عناصر الخطبة
1/عظم حق الوالدين ومظاهر الإحسان إليهما 2/تحريم قتل الأولاد خشية الفقر 3/تحريم الفواحش وعظم ضررها 4/سد الشرع الذرائع إلى الفواحش 5/النهي عن القتل وخطورته.اقتباس
وتأمل التعبير القرآني بقول الله: (وَلَا تَقْرَبُوا) للنهي عن مجرد الاقتراب؛ سدّا للذرائع، واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة؛ لذلك حرمت النظرة الثانية -بعد الأولى غير المتعمدة- وأمر المسلم بغض البصر, ولذلك كان التبرج -حتى بالتعطر في الطريق- حراماً، وكانت الخلوة بالأجنبية, والسفر بها بلا محرم, وغير ذلك من مقدماتٍ، محرمةٌ...
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق: ٤].
معشر الكرام: يظل القرآن حاوياً أعظم الوصايا, وفيه أجلُّ الهدايات, لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد, وإتماماً للوصايا العشر الواردة في القرآن من كلام الرحمن, ووصية سيد ولد عدنان أقول: ثاني الوصايا (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الأنعام: 151].
ولم يأت الله بوصيةٍ قرنها مع حقِّه في التوحيد إلا الوصيةَ بالوالدين, وذاك دليلٌ على عظيمِ حقهما, وشريفِ قدرهما, وفي الحديث: "رضى الله في رضى الوالدين, وسخط الله في سخط الوالدين", وفي التنزيل: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)[لقمان: 14], (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الإسراء: 23].
الوالدانِ هما سببُ وجودك في البسيطة بعد ربك؛ ولذا لا عجب أن يوصي ربُّ العزة بهما إحساناً, وهل في الناسِ من يستحق أن يُبرَ ويُحسنَ إليه مثلُهما؟! وهل في الخلائق بعد رسول الله أحدٌ أعظمَ حقاً على المرء منهما؟!.
الوالدان قلبانِ أنتَ ثمرتُهما, أمٌ رؤوم وقلبٌ حنون؛ رعتك منذ صغرك, وعانت منك منذ تخلقك, كم سهرتْ لتطمئن أنت, وشقيتْ لتسعد, وتعبتْ لترتاح, وتركتْ ما تشتهي خشية ضرر يعتري.
وأبٌ حانٍ, ومربٍ فاضل, تولاك بعد الله مذْ فتحتَ عيناك على الدنيا, أذهبَ عمره لتأمين عيشك, وأقلق راحته لأجلك, كم ترى من أبٍ مهموم وإذا سألته عن همِّه وجدت أنه لأجل ابنه, قلبُ الوالدين مع ولدهما إن قرب أو بعد, إن سافر أو أقام, إن مرض أو سلم, في صغره وبعد كبره, ينشغل المرء بأموره, وينسى من حوله, ولكن الوالدينِ قلباهما معه, لم يغب ذكره عنهما.
أبوك: كَمْ سَابَقَ الْفَجْرَ يَسعَىَ فِي الصَّبَاحِ وَلا *** يَعُودُ إلاَّ وَضَوْءُ الشَّمْسِ قَدْ حُجِبَا
تَقولُ أُمِّي: صِغَارُ الْبيتِ قَدْ رَقَدُوا *** ولَمْ يَرَوْكَ, أنُمضِي عُمُرَنَا تَعَبَا؟
يُجِيبُ: إنِّي سَأسعَى دَائِمًا لِأَرَى *** يَوْمًا صِغَارِي بُدُورًا تَزْدَهِي أَدَبَا
لأجل كل هذا فخذ وصية ربك هنا وأحسن إليهما إحساناً؛ إنّ طاعة قولهما, وامتثالَ أمرهما, وعدمَ عصيانِ طلبهما, هو من الإحسان إليهما.
اللطفُ في الحديث معهما, خفضُ القولِ واللسانِ والجناح عندهما هو من الإحسان إليهما, تُحسِنُ إليهما حين تتلمس حوائجهما المالية, وتسد حاجتهما قبل أن يطلبا, ويكون ذلك بحيث لا يشعران أن لك في إعطائهما فضلاً.
مؤانستك لهما, حديثك ومزاحك معهما, مراعاة مشاعرهما, سدُّ الفراغ بعد رحيل أقرانهما, هو من الإحسان إليهما.
وجماع ذلك: أن كل خيرٍ قولي أو فعلي تسديه لهما فهو داخل في قول المولى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الأنعام: 151] لم تُخَص صورةٌ دون أخرى لتعلم أن كل صنوف الإحسان هي عظيمة وفضيلة إذا ما أسديت لهما
فإذا ما وُفِّقْتَ لذلك فأبشر فالثمرة لك معجلة في الدنيا وفي الآخرة, كما العقوق كذلك, يصدق ذلك قول الحبيب: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا, مع ما يدخره له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم"؛ وأي رحمٍ أقرب من الوالدين!.
وإنّ من السنن التي رآها الناس في حياتهم أنه ما برّ أحدٌ والديه إلا ورأى أثر ذلك في بنيه مع ما يُدَّخر له من الأجر, والعقوق كذلك, فهو دينٌ موفّى, وذخرٌ لا يضيع, وحينها فليَبشر البارّ بالخير دنيا وأخرى.
ويوم أن يبحث المرء عن غفران الذنوب, فهاهما الوالدان طريقٌ لرضا الرحمن فرضى الله في رضاهما, وسخطه في سخطهما, فأين يذهب من غاضب أباه أو أمه؟ أين يذهب من قطع الصلة بينه وبين والديه؟ فلا هو يزورهما ولا هو يؤانسهما, ولا يحسن إليهما, فما قيمة الحياة والمرء يغدو ويروح وقد أسخطهما, وليَبشر حينها بسخط الرحمن إن لم يتب في زمن الإمكان.
جاء رجلٌ إلى ابنِ عباس -رضي الله عنه- فقال له: لقد قتلتُ امرأةً فهل لي من توبة؟ فقال له: "أمك حية", فقال: لا, فقال: إذن فتب إلى الله وتقرب إليه ما استطعت, قال عطاء بن يسار فسألت ابن عباس: لمَ سألته عن حياة أمه, فقال-رضي الله عنه-: "إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة".
فهنيئاً لمن بادر الأيام, وأرضى الوالدين, فرحل والداه أو رحل هو عن الدنيا وهما عنه راضيين, فكسب رضا الملك العلام
والوصية الثالثة يا كرام: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)[الأنعام: 151]؛ والإملاقُ الفقر, والقتلُ محرم, وأشنعه قتل الأولاد, وأشنع صوره حين يكون دافعه ضعف التوكل على الرزاق في الأرزاق, فمَن خلق خلقاً فلن يضيع رزقه, بل قدّر معاشه قبل أن يوجده, فعلام الخوف من ضيق الرزق عند تكاثر الذرية.
ولئن كان هذا في القتل وهي صورةٌ وجدت عند بعض أهل الجاهلية, فإن ما دونه من سوء الظن بتيسر الرزق قد يوجد لدى البعض اليوم, فيا من رزقك ربك نسلاً: كن مطمئناً فأرزاقهم عليه, وُجِدت أم رحلت, وأنت سبب وهو المسبب, (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)[النساء: 9]؛ لذا فرزق ذريتك لا تجعله سبباً في كسبك المحرم, أو ربحك الآثم, فالذي حرم المكاسب المحرمة هو الذي يرزقك وإياهم.
وأما الوصية الرابعة يا كرام: فقول الحق -سبحانه-: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)[الأنعام: 151]؛ والفواحش: الذنوب العظام المستفحشة, وقد تخص بنوع منها هو فاحشة الزنا.
والزنا مرضٌ كبير, وبلاءٌ خطير, وشرٌّ مستطير, وتعدٍ على حدود العلي الكبير, تضافرت النصوص على ذمة, وتواردت الأدلة في بيان عقوبة أهله.
توعد المولى صاحبه في الآخرة بشنيع العذاب, وأخبر المصطفى أنه رأى أصحابه يعذبون في القبر, وأما في الدنيا فلا تسل عما يعقُبه من بلايا وحسرات, وأمراضٍ وويلات, كل هذا لأنه انتهاك للحرمات, قال الإمام أحمد: "لا أعلم بعد قتل النفس شيئاً أعظم من الزنا", قال ابن القيم: "ففي هذه الكبيرة -أي الزنا- خرابُ الدنيا والدين؛ فكم فيه من استحلال حرمات, وفوات حقوق , ووقوع مظالم, ومن خاصيته: أنه يكسو صاحبه سوادَ الوجه, ويورث المقت بين الناس, وأنه يشتت القلب ويُمرِضُه إن لم يُمِته, ويجلب الهم والحزن والخوف... إلى أن قال: وقد جرت سُنة الله في خلقه, أنه عند ظهور الزنى يغضب الله -سبحانه- ويشتدُ غضبه, فلا بد أن يؤثر غضبَه في الأرض عقوبةً؛ ولذا عظم رسول الله جرم الزنا, حين وقوع الكسوف, فهو من أسباب العقوبات".
عباد الله: وربنا ما قال: لا تفعلوا الفواحش, بل نهى حتى عن قربانها فقال: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ)[الأنعام: 151]؛ وهذا نهي عن الفاحشة, وعن كل ذريعة مقربة إليها, فللفاحشة مقدماتٌ وملابساتٌ كلها فاحشة مثلها؛ فالتبرج، والتهتك، والاختلاط المثير، والحركات والضحكات الفاجرة، والإغراءُ بالقول والفعل, كلها فواحش تحيط بالفاحشة الأخيرة, وكلها فواحش منها الظاهر ومنها الباطن, منها المستسر في الضمير ومنها البادي في الجوارح, منها المخبوء المستور ومنها المعلن المكشوف! وكلها مما يحطم قوام الأسرة، وينخر في جسم المجتمع، فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد، ويهدم حيائهم, ومن ثم جاءت بعد الحديث عن الوالدين والأولاد.
وتأمل التعبير القرآني بقول الله: (وَلَا تَقْرَبُوا) للنهي عن مجرد الاقتراب؛ سدّا للذرائع، واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة؛ لذلك حرمت النظرة الثانية -بعد الأولى غير المتعمدة- وأمر المسلم بغض البصر, ولذلك كان التبرج -حتى بالتعطر في الطريق- حراماً، وكانت الخلوة بالأجنبية, والسفر بها بلا محرم, وغير ذلك من مقدماتٍ، محرمةٌ في الحياة الإسلامية النظيفة, فهذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة ثم ينهاهم عنها, فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود، ويوقع العقوبات, وهو دين حمايةٍ للضمائر والمشاعر والجوارح, وربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
اللهم اعصمنا والمسلمين من الفواحش ما ظهر منها وما بطن, أقولُ ما سمعْتُم، وأَستغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولَكُم ولِسائر المسلمين مِن كُلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاسْتغفِرُوه وتُوبوا إليْهِ؛ إنَّه هو الغفور الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهَدُ ألا إله إلا اللهُ؛ تعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه الدَّاعي إلى جنَّته ورِضوانِه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.
أما بعد: فخامس الوصايا يا كرام: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)[الأنعام: 151]؛ النفس المعصومة لها عند الله حرمة, ولا سيما نفس المسلم, و"إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ", قاله ابن عمر, وفي الحديث: "لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا"(رواه البخاري).
لذا كان من أعظم الذنوبِ القتل, وكانت عقوبة القاتل أعظمَ عقوبة؛ لأن للنفس المعصومة عند الله حرمة, فمن اعتدى عليها بالقتل فلينتظر العقوبة الأليمة.
ومن عظمةِ الشريعة أنها نهت حتى عن قتلِ الكافر المعصوم؛ ذمياً كان أو مستأمنا أو معاهداً, وحقنت دمه, بل توعد -عليه الصلاة والسلام- المتعدي عليه فقال: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة", فأين تجد هذا السمو في أي معتقد غير الإسلام؟!.
ثم ختمت هذه الوصايا الخمس بقول الحق -سبحانه-: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[الأنعام: 151]؛ لتعلم أن من التزم بها فهو العاقل الرشيد, قال ابن هبيرة: "العقل يشهد أن الخالق لا شريك له، ويدعو العقلُ إلى برِّ الوالدين، ونهى عن قتلِ الولد، وإتيان الفواحش؛ لأن الإنسان يغار من الفاحشة على ابنته وأخته، فكذلك هو، ينبغي أن يجتنبها، وكذلك قتلُ النفس، فلما لاقت هذه الأمور بالعقل، قَالَ: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)".
وبقي يا كرام خطبة ثالثة أخيرة مع الوصايا العشر, والله أعلم.
التعليقات