عناصر الخطبة
1/أهمية التمسك بالإسلام وفضله 2/أخلاق حث عليها الإسلام 3/حب الوطن فطرة وطبيعة 4/مفاسد الاحتفال باليوم الوطني 5/حكم الاحتفال باليوم الوطني 6/الوطنية المزيفة 7/الوطنية الحقة .. مقتضياتها ومستلزماتهااقتباس
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ حُبَّ الأَوطَانِ كَانَ وَمَا زَالَ شَأنًا فِطرِيًّا جِبِلِّيًّا طَبِيعِيًّا، يَحمِلُهُ كُلُّ فَردٍ في نَفسِهِ شُعُورًا فَيَّاضًا، وَيَطوِي عَلَيهِ قَلبَهُ حُبًّا صَادِقًا، وَيَتَنَفَّسُهُ ذِكرَيَاتٍ عَبِقَةً مِن عُهُودِ الطُّفُولَةِ الأُولى، وَيَحمِلُهُ في ذِهنِهِ صُوَرًا مِن أَيَّامِ الكِفَاحِ وَلَيَالي التَّضحِيَةِ، وَرَمزًا لِلعَطَاءِ وَالإِيثَارِ وَالعَمَلِ المُثمِرِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى مَا يُحَقِّقُ المَصَالِحَ المُشتَرَكَةَ، هَكَذَا كَانَ حُبُّ الأَوطَانِ وَهَكَذَا عُرِفَ، وَلَكِنَّهُ وَفي...
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ:
فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: جَاءَ اللهُ بِالإِسلامِ وَالدِّينِ القَوِيمِ، لِيُخرِجَ النَّاسَ بِهِ مِن ضِيقِ الدُّنيَا إِلى سَعَةِ الآخِرَةِ، وَلِيُخَلِّصَهُم مِن عُبُودِيَّةِ الجَاهِلِيِّةِ، وَرِقِّ عَادَاتِهَا وَأَغلالِهَا إِلى مَا تَكمُلُ بِهِ الأَروَاحُ، وَيُزَكِّيَ النُّفُوسَ وَالقُلُوبَ مِن عِبَادَةِ الخَالِقِ وَحدَهُ وَطَاعَتِهِ.
وَإِنَّهُ لَمَّا تَمَسَّكَ الأَوَّلُونَ بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيهِم، تَحَوَّلُوا مِن رُعَاةِ نَعَمٍ إِلى قَادَةِ أُمَمٍ، وَسَادُوا وَأَقَامُوا المَمَالِكَ وَالدُّوَلَ، وَبَنَوا لِلنَّاسِ الحَضَارَاتِ الَّتي ذَاقَوا في ظِلِّهَا لِلعَيشِ طَعمًا وَوَجَدُوا لِلحَيَاةِ مَعنى، بما انتَشَرَ مِنَ العَدلِ وَالإِيثَارِ، وَإِعطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَمَا زَالَ المُسلِمُونَ يَتَفَيَّؤُونَ ظِلَّ دَوحَةِ الإِسلامِ الوَارِفَةِ، وَيَقتَطِفُونَ ثِمَارَهَا اليَانِعَةَ، حَتى ضَعُفَ في قُلُوبِهِم قَدرُ دِينِهِم، وَانتُزِعَ مِن نُفُوسِهِم تَعظِيمُ كِتَابِ رَبِّهِم، وَزَهِدُوا في سُنَّةِ نَبِيِّهِم وَجَانَبُوا هَديَ سَلَفِهِم، وَاستَبدَلُوا بِصَالحِ الأَعمَالِ زَخَارِفَ الأَقوَالِ، وَجَعَلُوا مَكَانَ الحَقَائِقِ النَّاصِعَةِ الشِّعَارَاتِ المَائِعَةَ، وَتَلَفَّتُوا لأُمَمِ الأَرضِ شَرقًا وَغَربًا يُقَلِّدُونَهَا وَيَتَّبِعُونَ سَنَنَهَا، فَهَبَطُوا بِذَلِكَ إِلى قِيعَانٍ مُظلِمَةٍ، وَتَاهُوا في أَودِيَةٍ مُوحِشَةٍ، وَتَفَرَّقَت كَلِمَتُهُم، وَضَعُفَت قُوَّتُهُم، وَذَهَبَ رِيحُهُم، وَزَالَت هَيبَتُهُم.
