الوقافون عند آيات الله-2

إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني

2024-09-23 - 1446/03/20
عناصر الخطبة
1/تأييد الله رُسُله بالمعجزات والبراهين 2/من معجزات القرآن الكريم 3/من جوانب عظمة القرآن 4/أبو بكر الصديق وقَّاف عند آيات الله تعالى 5/الفاروق عمر والوقوف عند آيات القرآن العظيم 6/أعظم الممتثلين لأمر ربِّ العالمين والوقَّافين عند حدوده وآياته.

اقتباس

لم يكن الوقوف عند آيات الله خاصًّا بكبار الصحابة فحسب؛ بل هذا ديدن سلف الأمة -عليهم رحمة الله-، ولن يصلح حال آخر الأمة إلا بما صلح به أولها، فعودوا لتعظيم كتاب الله وسُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتسعدوا وتنتصروا...

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحمد لله الذي عزَّ وارتفع، وذلَّ كل شيء لعظمته وخضع، رفَع مَن شاء من عباده ووضع، فتفرق الناس إلى عاصٍ وطائع، وعد بجنته من سلك طريق الهدى واتَّبَع، وتوعَّد بالنار لمن لهواه وشيطانه خضع.

 

جعل الدلائل والبراهين الواضحة على عظمته، ففي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، فسبحانه وبحمده، ما أعظم حلمه! وما أكثر فضله! عمَّ خيره، ولم يسع الخلق غيره، خلق الناس من العدم وربَّاهم بالنعم، ودلَّهم على طريق سعادتهم ونجاتهم، جعل الراحة والطمأنينة والسلام لمن اختار الإسلام والشفاء، والنكد وضيق البال لمن خالف سيد الأنام -عليه الصلاة والسلام-.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادةً نحيا ونموت ونُبعَث عليها برحمة الله وفضله، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه.

 

أمَّا بعد: عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، فالتقوى حمت أولياء الله من محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، استقربوا الأجل فبادروا العمل، وكذبوا الأمل فلاحظوا الأجل، عباد الله بالتقوى تُستجلَب الرحمات، وتتنزَّل الخيرات، وتُفتَح للأمة البركات؛ قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف: 96].

 

أيَّد الله رُسُله بالمعجزات والبراهين، لتؤيدهم وتبيّن صدقهم للعالمين، وأنزل مع كل رسول حجةً تناسب أهل زمانه، وكان من معجزات رسولنا -صلى الله عليه وسلم- الكتاب المبين الذي احتفى به ربُّ العالمين، فهو كلام الله -تعالى-، والمنزَّل على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- بواسطة جبريل -عليه السلام- المعجز بلفظه ومعناه، المُتعبَّد بتلاوته، المُتحدَّى بأقصر سورة منه، المنقول إلينا بطريق التواتر، المكتوب في المصاحف من سورة الفاتحة إلى سورة الناس.

 

قال الإمام السعدي -رحمه الله- في مقدمة تفسيره: "جعل الله القرآن برحمته هدًى للناس عمومًا، وللمتقين خصوصًا، من ضلال الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والتقوى والعلم، أنزله شفاءً للصدور من أمراض الشبهات والشهوات، يحصل به اليقين والعلم في المطالب العاليات، وشفاء للأبدان من أمراضها وعللها وآلامها وأسقامها.

 

وأخبر أنه لا ريب فيه، ولا شكَّ فيه بوجه من الوجوه، وذلك لاشتماله على الحق العظيم في أخباره وأوامره ونواهيه، وأنزله مباركًا، فيه الخير الكثير والعلم الغزير، والأسرار البديعة، والمطالب الرفيعة، فكل بركة وسعادة تُنال في الدنيا والآخرة، فسببها الاهتداء به واتباعه.

 

والقرآن هادٍ لدار السلام، مُبين لطريق الوصول إليها، وحاثٌّ عليها، كاشف عن الطريق الموصلة إلى الجحيم ومُحذِّر منها؛ (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)[هود: 1].

 

 أقسم الله بالقرآن ووصفه بأنه مجيد، والمجد سعة الأوصاف وعظمتها، ووصفه بأنه ذو الذكر؛ أي: يتذكر به العلوم الإلهية، والأخلاق الجميلة، والأعمال الصالحة، ويعظ به من يخشى، أمر الله بتدبُّر كتابه؛ لأن تدبُّره مِفْتاح كل خير، محصل للعلوم والأسرار.

