عناصر الخطبة
1/ الوفاء بالعهد قيمة إنسانية وأخلاقية رفيعة 2/ الوفاء بالعهد من صفات الأنبياء 3/ معنى الوفاء بالعهد وفضله 4/ أقسام الوفاء بالعهد 5/ نموذج من صدق الوفاء بالعهداهداف الخطبة
اقتباس
إن الوفاء بالعهد قيمة إنسانية وأخلاقية عظمى ترسي دعائم الثقة في الأفراد، وتؤكد على التقارب في المجتمع، وإلاَّ فُقِدَتْ الثقة وحلَّت الخيانة مكان الأمانة، وانتقضت بذلك عرى الصدق والثقة، ولم... وإن من أعجب ما يقف عليه القارئ في صدق الوفاء ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء، فقال: كفى بالله شهيدًا، قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، فدفعها إليه على أجل مسمى، فخرج في البحر...
الخطبة الأولى:
لا غنى للإنسان في حياته من معاملة إخوانه ومعاملتهم له، فهو بحاجتهم وهم بحاجته، ومع هذه المعاملة في الأخذ والعطاء والجلساء والخلطاء تقوم عهود ومواثيق وتنبثق اتفاقات ومواعيد، وكل هذه جوانب أخلاقية وقيم إنسانية لابد من مراعاتها والوفاء بها.
إن الوفاء بالعهد قيمة إنسانية وأخلاقية عظمى ترسي دعائم الثقة في الأفراد، وتؤكد على التقارب في المجتمع، وإلاَّ فُقِدَتْ الثقة وحلَّت الخيانة مكان الأمانة، وانتقضت بذلك عرى الصدق والثقة، ولم يبقَ للكلام قيمة، وتتعسر حينئذٍ على الناس معيشتهم.
إن الوفاء بالعهد أدب ربَّاني كبير، وخلق نبوي حميد وسلوك إسلامي نبيل، وأمر الله به في كتابه فقال: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)، وقد جعل الله صاحبها مسؤولاً عنها يوم القيامة: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً).
إن ما ينشئه الناس بينهم من عقود وعهود ووعود ليس كلامًا إنشائيًا، ولكنها قيم ومبادئ لا يجوز بحال من الأحوال نكثها وإخلافها، ولو أدى ذلك إلى الإضرار به وإيقاع الأذى، ولو كان فيه حتفه وقطع رقبته، ولذا يقال: "وعد الحر دَيْن".
ولذلك كان في مقدمة أولئك الوافين بالعهود الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فهذا الخليل إبراهيم جاء وصفه في القرآن الكريم نديًا رطبًا بهذه الصفة الجليلة؛ قال تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)، نعم، وفَّى حين ابتلاه الله بكلمات من الأمر الإلهي فأتمهنَّ، وفَّى حين قدَّم ولده إسماعيل قربانًا تنفيذًا لأمر الله تعالى، وفَّى حينما ألقي في النار فصبر ابتغاء مرضاة الله وثباتًا على دين الله تعالى.
وكان الوفاء بالوعد صفة إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- حينما عطَّر الله ذكره فقال: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً)، وانظر إلى تقديم هذه الصفة الكريمة على الأخبار بأنَّه رسول نبيُّ.
إنها صفة حينما يفقدها البشر يلتحقون بعالم الوحوش الذين لا يعيشون إلا في الغابات.
والوفاء أولاً قيمة إيمانية قبل كل شيء، كانت واردة في كثير من الآيات؛ منها: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون)، (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء).
عباد الله: الوفاء بالعهد هو قيام المسلم بما التزم به، سواء كان قولاً أم كتابًا، ولا يبرأ إلا بالوفاء به، وعندما يخلف عن قصد يخرج عن نطاق الإيمان ويقع في دائرة النفاق؛ ففي مسند أحمد عن محمد السيوطي عن أنس مرفوعًا: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له". وفي الصحيحين: "ثلاث من كنَّ فيه فهو منافق وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم، إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
عباد الله: والعهد ينقسم إلى قسمين:
عهد الله مع الناس: قال ابن عباس: "كل ما أحلَّ الله وما حرَّم وما فرض في القرآن فهو عهد"، فالإيمان الفطري عهد أخذه الله علينا ونحن في عالم الغيب، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا).
الإحسان بالقول والفعل عهد، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة عهد؛ قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ).
والعدل مع النفس والأهل والزوجة والناس عهد؛ قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى).
نشر العلم وبيانه عهد؛ قال تعالى: (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)، قال قتادة: "هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن تعلَّم علمًا فليعلمه الناس، وإياكم وكتمان العلم؛ فإن كتمان العلم هلكة".
وبيع النفس والمال بالجنة في الجهاد في سبيل الله عهد؛ قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ)، قال شمر بن عطية: "ما من مسلم إلا ولله -عزَّ وجلَّ- في عنقه بيعة، وفَّى بها أو مات عليها". ثم تلا هذه الآية.
وجملة القول أن العهد بين الله وبين خلقه على عبادته وطاعته، وهي أمانة حملها الإنسان: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا).
فاتقوا الله -عباد الله- في أنفسكم، وأوفوا بعهودكم وأدوا أمانتكم، وأصلحوا ما بينكم يبارك لكم فيما آتاكم.
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
ذكرنا أن العهد قسمان: عهد مع الله وعهد مع الناس، فأما العهود التي بين الناس بعضهم بعضًا فهي كثيرة يختارها الناس، فهي مواثيق وعهود ووعود والتزامات بحاجة إلى الوفاء، وإلا اختلت موازين التعامل والمعاشرة بين الناس، وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قيمة الوفاء، وضمن الجنَّة لمن أداه؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم أضمن لكم الجنَّة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدُّوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم". رواه أحمد والحاكم وصححه الذهبي وفيه إرسال.
وناكث العهد خصم، ويكون خصمه يوم القيامة رب العالمين –عزَّ وجلَّ-؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر -أي حلف باسم الله وعهده-، ورجل باع حرًا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
ومن عاهد وواعد وعزم على الوفاء وصدق في عهده كان الله كفيلاً له ومعينًا.
وإن من أعجب ما يقف عليه القارئ في صدق الوفاء ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء، فقال: كفى بالله شهيدًا، قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، فدفعها إليه على أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبًا يركبها يقدم للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني قد كنت تسلفت فلانًا ألف دينار فسألني كفيلاً فقلت:كفى بالله كفيلاً فرضي بك، وسألني شهيدًا فقلت: كفى بالله شهيدًا فرضي بذلك، وإني جهدتُ أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبًا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار فقال: والله ما زلت جاهدًا من طلب مركب لآتيك فيه، قال: هل كنت بعثت إليِّ بشيء؟! قال: أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدًا.
وهكذا عندما يصدق الرجل في عهده ووفائه، وهكذا عندما يهم الإنسان بدينه وعهده ليقضيه ولا يلتمس أعذارًا، وهكذا حينما تكون النفس عفيفة لا تأخذ إلا مالها، وكان بإمكان المسلف أن يأخذ ما أتاه به.
عباد الله: اصدقوا مع الله واصدقوا مع الخلق وأوفوا ما عاهدتم به، وراقبوا ربكم بما بينكم وبينه.
وصلوا وسلموا...
التعليقات