أَلا وَإِنَّ مِنَ المَعَاني العَظِيمَةِ الوَاسِعَةِ، وَالَّتي كَانَت جَامِعَةً لِلمُسلِمِينَ مَانِعَةً لهم، مُؤَلِّفَةً بَينَ قُلُوبِهِم مُوَحِّدَةً لِصُفُوفِهِم، وَالَّتي كَانُوا بها أَهلَ مُوَدَّةٍ وَمَحَبَّةٍ وَنُصحٍ وَتَرَاحُمٍ وَتَعَاوُنٍ وَتَنَاصُرٍ، الأُخُوَّةَ في الدِّينِ، وَالوَلاءَ لِلمُؤمِنِينَ، وَالبَرَاءَةَ مِنَ الشِّركِ وَالمُشرِكِينَ وَأَعدَاءِ الدِّينِ، قَالَ سبحانه مُمتَنًّا عَلَى نَبِيِّهِ: (هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِم لَو أَنفَقتَ مَا في الأَرضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفتَ بَينَ قُلُوبِهِم وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَينَهُم إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 62-63]
وَقَالَ تعالى آمِرًا عِبَادَهُ بِالائتِلافِ عَلَى أُخُوَّةِ الدِّينِ مُمتَنًّا عَلَيهِم بها: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[آل عمران: 103].
وَقَالَ سبحانه مُبَيِّنًا الرَّابِطَةَ الَّتي يَكُونُ عَلَيهَا الوَلاءُ وَالبَرَاءُ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات: 10].
وَقَال -تعالى-: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22].
وَقَالَ سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) [النساء: 144].
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ لا يَظلِمُهُ وَلا يُسلِمُهُ"(رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ).
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "مَثَلُ المُؤمِنِينَ في تَوَادِّهِم وَتَرَاحُمِهِم وَتَعَاطُفِهِم مَثَلُ الجَسَدِ، إِذَا اشتَكَى مِنهُ عُضوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهرِ وَالحُمَّى"(رَوَاهُ مُسلِم وَغَيرُهُ).
هَكَذَا جَاءَ الإِسلامُ بِأُخُوَّةِ الدِّينِ، وَرَابِطَةِ الإِيمَانِ، وَجَعَلَهَا الأَسَاسَ الَّذِي عَلَيهِ يَجتَمِعُ النَّاسُ وَبِهِ يَأتَلِفُونَ، وَقَد مَضَت لِلمُسلِمِينَ عَلَيهَا قُرُونٌ، كَانُوا خِلالَهَا قُوَّةً لا تُغلَبُ وَدَولَةً لا تُهزَمُ بِحَولِ اللهِ وَقُوَّتِهِ، حَتى جَاءَت هَذِهِ السَّنَوَاتُ الخَدَّاعَةُ، وَتَوَلىَّ كَثِيرًا مِنَ الأُمُورِ أُنَاسٌ مُقَلِّدُونَ مُنهَزِمُونَ، هَبَطُوا بِالنَّاسِ مِن عَليَاءِ الأُخُوَّةِ الإِسلامِيَّةِ، وَرَدُّوهُم مِن سَعَةِ الرَّابِطَةِ الإِيمَانِيَّةِ، إِلى حَضِيضِ عِلاقَاتٍ دُنيَوِيَّةٍ، وَضِيقِ رَوَابِطَ أَرضِيَّةٍ، جَعَلَت اجتِمَاعَهُم فُرقَةً، وَأَحَالَت وحدَتَهُم إلى شَتَاتٍ، وَسَلَبَتهُم قُوَّتَهُم وَأَلبَسَتهُمُ الضَّعفَ وَالهَوَانَ، وَقَد مِن ذَلِكَ مَا بُلِيَ بِهِ المُسلِمُونَ بَعدَ الاستِعمَارِ، ممَّا يُسَمَّى بِالوَطَنِيَّةِ، وَالَّتي غَدَت مِن وَسَائِلِ الأَعدَاءِ في تَفرِيقِ المُسلِمِينَ وَزَرعِ العَدَاوَاتِ بَينَهُم، وَإِذَابَةِ عَقِيدَةِ الوَلاءِ وَالبَرَاءِ مِن قُلُوبِهِم، وَللهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ حُبَّ الأَوطَانِ كَانَ وَمَا زَالَ شَأنًا فِطرِيًّا جِبِلِّيًّا طَبِيعِيًّا، يَحمِلُهُ كُلُّ فَردٍ في نَفسِهِ شُعُورًا فَيَّاضًا، وَيَطوِي عَلَيهِ قَلبَهُ حُبًّا صَادِقًا، وَيَتَنَفَّسُهُ ذِكرَيَاتٍ عَبِقَةً مِن عُهُودِ الطُّفُولَةِ الأُولى، وَيَحمِلُهُ في ذِهنِهِ صُوَرًا مِن أَيَّامِ الكِفَاحِ وَلَيَالي التَّضحِيَةِ، وَرَمزًا لِلعَطَاءِ وَالإِيثَارِ وَالعَمَلِ المُثمِرِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى مَا يُحَقِّقُ المَصَالِحَ المُشتَرَكَةَ، هَكَذَا كَانَ حُبُّ الأَوطَانِ وَهَكَذَا عُرِفَ، وَلَكِنَّهُ وَفي عُهُودِ ضَيَاعِ الهُوِيَّةِ الإِسلامِيَّةِ، صَارَ شِعَارَاتٍ بَرَّاقَةً، وَدِعَايَاتٍ زَائِفَةً، وَكَلِمَاتٍ رَنَّانَةً، وَعِبَارَاتٍ خَدَّاعَةً، وَقُعُودًا عَنِ العَمَلِ، وَجُنُوحًا لِلكَسَلِ، وَاحتِفَالاتٍ مُكَلِّفَةً وَرَسُومًا مُقَيِّدَةً، بَل وَتَكلِيفًا بما لا يُطَاقُ وَإِيغَالاً فِيمَا لا يَنبَغِي، وَهَرجًا وَمَرجًا وَأَغَانيَّ وَطَرَبًا، وَتضييعًا للحُقُوقِ وَاعتِدَاءً على المُقَدَّرَاتِ وَخُرُوجًا عَلَى الآدَابِ، مُختَزَلاً في يَومٍ مُبتَدَعٍ وَعِيدٍ مُختَرَعٍ، أَبَى أَقوَامٌ ممَّن قَلَّ بِاللهِ عِلمُهُم، إِلاَّ أَن يَبتَلُوا بِهِ المُسلِمِينَ، فَكَانَ ممَّا لا بُدَّ مِنهُ وَالحَالُ هَذِهِ، أَن يَتَنَبَّهَ المُسلِمُونَ إِلى أَن اتِّجَاهَ النَّاسِ إِلى البَاطِلِ بَعدَ أَن كَانُوا عَلَى الحَقِّ، وَاتِّخَاذَهُمُ الضَّلالَ بَعدَ الهُدَى، لا يُسَوِّغُ لِمُسلِمٍ أَن يَنجَرِفَ أَو يَنحَرِفَ، أَو تَأخُذَ بِفِكرِهِ الكَثرَةُ الغَافِلَةُ أَو تَسلُبَ لُبَّهُ الدِّعَايَةُ المُضَلِّلَةُ، فَيَترُكَ حَقًّا بَيِّنًا قَامَ عَلَيهِ الدَّلِيلُ، أَو يُجَانِبَ مَنهَجًا صَوَابًا يُؤَيِّدُهُ الشَّرعُ، أَو يُغَيِّرَ أَو يُبَدِّلَ أَو يَحِيدَ، فَقَد أَخبَرَ الحَبِيبُ -عليه الصلاة والسلام- عَن غُربَةٍ لِلدِّينِ تَحدُثُ في آخِرِ الزَّمَانِ، يَعظُمُ أَجرُ مَن تَمَسَّكَ بِالدِّينِ فِيهَا، فَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ: "بَدَأَ الإِسلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ، فَطُوبى لِلغُرَبَاءِ".
وَعِندَ الطَّبرَانيِّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ: "إِنَّ مِن وَرَائِكُم زَمَانَ صَبرٍ لِلمُتَمَسِّكِ فِيهِ أَجرُ خَمسِينَ شَهِيدًا مِنكُم".
وَقَدِ اتَّفَقَت كَلِمَةُ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَالهَيئَاتِ الشَّرعِيَّةِ، عَلَى تَحرِيمِ تَخصِيصِ يَومٍ يُسَمَّى بِاليَومِ الوَطَنِيِّ، فَضلاً عَن جَعلِهِ إِجَازَةً مِنَ الأَعمَالِ، أَو إِعطَائِهِ مَكَانَةً، أَو تَقدِيسِهِ عَلَى غَيرِهِ مِنَ الأَيَّامِ، وَقَد جَاءَ تَحرِيمُ العُلَمَاءِ وَتَحذِيرُهُم، بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللهَ -تعالى-ـ قَد شَرَعَ لِعِبَادِهِ في كُلِّ عَامٍ عِيدَينِ كَرِيمَينِ، وَأَبدَلَهُم بِالأَعيَادِ الجَاهِلِيَّةِ يَومَينِ عَظِيمَينِ، يَأتي كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا بَعدَ أَدَاءِ المُسلِمِينَ لِرُكنٍ مِن أَركَانِ الإِسلامِ، وَتَزَوُّدِهِم مِنَ الأَعمَالِ الصَّالحةِ وَالقُرُبَاتِ بما يَستَحِقُّ الفَرحَ بِهِ وَالشُّكرَ لِلمُوفِّقِ إِلَيهِ، وَأَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ تَشرِيعٌ لِمَا لم يَأذَنْ بِهِ اللهُ، وَابتِدَاعٌ لِمَا لم يَكُنْ مِن هَديِ مَن أُمِرنَا بِاتِّبَاعِهِم.
أَلا فَاتَّقُوا اللهُ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَتَمَسَّكُوا بِكِتَابِ رَبِّكُم، وَسُنَّةِ نَبِيِّكُم، وَهَديِ سَلَفِكُمُ الصَّالِحِ، وَادفَعُوا مَا تَستَطِيعُونَ وَلا تَختَلِطَنَّ عَلَيكُمُ الأُمُورُ: (وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ)[آل عمران: 131-132].
وَلْيَتَّقِ اللهَ مَن كَانَ لَهُ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ كَبُرَ أَو صَغُرَ، وَلْيَحذَرْ أَن يَبتَلِيَ المُسلِمِينَ أَو أَبنَاءَهُم بِإِقَامَةِ البِدَعِ في أَسوَاقِهِم، أَو شَوَارِعِهِم، أَو مَدَارِسِهِم، فَإِنَّ الحَقَّ وَاضِحٌ وَسَبِيلَ الرُّشدِ مُستَبِينٌ، وَلَيسَ بَعدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ المُبِينُ: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[التوبة: 115].
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -تعالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[النــور: 52].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ تَصوِيرَ الوَطَنِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا إِقَامَةُ عِلاقَاتٍ خَاصَّةٍ في وَطَنٍ جَغرَافِيٍّ، أَو تَحتَ ظِلِّ جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ، أَو حُكُومَةٍ مَا، بما يَجمَعُ بَينَ مُسلِمٍ وَكَافِرٍ وَيُؤَلِّفُ بَينَ مُؤمِنٍ وَفَاسِقٍ، وَيُؤَدِّي إِلى انعِزَالِ المُسلِمِينَ عَن أُمَّتِهِم الإِسلامِيَّةِ وَعَيشِهِم في وَادٍ غَيرِ وَادِيهَا وَحَملِهِم هَمٍّ غَيرِ هُمُومِهَا، إِنَّ هَذَا مَفهُومٌ غَيرُ صَحِيحٍ؛ كَيفَ وَقَد بَدَأتِ الدُّوَلُ المُتَحَضِّرَةُ حَتى غَيرُ المُسلِمَةِ بِالتَّخَلُّصِ مِنهُ، وَالاتِّجَاهِ إِلى قَومِيَّاتٍ تُحَاوِلُ بها أَن تُذِيبَ مَا بَينَهَا مِن فَوَارِقَ وَحُدُودٍ، وَأَن تَتَوَحَّدَ شَيئًا فَشَيئًا لِتَكُونَ قُوَّةً تُوَاجِهُ مَا يَعتَرِضُهَا مِن تَحَدِّيَاتٍ.
إِنَّ العِلاقَةَ بَينَ أَفرَادِ المُجتَمَعِ الوَاحِدِ في الإِسلامِ، أَو بَينَهُ وَبَينَ غَيرِهِ، مَبنَاهَا عَلَى حُسنِ عِلاقَةِ المُسلِمِ بِرَبِّهِ، وَالوَفَاءِ بِعَهدِهِ وَإِعطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَهَذَا سَبِيلُ الفَلاحِ وَالنَّجَاحِ، وَبِقَدرِ إِهدَارِ الحُقُوقِ مَعَ الإِفسَادِ في الأَرضِ وَنَقضِ مِيثَاقِ اللهِ، يَكُونُ مَقتُهُ سبحانه، وَيَحُلُّ الشَّقَاءُ الأَبَدِيُّ.
قَالَ سبحانه: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهدِ اللهِ وَلَا يَنقُضُونَ المِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخشَونَ رَبَّهُم وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابتِغَاءَ وَجهِ رَبِّهِم وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقنَاهُم سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُم عُقبى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدنٍ يَدخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِن آبَائِهِم وَأَزوَاجِهِم وَذُرِّيَّاتِهِم وَالمَلَائِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِن كُلِّ بَابٍ. سَلَامٌ عَلَيكُم بما صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[الرعد: 19- 25].
وَمَن قَرَأَ كِتَابَ اللهِ وَفَقِهَ سُنَّةَ نَبِيِّهِ، عَلِمَ أَنَّ ثَمَّةَ حُقُوقًا تَقُومُ عَلَيهَا العِلاقَاتُ فِيمَا بَينَ الخَلقِ وَتَسِيرُ بها حَيَاتُهُم، فَلِلوَالِدَينِ حُقُوقٌ وَلِلأَبنَاءِ مِثلُهَا، وَبَينَ الزَّوجَينِ حُقُوقٌ وَبَينَ الأَرحَامِ حُقُوقٌ، وَثَمَّةَ حُقُوقٌ بَينَ الجِيرَانِ وَالأَصحَابِ، وَحُقُوقٌ في البَيتِ وَحُقُوقٌ في السُّوقِ، وَأُخرَى في المَسجِدِ وَدُورُ العِلمِ، وَمِثلُهَا في السَّفَرِ وَالحَضَرِ، وَحُقُوقٌ لِلرَّاعِي وَحُقُوقٌ لِلرَّعِيَّةِ، وَالمُهِمُّ هُوَ الارتِقَاءُ بِالعِلاقَاتِ وَالتَّحلَّي بِالأَخلاقِ الإِسلامِيَّةِ، وَلاءً لِلمُؤمِنِينَ وَنُصرَةً لَهُم، وَرَحمَةً لهم، وَعَطفًا عَلَيهِم، وَرِفقًا بِهِم، وَإِرشَادًا لهم لِمَصَالِحِهم، وَجَلبًا لِلمَنَافِعِ لَهُم، وَكَفًّا للأَذَى، وَإِبعَادً لِلمَضَارِّ عَنهُم، وَسَترًا لِعَورَاتِهِم، وَدَفعًا لِزَلاَّتِهِم، وَأَمرًا لَهُم بِالمَعرُوفِ، وَنَهيًا عَنِ المُنكَرِ، في وَلاءٍ حَقِيقِيٍّ رَائِدُهُ الطَّاعَةُ للهِ وَرَسُولِهِ، وَابتِغَاءُ الأَجرِ وَالثَّوَابِ، لا بَحثًا عَن مَصَالِحِ الدُّنيَا الفَانِيَةِ، أَو سَعيًا وَرَاءَ مَظَاهِرِهَا الجَوفَاءِ، فَـ "الدِّينُ النَّصِيحَةُ، للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ المُسلِمِينَ وَعَامَّتِهِم" وَ" المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ، لا يَخذُلُهُ وَلا يَكذِبُهُ وَلا يَظلِمُهُ".
إِنَّ الوَطَنِيَّةَ الحَقِيقِيَّةَ تَقتَضِي أَن يَحكُمَ الرُّعَاةُ بما أَنزَلَ اللهُ، وَيَعدُلُوا فِيمَن وَلُوا، وَأَن يَرفُقُوا وَلا يَشُقُّوا، وَلا يَغُشُّوا، وَلَهُم بِذَلِكَ عَلَى الرَّعِيَّةِ أَن يُوفُوا بما في رِقَابِهِم مِن بَيعَةٍ، وَأَن يُغَلِّبُوا المَصلَحَةَ العَامَّةَ عَلَى المَصَالِحِ الجُزئِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ، وَأَن يُسَاهِمُوا في بِنَاءِ وَطَنِهِم، وَيَحفَظُوا أَمنَهُ وَاستِقرَارَهُ، وَمَن صَدَقَ اللهَ صَدَقَهُ اللهُ، وَمَن أَحسَنَ إِلى عِبَادِهِ أَحسَنَ إِلَيهِ: (وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ)[آل عمران: 109].
التعليقات