظماء الأيتام وأفضلهم أجمعين هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي امتن عليه ربه قائلًا: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)[الضحى: 6]؛ فمات أبوه وهو في بطن أمه، وماتت أمه وهو في السادسة من عمره، فنشأ -صلى الله عليه وسلم- يتيمًا، لكنه علَّم الدنيا، وصار خير الأولين والأخرين.
نِعم اليتيم بدت مخايل فضله *** واليتم رزق بعضه وذكاء
ومن نوابغ الأيتام: الإمام الشافعي -رحمه الله-، فقد مات أبوه قبل أن يتم العامين، وربته أمه في فقر وقلة وشدة... فانظر كيف صار إمام زمانه وصاحب مذهب فقهي متبوع، قال عنه الإمام أحمد لولده: "يا بني: كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس".
ومنهم الإمام أحمد بن حنبل نفسه، الذي لم تكتحل عينه برؤية أبيه؛ فقد مات قبل ولادته، ونشأ كذلك في حاجة وفاقة، لكنه أخذ بأسباب العلم والعمل حتى أصبح إمام أهل السنة، ومحدثًا بارعًا جمع آلاف الأحاديث في مسنده، وهو كذلك صاحب المذهب الفقهي.
وهذا الإمام البخاري يتذوق طعم اليتم؛ فما أقعده يتمه ولا منعه أن يؤلف أصح كتاب على وجه الأرض بعد القرآن؛ فما كان اليتم يومًا مانعًا ولا حائلًا دون بلوغ الكمال، بل لربما كان سببًا في إحرازه.
فاللهم احفظ أيتام المسلمين، واصنعهم على عينك، وتولهم بولايتك، ونجهم من كل سوء هبنا القيام بواجبنا نحوهم...
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
التعليقات