عناصر الخطبة
1/المقصود بحسن العشرة وأداء الحقوق في الإسلام. 2/أهمية حسن العشرة وأداء الحقوق وأثرهما في الاستقرار الزوجي. 3/بعض صور ومظاهر العشرة الحسنة بين الزوجين. 4/النتائج السيئة لسوء العشرة بين الزوجين والتلاعب بالحقوق. 5/إرشاد الأزواج إلى حماية حصون الحياة الزوجية.اقتباس
مِنَ النَّتَائِجِ السَّيِّئَةِ لِسُوءِ الْعِشْرَةِ: كَثْرَةُ الطَّلَاقِ؛ فَنَحْنُ فِي وَاقِعٍ تَتَابَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ حَتَّى صَارَ ظَاهِرَةً مُقْلِقَةً فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُسْلِمَةِ، وَغَدَا سَبَبًا لِمُشْكِلَاتٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ وَأُسَرِيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَلَوْ أَنَّكُمْ تَتَبَّعْتُمْ هَذِهِ الظَّاهِرَةَ لَوَجَدْتُمْ أَكْثَرَ أَسْبَابِهَا سُوءَ الْعِشْرَةِ، وَالتَّقْصِيرَ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الزَّوَاجَ سُنَّةُ الْأَحْيَاءِ، وَطَرِيقُ الْبَقَاءِ وَالنَّمَاءِ، وَهُوَ رَابِطَةٌ يُرَادُ مِنْهَا الْوُصُولُ إِلَى الرَّاحَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَإِيلَادُ الذُّرِّيَّةِ الَّتِي تَتَرَبَّى فِي مَحْضَنٍ آمِنٍ، وَجَوٍّ مُطْمَئِنٍّ سَاكِنٍ. غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْأَهْدَافَ النَّبِيلَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي ظِلِّ حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ الَّتِي شَرَعَهَا دِينُنَا الْحَنِيفُ.
فَمَا الْمُرَادُ بِحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ فِي الْإِسْلَامِ؟
عِبَادَ اللَّهِ: إِذَا فَتَحْنَا كِتَابَ اللَّهِ -تَعَالَى- وَجَدْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلَهُ -تَعَالَى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[النِّسَاءِ:19]. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "أَيْ: طَيِّبُوا أَقْوَالَكُمْ لَهُنَّ، وَحَسِّنُوا أَفْعَالَكُمْ وَهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا، فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْلَهُ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[الْبَقَرَةِ:228].وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي".
وَكَانَ مِنْ أَخْلَاقِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ جَمِيلُ الْعِشْرَةِ، دَائِمُ الْبِشْرِ، يُدَاعِبُ أَهْلَهُ، وَيَتَلَطَّفُ بِهِمْ وَيُوَسِّعُهُمْ نَفَقَتَهُ، وَيُضَاحِكُ نِسَاءَهُ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يُسَابِقُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، يَتَوَدَّدُ إِلَيْهَا بِذَلِكَ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "وَجِمَاعُ الْمَعْرُوفِ: الْكَفُّ عَمَّا يُكْرَهُ، وَإِعْفَاءُ صَاحِبِ الْحَقِّ عَنْ مُؤْنَةِ الطَّلَبِ، وَتَأْدِيَتُهُ بِلَا كَرَاهَةٍ".
فَحُسْنُ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- إِذَنْ تَعْنِي: أَنْ يَفْعَلَ الزَّوْجُ مَعَ زَوْجَتِهِ مَا يُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَيْهَا، وَيَدْفَعُ الشُّرُورَ عَنْهَا، وَيُعْطِيهَا الْحُقُوقَ الشَّرْعِيَّةَ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْعِشْرَةِ وَالْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الزَّوْجَةُ مَعَ زَوْجِهَا.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ حُسْنَ الْعِشْرَةِ وَأَدَاءَ الْحُقُوقِ لَهُمَا أَهَمِّيَّةٌ كَبِيرَةٌ فِي اسْتِقْرَارِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَإِبْعَادِ الْمُكَدِّرَاتِ عَنْهَا، فَاللَّهُ -تَعَالَى- لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَلَا يَشْرَعُ إِلَّا مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَمَنْفَعَةٌ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[الْمَائِدَةِ:50].
فَحُسْنُ الْعِشْرَةِ وَالْقِيَامُ بِالْحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ يُقَلِّلُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَيُسَهِّلُ عِلَاجَهَا إِنْ طَرَأَتْ؛ لِأَنَّ كُلَّ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الزَّوْجِيَّةِ يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ فَيُؤَدِّيهِ، وَمَا لَهُ مِنْ حَقٍّ فَلَا يَتَجَاوَزُهُ.
قَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي: "تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً صَغِيرَةً، فَلَمَّا بَنَيْتُ بِهَا، قَالَتْ: عَرِّفْنِي خُلُقَكَ لِأُحْسِنَ مُدَارَاتَكَ، فَعَرَّفْتُهَا، فَبَقِيتُ سَنَةً مَعَهَا يَزْدَادُ شَغَفِي بِهَا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَنَةٍ دَخَلْتُ يَوْمًا فَإِذَا عَجُوزٌ قَاعِدَةٌ، فَسَأَلْتُهَا عَنْهَا، فَقَالَ: هِيَ أُمِّي، فَدَعَتْ، وَقَالَتْ: كَيْفَ رِضَاكَ عَنْ صَاحِبَتِكَ؟ فَشَكَرْتُهَا، فَقَالَتْ: أَسْوَأُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ خُلُقًا إِذَا حَظِيَتْ عِنْدَ الزَّوْجِ، وَإِذَا وَلَدَتْ، فَإِنْ رَابَكَ شَيْءٌ فَعَلَيْكَ بِالسَّوْطِ، فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنَّهَا ابْنَتُكِ، جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا؛ لَقَدْ كَفَيْتِنِي الرِّيَاضَةَ".
وَحُسْنُ الْعِشْرَةِ وَالْقِيَامُ بِالْحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ: يُعَمِّقُ الْحُبَّ وَالْمَوَدَّةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ غَايَاتِ الزَّوَاجِ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الرُّومِ:21].
وَيَبْقَى هَذَا الْحُبُّ حَالَ الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَانْظُرُوا فِي حَالِ رَسُولِ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَعَ زَوْجَتِهِ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-:
قَالَتْ عَائِشَةُ عَنْ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَيُكْثِرُ الثَّنَاءَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى فُلَانَةَ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَةَ خَدِيجَةَ، اذْهَبُوا بِهِ إِلَى بَيْتِ فُلَانَةَ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ خَدِيجَةَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا).
وَحُسْنُ الْعِشْرَةِ وَالْقِيَامُ بِالْحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ: يُعِينُ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْأَوْلَادِ وَتَرْبِيَتِهِمْ تَرْبِيَةً حَسَنَةً، لَيْسَ فِيهَا ضِيقٌ وَلَا مُشْكِلَاتٌ تُكَدِّرُ صَفَاءَ الطُّفُولَةِ، وَتُورِثُهَا الشَّقَاءَ وَالْعَنَاءَ، فَحِينَ يَرَى الْأَطْفَالُ حَيَاةَ الصَّفَاءِ بَيْنَ أَبَوَيْهِمْ يُرَسِّخُ ذَلِكَ فِي أَذْهَانِهِمْ طِيبَ الْحَيَاةِ فِي ظِلِّ الْأُسْرَةِ.
فَمَا شُعُورُهُمْ وَهُمْ يَرَوْنَ أَبَاهُمْ يُكْرِمُ أُمَّهُمْ وَيَبَرُّهَا، وَيَرَوْنَ أُمَّهُمْ تُطِيعُ أَبَاهُمْ وَتَسُرُّهُ، وَقَدْ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟، قَالَ: "الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).
كَمَا أَنَّ أُسْرَتَيِ الزَّوْجَيْنِ تَقْوَى الرَّابِطَةُ بَيْنَهُمَا، وَيُشَجِّعُ ذَلِكَ عَلَى التَّوَاصُلِ فِي الْمُصَاهَرَةِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَامُ: إِنَّ لِحُسْنِ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَظَاهِرَ وَصُوَرًا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ:
فَمِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ وَالْمَظَاهِرِ:
الطَّاعَةُ مِنَ الزَّوْجَةِ، وَالْإِكْرَامُ مِنَ الزَّوْجِ، فَالزَّوْجَةُ حِينَ تُطِيعُ زَوْجَهَا فِي حُدُودِ الْمَشْرُوعِ زَوْجَةٌ صَالِحَةٌ حَسَنَةٌ الْعِشْرَةِ، قَالَ -تَعَالَى-: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)[النِّسَاءِ:34].
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "خَيْرُ النِّسَاءِ تَسُرُّكَ إِذَا أَبْصَرْتَ، وَتُعْطِيكَ إِذَا أَمَرْتَ، وَتَحْفَظُ غَيْبَتَكَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِكَ"(رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ).
وَالزَّوْجُ عِنْدَمَا يُكْرِمُ زَوْجَتَهُ وَيُحْسِنُ إِلَيْهَا فَهُوَ زَوْجٌ كَرِيمٌ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: "لَا يُكْرِمُ النِّسَاءُ إِلَّا كَرِيمٌ، وَلَا يَهِينُهُنَّ إِلَّا لَئِيمٌ".
وَهَذَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ يَقُولُ فِي زَوْجَتِهِ رَمْلَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ:
تَجُولُ خَلَاخِيلُ النِّسَاءِ وَلَا أَرَى *** لِرَمْلَةَ خَلْخَالًا يَجُولُ وَلَا قُلْبَا
فَلَا تُكْثِرُوا فِيهَا الْمَلَامَ فَإِنَّنِي *** تَخَيَّرْتُهَا مِنْهُمْ زُبَيْرِيَّةً قَلْبَا
أُحِبُّ بَنِي الْعَوَّامِ طُرًّا لِحُبِّهَا *** وَمِنْ أَجْلِهَا أَحْبَبْتُ أَخْوَالَهَا كَلْبَا
إِذَا نَزَلَتْ أَرْضًا تُحَبِّبُ أَهْلَهَا *** إِلَيْنَا وَإِنْ كَانَتْ مَنَازِلُهَا حَرْبَا
وَمِنْ صُورَةِ حُسْنِ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمَظَاهِرِهَا: الصَّبْرُ عَلَى الْقُصُورِ، وَتَرْكُ الِاسْتِقْصَاءِ، وَتَتَبُّعِ الْعَثَرَاتِ، وَتَصَيُّدِ الزَّلَّاتِ.
فَالْمَرْأَةُ لَا تَكْمُلُ فِي صِفَاتِهَا؛ فَقَدْ يُوجَدُ عِنْدَهَا قُصُورٌ، فَالزَّوْجُ الْكَرِيمُ يَسْتُرُ ذَلِكَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ فَضَائِلِهَا وَخِلَالِهَا الْعَذْبَةِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النِّسَاءِ:19].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَالزَّوْجَةُ الْكَرِيمَةُ لَا تَتَبَّعُ عَوْرَاتِ زَوْجِهَا، وَلَا تَتَصَيَّدُ هَفَوَاتِهِ، وَلَا تَسْتَقْصِي فِي مُطَالَبَتِهَا بِحُقُوقِهَا، بَلْ تَغُضُّ وَتَصْبِرُ؛ حَتَّى تَنَالَ رِضَا زَوْجِهَا؛ وَبِذَلِكَ تُرْضِي رَبَّهَا وَتَنْفَعُ نَفْسَهَا.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَحَصَّنَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا، دَخَلَتْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).
وَعَنْ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي عَمَّتِي قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي بَعْضِ الْحَاجَةِ، فَقَالَ: "أَيْ هَذِهِ، أَذَاتُ بَعْلٍ؟" قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "كَيْفَ أَنْتِ لَهُ؟" قَالَتْ: مَا آلُوهُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ، قَالَ: "فَانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُصْلِحَنَا، وَيُصْلِحَ زَوْجَاتِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ لِسُوءِ الْعِشْرَةِ وَالتَّلَاعُبِ بِالْحُقُوقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ نَتَائِجَ سَيِّئَةً، وَآثَارًا سَلْبِيَّةً، فَمِنْ ذَلِكَ:
كَثْرَةُ الْخِلَافَاتِ الْمَنْزِلِيَّةِ، وَحِدَّةُ التَّنَازُعِ فِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَهَذِهِ نَتِيجَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لِلْبُعْدِ عَنِ الْعِشْرَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الشَّارِعُ الْحَكِيمُ، وَالْخُلُقُ الْكَرِيمُ الْقَوِيمُ.
وَلَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ -مَعَاشِرَ الْفُضَلَاءِ- كَمْ يَئِنُّ وَاقِعُنَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ؛ حَتَّى يَكْثُرَ الْخِصَامُ، وَتَرْتَفِعَ الْأَصْوَاتُ، وَيَشْتَدَّ الْعِرَاكُ، وَيَتَدَخَّلَ الْأَقَارِبُ وَالْجِيرَانُ، وَكَمْ فِي الْمَحَاكِمِ مِنْ قَضَايَا خِلَافٍ بَيْنَ أَزْوَاجٍ وَزَوْجَاتِهِمْ!
أَمَا إِنَّهُمْ لَوِ اتَّبَعُوا النُّورَ الْقُرْآنِيَّ وَالْهَدْيَ النَّبَوِيَّ لَمَا وَقَعُوا فِي هَذَا الْعَنَاءِ، وَلَا وَرَدُوا هَذَا الشَّقَاءَ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)[طه:123].
