عناصر الخطبة
1/ زكاة الجاه 2/ تعريف الواسطة 3/ انتشار ظاهرة الواسطة في المجتمع 4/ الشفاعة المحمودة والشفاعة المذمومة 5/ شروط الشفاعة المحمودة 6/ مفاسد الشفاعة المذمومة 7/ فضل الأمانة والتحذير من الخيانةاهداف الخطبة
اقتباس
ومما عمت به البلوى اليوم انتشار الواسطة في كثير من الأمور، فلا تكاد تصل إلى حقّ من حقوق أو أمر تريده إلا بواسطة، وإن كان في ذلك تجنٍّ على الغير أو ظلم لهم، والسبب في كل ذلك ضعف الوازع الديني والانقياد الأعمى للعاطفة والمجاملة والمحاباة للآخرين، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)، فأمرهم الله أن يحتكموا إلى العدل لا إلى العاطفة في أداء الشهادة على وجهها دون مجاملة ولو كان في ذلك ..
أيها الإخوة المؤمنون: اعلموا أن للجاه زكاة، واعلموا أن للمكانة الاجتماعية زكاة، فاستعملوا ما خوّلكم الله من نعمة الجاه في خدمة عباد الله المستحقين لذلك، فإن أنتم فعلتم فقد امتثلتم أمر نبيكم –صلى الله عليه وسلم- الذي يقول في الحديث المتفق عليه: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء".
حديثنا اليوم عما يسمى في هذه الأيام بالواسطة أو كما يحلو للبعض بتسميتها بـ(فيتامين واو)، قال –صلى الله عليه وسلم-: "من نفّس عن مؤمنٍ كُربةً من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معْسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة". رواه مسلم. فالبخيل -يا عباد الله- هو الذي يستطيع أن ينفع المسلمين بجاهه ونفوذه دون منةٍ ولا مشقة، والمُفرّط هو الذي يتوسط للناس في كل الأمور دون التحقّق مما يفعل.
إن الواسطة هي الوقوف في صفّ من تربطه بك رابطة قرابة أو صداقه أو معروف، وتدافع عنه أو تشفع له أو تخاصم دونه، فإن كان في خير فلك نصيب من ذلك الخير، وإن كان غير ذلك فلك نصيب من ذلك الوزر، قال تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا) [النساء: 85].
ومما عمت به البلوى اليوم انتشار الواسطة في كثير من الأمور، فلا تكاد تصل إلى حقّ من حقوق أو أمر تريده إلا بواسطة، وإن كان في ذلك تجنٍّ على الغير أو ظلم لهم، والسبب في كل ذلك ضعف الوازع الديني والانقياد الأعمى للعاطفة والمجاملة والمحاباة للآخرين، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) [النساء: 135]، فأمرهم الله أن يحتكموا إلى العدل لا إلى العاطفة في أداء الشهادة على وجهها دون مجاملة ولو كان في ذلك ضرر على الوالدين أو الأقربين، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منفرًا عن ذلك: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضار الله -عز وجل-، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع". أي: حتى يرجع عن مخاصمته.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله؟! فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حِبُّ رسول الله؟! فكلمه فيها أسامة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟!"، ثم قام فاختطب فقال: "أيها الناس: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". متفق عليه. وفي رواية: فتلون وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أتشفع في حد من حدود الله؟!"، فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، قال: ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
ولكي تكون الواسطة أو الشفاعة شرعية يجب أن يتوفر فيها ثلاث شروط:
1- أن تكون الواسطة في أمر خير واضح بيّن ومتحقّق، كمن يتوسط بين متخاصمين للصلح بينهما، أو زوجين متنافرين ليجمع بينهما، أو التوسط بين دائن ومدين للرفق به وحط شيء من دينه... إلخ.
2- أن لا تكون الواسطة أو الشفاعة في سوء يغلب على ظنه، كمن يتوسط في تزويج فاسق أو توظيف سارق أو رجل غير كفء ظنًا أنه قد يستقيم بعد الزواج أو يتحسن بعد حصوله على الوظيفة.
3- أن لا يكون في الواسطة مِنَّةٌ ولا مذلةٌ لطالب الواسطة، فإن المنَّة أذى، وإن الذل لا ينبغي لأحد إلا بين يدي الله سبحانه وتعالى.
4- أن لا تكون الشفاعة أو الواسطة في حد من حدود الله، كمن يشفع في عدم إقامة حد قذفٍ مثلاً أو سرقة أو قصاص على من يستحقه، فيفشو في المجتمع الخبث، وتكثر الجرائم، وتتعطل حدود الله، ولا تقام إلا على الفقراء والضعاف في المجتمع، فيأمن المجرم العقاب الشرعي.
ولو نظرنا لمجتمعنا اليوم لوجدنا الواسطة تلعب دورًا مهمًا في حياة الناس، فيحصل على الوظيفة أحيانًا أناس لا يستحقونها، ويقبل في الكلية أو الجامعة طلبة دون المعدّلات المطلوبة، وقس على ذلك في كثير من القطاعات التي لها مساس كبير بحياة الناس ومستقبلهم، وإذا استمر الحال كذلك فإنّ الناس سوف يتكلون على الواسطة ويتركون التنافس الشريف فيما بينهم، فلماذا يتعلم الإنسان ويحاول الحصول على الدرجات العليا ويكدّ نهارًا ويسهر ليلاً إذا كان يستطيع الحصول على وظيفة أو تعيين في مكانٍ ما بشفاعة أو بخطاب تزكية من شيخ معروف أو من أمير مسؤول؟! وكذلك متى يتأدب ويُردع الفاسق والمجرم ويكفّ شره عن الآخرين إذا علم أنه ينجو من العقاب لأن قريبه فلان أو صديقه علان في الإدارة الحكومية الفلانية ويستطيع أن يغير الأمور لصالحه؟! وسيمتنع أهل الخير من فعل الخير إذا اكتشفوا أن من زُكِّي عندهم لا يستحقّ ذلك الخير لأن التزكية كانت غير صحيحة أو مبالغًا فيها، وهذا الشيء انتشر كثيرًا وصار طالب التزكية يغضب إذا لم يكتب له في التزكية ما يريده هو لا ما يعرفه عنه المزكي.
ولو ذهبنا لتقصي العمائر –كمثال- التي يوقفها أصحابها جزاهم الله خيرًا، وهو ما يسمى بالأربطة؛ لوجدنا بعضًا ممن يسكنها ممن هم ميسورو الحال ولهم سكن آخر ومؤجّر، وما أتى بهم هنا إلا الواسطة الظالمة، أما المالك فقد لا يعلم من هذا شيئًا. وهذه الواسطة الظالمة تظن أنها فعلت خيرًا ولا تعلم أنها خانت الأمانة وحرمت مستحقًا للسكن وأعطته للآخر.
ألا فلنتق الله يا عباد الله، ولنعلم أن الواسطة والشفاعة أمانة، وأن خطابات التزكية والتوصية أمانة، ولا يجوز فيها المجاملة، وأنها والله يوم القيامة خزي وندامة، فكم من صاحب حق منع حقه بشفاعة أو واسطة ظالمة وغير شرعية، وأعطي هذا الحق لمن لا يستحقه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يحب المبادرين إلى فعل الخيرات، ويوفق من يمشي في حاجات الناس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحب من الناس أنفعهم للناس، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، ما دُعي إلى خير فقال: لا. أيمن الناس نقيبة، وأعظمهم فضلاً، وأبذلهم للتضحية، فصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها الإخوة المؤمنون: كما ذكرنا أن الواسطة والشفاعة تعتبر أمانة ولا يجوز التفريط فيها، فإن الأمانة شيء عظيم، تصان بها حقوق الله وحقوق الناس، إنها ميزةٌ فريدةٌ يتميز بها الإنسان الفاضل والمرء النبيل، وتشمل كلّ ما يُوكلُ للمرء من عملٍ ويكلّف به من أمر، إنها داخلة في علاقة المرء بربه وعلاقته بالناس أجمعين، وحقوق الجلساء والأصدقاء أمانة، ومن الخيانة أن تفشَى أسرارُها وتعلنَ أخبارها، وهي من أمانة المجلس، والودائع التي يودعها الناس بعضهم بعضًا ليحفظوها ويردوها عند طلبها أمانات من أعظم الأمانات، وقد رد نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- ودائع المشركين عندما أراد الهجرة، مع أن أصحابها كفار ألحقوا به الأذى وطردوه من داره وأهله، ولكنه الشريف الأمين الذي لا ينحدر إلى هذه المنحدرات -صلى الله عليه وسلم-، وإذا فَقَدت أمة من الأمم الأمانة فلن تجد إلا آفات جائحة ومصائب مهلكة وفقرًا مُعْوِزًا، وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ضيعت الأمانة ووسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة". أو كما قال. وبعد ضياع الأمانة يسقط البناء ويُسلب الأمن وتضيع حقوق الناس وتفتح أبواب الفقر والفاقة وتغلق على الأمة طرق الخير، وعند ذلك تنقرض هذه الأمة بانتشار الفساد وتسلط أهل الجبروت من حكام وغيرهم. وما أُغلقت بيوت عامرة وتفرقت أسرٌ كانت كريمة إلا نتيجة الخيانة في المعاملات السرية المكتوبة والشفاعات غير المشروعة التي تتلاعب بأقدار الرجال وتحطم كفاءات الأكفاء، فيتحكم السفيه في حق الشريف، ويستبد القويّ بحقّ الضعيف.
فاتقوا الله عباد الله، وأدوا الأمانات إلى أهلها في كل جانب من جوانب الحياة، ولا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم، وقد أخبر نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"، وقال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً) [الأحزاب: 72]، ظلومًا لنفسه عندما عصى ربه، وجهولاً بعاقبة تفريطه وما يلحقه من العقاب؛ لإخلاله بما التزمه دينًا وائتمن عليه. فنسأل الله أن يوفقنا جميعًا لأداء الأمانات على الوجه الذي يرضي ربنا.
ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمةً للعالمين، كما أمركم بذلك رب العالمين حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صل وسلم عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان...
التعليقات