عناصر الخطبة
1/ مأساة متكررة 2/ صور العضل وأحكامه 3/ أسباب العضل ووسائله 4/ وأد الآمال والطموحات وقتل الحقوق والتطلعات 5/ الجانب الضعيف في الأسرة 6/ أسباب انحراف بعض الفتيات 7/ حكم الولي العاضل لموليته 8/ مفاسد العضل وآثاره الاجتماعية 9/ نصائح للفتاة المعضولة المظلومة، ووصايا لعاضلهااهداف الخطبة
اقتباس
إن ما نشاهده في مجتمعنا من صور الانحراف؛ من فتاة معاكسة، وأخرى تتمايل في مشيتها، وثالثة تتباهى بزينتها، ورابعة تخضع في قولها، وخامسة تركب مع مَن لا يحل لها، كل هذه المشاهد وأمثالها صدى لنفسية محطّمة وشعور بالقهر والحرمان، وإظهار للتمرد على القيم وانتقام من الولي يوم أن حالَ بينها وبين إشباع رغبتها وتصريف ..
الحمد لله الذي يعلم سركم وجهركم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: (جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) [النحل:72]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله رحمة من الله وحجة على الخلق أجمعين، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) [الأحزاب:70].
ويستمر مسلسل المنفّرين عن الدين والمشوّهين لصورته، وقد سبق حديث عن المنفرين عن الدين في السفر، وحديث آخر عن المنفّرين عن الدين في الحضر، وهذا حديث عن صنف من البشر منفِّر عن الدين داخل البيوت وفي الأسر.
حديث تسطّره فتاة عبر صرخة مدوية من الأعماق ترسم فيها المعاناة؛ حيث تقول:
لمـا كتـبتُ رسالتي ببنـاني *** والدَّمعُ قد ذرفـت به العينانِ
أرسلتها للوالد الغـالي الـذي *** قد ضـمّني بـرعاية وحنانِ
أرسلتـها ووددت أني لم أقـل *** لكن تلهّبَ خاطري وكياني
أرسلتُها والـدّمُع خـط مدادَه *** وكتبتُها من واقعي الحيرانِ
فلقد كتمتُ من الهموم ولم يزل *** متفطّرًا قلـبي من الكتمانِ
لمّا رأيتُ مفـارقي قد أُضرمت *** بالشيب إن الشيب كالنيرانِ
يا والدي لا تحـرمنَّ شـبيبتي *** فلقد مضى عمرٌ من الأحزانِ
لمّا أرى الأطفال تذرفُ دمعتي *** ويئنُّ قلبي مـن لظى الحرمانِ
لمّا أرى غيري تعيش وزوجَها *** وبنيُّهـا قـد نام في الأحضانِ
لمّا أراها والحنان مـع ابنـها *** ينتـابني شـيءٌ يدكُّ جَنـاني
يا والدي لا تقتـلنِّي بالأسى *** قتلاً بـغـير مهـندٍ وسِنـانِ
يا والدي قد سنَّ ربي هكذا *** لا بد مـن زوج ومـن ولدانِ
هذا قضاء الله حـكمًا عادلاً *** قد سـنَّه ربي على الإنسـانِ
إن كنتَ تبغي راتبي ووظيفتي *** فخذ الذي تبـغي بـلا أثمانِ
أو كنت تبغي بيع بنتك للذي *** دفع الكـثير فـذاك أمرٌ ثاني
هذا وربِّ البيـت بيعٌ كاسد *** بيعٌ كبيع الـشاة والخرفـانِ
أبتاه حسبُك لا تُضِعْ مستقبلي *** أوَ ما كفى ما ضاع من أزمانِ
إن لم تزلْ لم تلتفتْ لرسالتي *** فـاعلم بأن الله لـن ينسـاني
يوم القيامة نلتـقي لحسابنا *** عنـد الإلـه الـواحد الديـانِ
وأتت جهنم والملائكُ حولها *** ورأيـتَ ألسـنةً مـن النـيران
فهناك تعـلمُ حقَّ كل بُنَيَّة *** سُجنت بلا حـقٍ ورا القضـبان
إنها صرخة من آلاف الصرخات ممزوجة بالهم والحزن تنبعث من بيوتات بعض المسلمين ممن وليها رجالٌ نُزعت من قلوبهم الرحمة، وقلّت عندهم المروءة، وضعف خوف الله في نفوسهم.