وَمِنَ النَّتَائِجِ السَّيِّئَةِ لِسُوءِ الْعِشْرَةِ: الْمَيْلُ عَنِ الطَّرِيقِ السَّوِيِّ إِلَى غَيْرِهِ، وَالِانْحِرَافُ عَنْ سَبِيلِ الْعِفَّةِ إِلَى حَمْأَةِ الْفَاحِشَةِ؛ فَقَدْ يُوجَدُ أَزْوَاجٌ رَقَّتْ دِيَانَتُهُمْ، وَقَلَّتْ مُرَاقَبَتُهُمْ لِرَبِّهِمْ يَحْصُلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ زَوْجَاتِهِمْ خِلَافٌ فَيَهْجُرُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ زَوْجَتَهُ وَيَذْهَبُ لِقَضَاءِ وَطَرِهِ عِنْدَ غَيْرِهَا. وَقَدْ تُوجَدُ زَوْجَاتٌ تَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ؛ وَهُنَا نُدْرِكُ سِرَّ الْوَصَايَا النَّبَوِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ؛ كَقَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ فَبَاتَ غَضْبَانًا عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنَ النَّتَائِجِ السَّيِّئَةِ لِسُوءِ الْعِشْرَةِ: كَثْرَةُ الطَّلَاقِ؛ فَنَحْنُ فِي وَاقِعٍ تَتَابَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ حَتَّى صَارَ ظَاهِرَةً مُقْلِقَةً فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُسْلِمَةِ، وَغَدَا سَبَبًا لِمُشْكِلَاتٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ وَأُسَرِيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَلَوْ أَنَّكُمْ تَتَبَّعْتُمْ هَذِهِ الظَّاهِرَةَ لَوَجَدْتُمْ أَكْثَرَ أَسْبَابِهَا سُوءَ الْعِشْرَةِ، وَالتَّقْصِيرَ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ.
وَلَوْ تَدَبَّرْتُمْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُتَحَدِّثَتَيْنِ عَنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ وَهُمَا قَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ-: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الْبَقَرَةِ:228]. وَقَوْلُهُ -تَعَالَى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النِّسَاءِ:19]؛ إِنَّكُمْ لَوْ تَأَمَّلْتُمْ فِيهِمَا لَوَجَدْتُمُوهُمَا فِي سِيَاقٍ يَتَحَدَّثُ عَنِ الطَّلَاقِ، فَكَأَنَّ فِي ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تَرْكَ هَذَا الْأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ يُؤَدِّي إِلَى الطَّلَاقِ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْفُضَلَاءُ: نَقُولُ لِكُلِّ زَوْجٍ: إِذَا كُنْتَ حَرِيصًا عَلَى حِمَايَةِ حُصُونِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ:
فَأَحْسِنْ عِشْرَةَ زَوْجَتِكَ، وَأَدِّ حُقُوقَهَا، وَسَتَقْطِفُ ثَمَرَةَ ذَلِكَ رَاحَةً وَسَعَادَةً، وَاسْتِقْرَارًا وَطُمَأْنِينَةً، وَصَلَاحًا فِي الذُّرِّيَّةِ، وَسَتَرَى حَيَاتَكَ الزَّوْجِيَّةَ حِصْنًا مَنِيعًا عَنِ الشُّرُورِ الَّتِي تُفْسِدُ هَذِهِ الْعَلَاقَةَ، وَتُكَدِّرُ صَفَاءَهَا، وَاللَّهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطَّلَاقِ:4].
وَإِيَّاكَ أَنْ تَهْدِمَ أُسْرَتَكَ بِيَدَيْكَ، وَتَجُرَّ مَصَائِبَ هَدْمِهَا عَلَيْكَ، وَتَقْضِيَ عَلَى سَعَادَةٍ قَدْ كُنْتَ بَدَأْتَ تَشْيِيدَ بُنْيَانِهَا، وَتَوْطِيدَ أَرْكَانِهَا، فَتَكُونُ كَالَّتِي (نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)[النَّحْلِ:92].
فَاتَّقُوا اللَّهَ -عِبَادَ اللَّهِ- وَأَحْسِنُوا الْعِشْرَةَ الزَّوْجِيَّةَ، وَأَدُّوا الْحُقُوقَ الشَّرْعِيَّةَ، وَاعْرِفُوا أَهَمِّيَّةَ ذَلِكَ وَأَثَرَهُ، وَنَتَائِجَ سُوءِ الْعِشْرَةِ وَضَرَرَهُ، وَاحْمُوا حُصُونَ هَذِهِ الرَّابِطَةِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ، وَبِمَا أَرْشَدَكُمْ إِلَيْهِ نَبِيُّكُمْ.
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ الْأَزْوَاجَ لِحُسْنِ عِشْرَةِ الزَّوْجَاتِ، وَأَنْ يَجْعَلَ الزَّوْجَاتِ حَافِظَاتٍ صَالِحَاتٍ قَانِتَاتٍ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى النِّعَمِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات