عناصر الخطبة
1/ فضل حسن الخلق 2/ حاجة الناس بعضهم إلى بعض 3/ أعظم المعروف 4/ فضل قضاء حوائج الإخوان 5/ فضل الشفاعة الحسنة 6/ شفاعة الرسول 7/ آداب طلب الحاجة من الناس 8/ الشفاعة السيئة
اهداف الخطبة

اقتباس

الشفاعة والوساطة متى ما كانت في أمرٍ مشروع فهي مندوب إليها، إلا أنه ينبغي أن لا تكون الشفاعة هي مسيرة أمورنا وباعث إنتاجنا، إننا مطالبون بإكرام القريب والصاحب، ولكن ليس على حساب تعطيل مصالح أناس لا يجدون مثل ما تجد، فمن أين لهم ما يرغبون؟! لست أدعو هنا أن نأخذ حقوق غيرنا عن طريق الشفاعات، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان".

 

 

 

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].

عباد الله: حسن اللقاء، وطيب الكلام، ومشاركة الأخ لأخيه في السراء ومواساته في الضراء، كل أولئك من كريم الخصال وحميد الشيم، وهذه الأمور من المعروف الذي يجب على كل مسلم أن لا يقلل من شأنه أو يحتقر بذله: "لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تفرغ دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط".

الناس -عباد الله- لحمة لا يستغنون عن التعاون، ولا يستقلّون عن المضافر والمساعد، فإنما ذلك كله تعاون وائتلاف، يتكافؤون فيه ولا يتفاضلون، ولربما احتاج شخص إلى آخر، والمحتاج إليه أقل من المحتاج، كاستعانة السلطان بجنده والمزارع بعماله، فليس من هذا بد، ولا لأحد عنه غنى.

أيها الناس: أعظم المعروف ما ترك في نفسٍ أثرًا طيبًا تذكره فتشكره، وإذا كان انبساط الوجه للأخ يعتبره الإسلام معروفًا يؤجر عليه العبد، فكيف بما هو أكثر نفعًا وأعظم فائدةً تعود على الأخ المسلم، كبسط اليد إليه بالإنفاق، وكواسطة الخير في أمرٍ مشروع، وكتفريج الكرب عن المكروب أو دفع المكروه؟!

روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من نفس عن أخيه كربةً من كرب الدنيا نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلمٍ ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".

الواجب على المسلمين كافةً نصيحة المسلمين والقيام بالكشف عن همومهم وكربهم؛ لأن من نفّس كربة من كرب الدنيا عن مسلمٍ نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن تحرّى قضاء حاجته ولم يكتب قضاؤها على يديه فكأنه لم يقصّر في قضائها، وأيسر ما يكون في قضاء الحوائج استحقاق الثناء، والإخوان يعرَفون عند الحوائج، كما أن الزوجة تختَبر عند الفقر؛ لأن الناس في الرخاء كلّهم أصدقاء، وشر الناس الخاذل لإخوانه عند الشدّة والحاجة، كما أن شرّ البلاد بلدة ليس فيها خصب ولا أمن.

يقول الحسن البصري: "قضاء حاجة أخٍ مسلم أحبّ إليّ من اعتكاف شهرين"، وجاء رجل إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة فقضاها، فأقبل الرجل يشكره فقال له الحسن: "علام تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة؟!". وفي لفظ: "ونحن نرى أن كتب الشفاعات زكاة مروءاتنا؟!".

وروى البخاري ومسلم عن أبي موسي -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه طالب حاجةٍ أقبل على جلسائه فقال: "اشفعوا فلتؤجروا، وليقض الله على لسان رسوله ما أحبّ"، وفي رواية: عن معاوية أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرجل ليسألني عن الشيء فأمنعه كي تشفعوا له فتؤجروا".

عباد الله: الإفضال على الناس والإحسان إليهم شرف عظيم جعله الله لكل صاحب مالٍ أو جاه، بل إن من أعطاه الله -عز وجل- نعمةً من مالٍ أو جاهٍ فقد وجب عليه الإحسان إلى الناس، روى الطبراني في معجمه وابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج بإسناد حسّنه الهيثمي عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ثم جعل شيئًا من حوائج الناس إليه فتبرم فقد عرض تلك النعمة للزوال"، وفي رواية: "إن لله أقوامًا يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم".

حقيق -عباد الله- على من علم الثواب أن لا يمنع ما ملك من جاهٍ أو مال إن وجد السبيل إليه قبل حلول المنية فينقطع عن الخيرات كلها، والعاقل يعلم أن من صحب النعمة في دار الزوال لم يخل من فقدها، وأن من تمام الصنائع وأهنئها ما كان ابتداءً من غير سؤال.

إذا ضاقت بالصحابة ضائقة ذهبوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألونه الشفاعة لهم فيها عند أصحبها، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: إن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقًا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليشفع له إليه، فكلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى... إلى آخر الحديث.

عباد الله: يقول الله سبحانه: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا) [النساء:85]. وروى الجماعة إلا الترمذي عن كعب بن مالك أنه تقاضى كعب بن أبي حدرد دينًا كان عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى: "يا كعب"، فقال: لبيك يا رسول الله، قال: "ضع من دينك هذا"، وأشار إليه أي: الشطر، قال: قد فعلت يا رسول الله، قال: "قم فاقضه".

أيها الناس: اسمعوا إلى ما أعده الله للقاضين للناس حوائجهم والكاشفين كروبهم، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب قضاء الحوائج بإسناد حسن والطبراني وابن عساكر عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: أي الناس أحب إلى الله؟! وأي الأعمال أحب إلى الله؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينًا أو تطرد عنه جوعًا". إلى أن قال في آخر الحديث: "ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق يفقد العمل كما يفسد الخل العسل".

عباد الله: الحاجة إلى الناس من أثقل الأمور، ألا فليعلم من ابتُلي بمثل هذه أنه يجب عليه أن لا يحلف في السؤال، فإن شدة الاجتهاد ربما كانت سببًا للحرمان والمنع. ألا وليختر المكان المناسب والزمان المناسب، روي عن عمر أنه قال: "لا تسألوا الناس في مجالسهم ولا مساجدهم فتفحشوهم، ولكن سلوهم في منازلهم، فمن أعطى أعطى ومن منع منع". يقول أبو حاتم بن حبان بعد أن ذكر قول عمر: "هذا إذا كان المسؤول كريمًا، أما إذا كان لئيمًا فإنه يسأل في هذا الموضوع؛ لأن اللئيم لا يقضي الحاجة ديانة ولا مروءة، وإنما يقضيها إذا قضاها للذكر والمحمدة بين الناس، على أني أستحب للعاقل أن لو دفعه الوقت إلى أكل القديد ومص الحصى ثم صبر عليه لكان أحرى به من أن يسأل لئيمًا حاجة؛ لأن إعطاء اللئيم شين ومنعه حتف". اهـ. يقول خالد بن صفوان: "لا تطلبوا الحوائج عند غير أهلها، ولا تطلبوها في غير حينها، ولا تطلبوا ما لا تستحقون منها، فإن من طلب ما لا يستحق استوجب الحرمان".

عباد الله: إن صنائع المعروف لا تقف عند حد، بل تتسع إلى ما لا حد له، حتى يكون في نصيب كل مسلمٍ أن يأخذ منها بحظ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) [الزلزلة:7، 8].

يقول بعض الحكماء: "اصنع الخير عند إمكانه يبق لك حمده عند زواله، وأحسن والكرّة لك يحسن إليك والكرة عليك، واجعل زمان رخائك عدةً لزمان بلائك".

واعلموا -عباد الله- أن هناك أمورًا لا تحل الشفاعة فيها، روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد لله في أمره".

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي وعد المحسنين بعظيم الثواب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله هي المخرج عند الشدائد وهي المعين عند النكبات.

عباد الله: ينفر كثير من الناس عن الشفاعة لغيرهم خوفًا من عدم قبولها، ألا فليعلم أولئك أن سيد الخلائق وهو أعظم حقًّا وأولى بكل مسلم من نفسه ردت شفاعته، فما أصدر تحسرًا ولا ندمًا، ولا عاتب أحدًا.

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: كان زوج بريرة عبدًا يقال له: مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي للعباس: "ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثًا؟!"، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو راجعتيه؛ فإنه أبو أولادك"، فقالت: يا رسول الله: أتأمرني؟! قال: "لا، ولكني أشفع"، قالت: لا حاجة لي فيه.

فلا يكونن نظر الشافع القبول وعدمه، إنما ينظر إلى الأجر، فإن الله قد قال: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا) [النساء:85]، ولم يقل: من يشفع فيشفع.

جاء في ترجمة عبد الله بن عثمان شيخ البخاري أنه قال: "ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمت له بمالي، فإن تم وإلا استعنت له بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت له بالسلطان".

عباد الله: العاقل الفطن لا يتسخط ما أُعطي وإن كان تافهًا؛ لأن من لم يكن عنده شيء يستفيده ربح.

ذكر ابن الجوزي قصة فقال: "كان هارون الرقي قد عاهد الله تعالى أن لا يسأله أحد كتاب شفاعة إلا فعل، فجاء رجل فأخبره أن ابنه أسير في الروم، وسأله أن يكتب إلى ملك الروم في إطلاقه، فقال له: ويحك، ومن أين يعرفني؟! وإذا سأل عني قالوا: مسلم، فكيف يفي حقي؟! فقال له السائل: اذكر عهد الله، فكتب إلى ملك الروم، فلما قرأ الكتاب قال: من هذا الذي قد شفع إلينا؟! قيل: هذا قد عاهد الله لا يُسأل شفاعة إلا كتبها إلى أيّ مكان، فقال ملكهم: هذا حقيق بالإسعاف، أطلقوا أسيره".

أيها الناس: ليس الحديث عن مثل هذه الأمور هو دعوة للناس إلى السؤال، ولكن الحاجة ملحّة والضرورة قاسية، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ولكن لا يكن الواحد كمثل ذلك الفقير الذي سمعه رجل وهو يدعو يقول: اللهم ارزق المسلمين حتى يعطوني، فقال له الرجل: أتسأل ربك الحوالة؟!

عباد الله: إن الشفاعة والوساطة متى ما كانت في أمرٍ مشروع فهي مندوب إليها، إلا أنه ينبغي أن لا تكون الشفاعة هي مسيرة أمورنا وباعث إنتاجنا، إننا مطالبون بإكرام القريب والصاحب، ولكن ليس على حساب تعطيل مصالح أناس لا يجدون مثل ما تجد، فمن أين لهم ما يرغبون؟!

عباد الله: لست أدعو هنا أن نأخذ حقوق غيرنا عن طريق الشفاعات، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان". أيما شفاعة أخذت حق شخص مسلم فهي شفاعة محرمة، ينال وزرها الشافع فيها حال علمه بذلك. الشفاعة التي توصل الغر إلى مراكز الأسود شفاعة لا خير فيها بل ضررها عظيم.

وما أجمل الشفاعة التي توصل الحق إلى صاحبه، يوصل بها بين متخاصمين، يوصل بها أرحام متقاطعة، تُزال بها منكرات، ينال بسببها خير للمسلمين أجمع، (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].

أيها الناس: لو أنجزنا الأعمال بمثل المسؤولية التي تحملناها أمام الله أولاً ثم أمام ولاة الأمر لما احتاج صاحب الشأن للبحث عن شفيع أو وسيط، ولما احتاج الشفيع إلى بذل شفاعته، ولما صار الناس رهائن الشفاعات يبحثون عنها دائمًا.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]...
 

 

 

 

 

 

المرفقات
الواسطة والشفاعة2.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life