 

 فلله الحمد والشكر والثناء الذي جعل كتابه هدًى وشفاءً ورحمةً ونورًا، وتبصرةً وتذكرةً وبركةً وهدًى وبشرى للمسلمين، فحقيق على كل عبد أن يبذل جهده، ويستفرغ وسعه في تعلُّمه وتفهُّمه بأقرب الطرق الموصلة إلى ذلك".

 

عباد الله: عظمة القرآن مستمدة من قائله -جَلَّ جلاله- وتقدَّست أسماؤه، كان عظيم التأثير، آخذًا بلُبِّ من قرأه، قائدًا لكثير من الناس للطريق القويم.

 

وها هو الصدِّيق -رضي الله عنه- وقَّاف عند آيات الله، مُعظِّم لأمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي قصة الإفك يتلقَّى الناس ويتلقفون وينقلون بلا بينة ولا تثبُّت الجرم الكبير والبهتان العظيم حين تُرْمى الطاهرة العفيفة بما ليس فيها، ويتحسَّر الأب الشيخ الكبير ويقول بألم وحرقة: "والله ما رضينا بها في الجاهلية؛ فكيف نرضى بها في الإسلام".

 

ثم يأتي الفرج من الله وتتنزَّل الآيات ببراءتها -رضي الله عنها- وعمَّن ترضَّى عنها، وكان من المتجرئين على أُمِّ المؤمنين مسطح بن أثاثة -رضي الله عنه- قريبه والذي يتولى الصدِّيق النفقة عليه، فحلف الصديق ألَّا يُنفِق عليه وحُقَّ له، ولكنَّه نكث يمينه ورجع ينفق عليه ولكن لِمَ؟ لأن القرآن ينزل آمِرًا بالعفو فيمتثل؛ قال -تعالى-: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)[النور: 22]، فقال: "بلى، أُحِبّ أن يغفر الله لي"، فما أعظم امتثالهم! حتى وإن خالف رغباتهم تلك الطاعة الحقة والوقوف عند آيات الله وحدوده.

 

وحين نزل قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الحجرات: 2]، فكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- لا يكلم رسول الله إلا كأخي السرار، وما كان عمر -رضي الله عنه- يسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ثم نزل قول الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)[الحجرات: 3].

 

وفي اليوم الذي أظلمت فيه المدينة بوفاة نبيِّها -عليه الصلاة والسلام- كما يقول أنس؛ قال المغيرة لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: يا عمر، مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: كذبتَ، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يموت حتى يفني الله المنافقين، ثم جاء أبو بكر فرفع الحجاب فنظر إليه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم أتاه مِن قِبَل رأسه فحدرناه، فقبَّل جبهته، ثم قال: وانبيَّاه! ثم رفع رأسه فحدرناه وقبَّل جبهته، ثم قال: واصفياه! ثم رفع رأسه وحدرناه وقبَّل جبهته وقال: وا خليلاه! مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

وخرج إلى المسجد وعمر يخطب الناس ويتكلم ويقول: إن رسول الله لا يموت حتى يفني الله المنافقين، فتكلَّم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله يقول: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)[الزمر: 30]، وقال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[آل عمران: 144]، ثم قال: "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن يعبد الله فإن الله حي لا يموت".

 

فقال عمر: أو إنها في كتاب الله، فجثا على ركبتيه واسترجع، والذي جعله يتراجع من كلامه أنه وقَّاف عند آيات الله.

 

وعند البخاري من حديث ابن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الجد بن قيس، وكان من النفر الذين يُدنيهم عمر، فقال عيينة لابن أخيه: استأذِنْ لي عليه؛ قال: ابن عباس فاستأذن الجد لعيينة فأذن عمر، فلما دخل قال: هيه يا ابن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر حتى هَمَّ أن يُوقع به، فقال له: الجد بن قيس: يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيِّه: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين. يقول ابن عباس: "والله ما جاوَزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله".

 

عباد الله: لم يكن الوقوف عند آيات الله خاصًّا بكبار الصحابة فحسب؛ بل هذا ديدن سلف الأمة -عليهم رحمة الله-، ولن يصلح حال آخر الأمة إلا بما صلح به أولها، فعودوا لتعظيم كتاب الله وسُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتسعدوا وتنتصروا.

 

فهذا أنس بن مالك قائم يسقي الخمر أبا طلحة وفلانًا وفلانًا إذ جاء رجل فقال: هل بلغكم الخبر، فقالوا: وما ذاك؟ قال: حُرِّمت الخمر؛ قالوا: أهرِقْ هذه القلال يا أنس؛ قال: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل، وأراقوا الخمر في طرقات المدينة، أولئك أناس عظَّمُوا الله فوقفوا عند آياته.

 

وحين أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس بالنفير يوم تبوك لم يبقَ في المدينة إلا العَجَزة والضَّعَفة ومَن عذَرهم الله أو مَن أمرَهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبقاء في المدينة؛ كعلي بن أبي طالب أو منافقين معلومي النفاق؛ كما يقول كعب بن مالك.

 

وحين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة ألَّا يُخاطبوا الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت لم يخاطبهم أحد، استمع لوصف حالهم؛ (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[التوبة: 118].

 

وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -عليه السلام-: "لا والذي نفسي بيده حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك"، فقال عمر: فإنه الآن، واللهِ لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "الآن يا عمر".

 

وما أجمل كلام ابن مسعود -رضي الله عنه- وهو يقول: "إذا سمعت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؛ فأرعها سمعك؛ فإنه خيرٌ تُؤمَر به، أو شَرٌّ تُنهى عنه"!

 

والذي ينبغي على العبد أن يكون وقَّافًا عند آيات الله وحدوده، فيمتثل الأمر ويجتنب النهي، ويرضى ويسلم تمام التسليم؛ قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا)[الأحزاب: 36]، وقال -تعالى-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء: 65].

 

لقد أرانا الله من آياته ما يُوجِب تعظيمه، وأرانا من آثار رحمته ما يجعلنا نتعلَّق بعظيم رحمته؛ قال -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)[الشورى: 28]، فأنزل الغيث واهتزَّت الأرض وربت؛ قال -تعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[فصلت: 39، 40].

 

وأعظم الممتثلين لأمر ربِّ العالمين والوقَّافين عند حدوده وآياته هم رسله -عليهم الصلاة والسلام-، فيحكي الله عن أبينا الخليل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[البقرة: 131]، ويدعو لأبيه ويستغفر له، فلما تبيَّن عداوته تبرَّأ منه؛ قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)[التوبة: 114].

 

 يأمره ربه أن يُبْقِي ولده وأمه عند البيت الحرام فيمتثل، يتشوَّق للولد، فلما بلغ معه السعي حتى أُمِرَ بقتله فاستسلم للأمر ثم جاء الفرج؛ قال -تعالى-: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)[الصافات: 100 - 107]؛ فكان الخليل أمة؛ لأنه كان وقَّافًا عند أوامر الله.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، محمد وآله وصحبه ومن اقتفى.

 

أما بعد: عباد الله: اتقوا الله، واعلموا أن رسولكم -صلى الله عليه وسلم- كان أعظم الوقَّافين والمُعظِّمين لآيات الله.

 

سُئلت عائشة -رضي الله عنها- كما عند البخاري ومسلم عن خُلُق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: "كان خُلُقه القرآن"، فلقد عفا عن ابن عمِّه المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب الذي ناصبَه العداء عشرين عامًا بعد أن أعرض عنه وتنحَّى عنه حين تأوَّل القرآن، وقال: لا تثريب يا رسول الله، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تثريب يا أبا سفيان"، ثم أسلمه لعليٍّ وقال له: "عَلِّم ابن عمِّك الوضوء والسُّنة".

 

وامتثل أمر الله في زيد بن حارثة ودعوته لأبيه لما جاء قول -تعالى-: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ)[الأحزاب: 5]، وترك زيد بن محمد وتزوَّج زوجة مُتبنِّيه قديمًا زيد بن حارثة امتثالاً لأمر الله؛ قال الله -تعالى- ممتدحًا رسوله: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)[الأحزاب: 39].

 

عباد الله: إن أوامر الله والعمل بمقتضاها واجبٌ على الفرد والأمة، وبه وعليه صلاح الفرد والجماعة، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، ومن أراد الرقي والتقدم في غير الكتاب والسُّنَّة فقد ضلَّ ضلالاً بعيدًا.

 

من علم ذلك فليلزم، وإلا فلا يلومَنَّ إلا نفسه، فالله أنزل الكتاب، وأرسل الرسل حجةً على العالمين، وإنكم عن كتاب ربكم وعملكم لمسؤولون، فبمَ تستجيبون؟ قال -تعالى-: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)[الأعراف: 6].

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life