في داخل بعض البيوت نُسجت خيوط جريمة، وبدأت خطوات انحراف، ونشأت أمراض نفسية، وتقطعت علاقاتٌ أسرية، والسبب فتاة حرمها وليُّها من حقها المشروع.
إنها صورة لمأساة تتكرر في أكثر من مكان، صورة بغيضة لنوع جديد من أنواع الوأد البغيضة التي حرّمها الإسلام، ولئن كان الجاهليون قديمًا وأدوا الأنثى بدفنها وهي حية حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة ظلمًا وعدوانًا بلا ذنب جنته سوى كونها أنثى، فإن فئة من الآباء والأولياء الظلمة يمارسون لونًا جديدًا وعنيفًا من ألوان الوأد المحرم شرعًا، ألا وهو العضل، والعضل: منع الفتاة من الزواج طمعًا في مالها أو وظيفتها أو انتقامًا من أمها، أو استسلامًا لكيد زوجة ثانية.
العضل: منع الفتاة الصغيرة من الزواج؛ انتظارًا لأختها الكبرى التي لم يأتِ رزقها، العضل إجبار الفتاة على ابن عمها، وحجرها على قريبها؛ استجابةً للعادات والتقاليد البائدة، العضل تزويج الفتاة بمن لا يكافئها عمرًا أو دينًا أو نسبًا؛ تلبيةً لمطامع دنيوية، وإرضاءً لنزوات شيطانية.
العضل ترك الفتاة التي لم يتقدم لها من يخطبها فتمر عليها السنون ويتقدم بها العمر ووليها لا يحرك ساكنًا، ولا يعرضها على من يرضى دينه وخُلقه أنفةً وكبرياءً واستحياءً، العضل رد الخُطّاب الأكفاء بفرض شروط تعجيزية من مهور غالية ومطالب خيالية.
العضل اشتراط شروط مثالية في الخاطب يعز وجودها، وكأن الولي ينتظر لابنته أبا بكر أو عمر!!
العضل بكل صوره وأد للآمال والطموحات، وقتل للحقوق والتطلعات، إنه حرمان لحق من الحقوق الشرعية التي كفلها هذا الدين العظيم لتلك المرأة الضعيفة التي استرعى الله -عز وجل- الأولياء على حقوقها؛ ليقوموا بصيانتها، والحفاظ عليها، وتأديتها على الوجه الذي يرضيه -عز وجل-.
إن المرأة هي الجانب الضعيف في الأسرة، قد كان من الطبيعي أن يعمل الإسلام على حمايتها من العواصف، ووقايتها من الفتن، وأن يُعْنَى بتوفير الضمانات اللازمة لها حتى لا تكون عُرضة لتجارب قاسية لا تستطيع تحملها.
لكن فئة من الأولياء ذهبت إلى التلاعب بحقوقها وتضييعها دون مراعاة لكرامة هذه الإنسانة، ودون استشعار لآدميتها وأحاسيسها ومشاعرها، فهي بشر كسائر البشر لها آمال وآلام، ولها طموحات وأحلام، تحلم كغيرها بالزوج الرحيم، وبالمسكن الكريم، وتحلم بأن يكون لها يومًا ما منزل تسكن إليه وأطفال تحن عليهم صغارًا ليحنوا عليها كبيرة.
ولكن تُقابَل بأب ظالم وولي قاسٍ، الولي وبكل بساطة يدوس على أحلامها ويحطم مشاعرها بكل عنجهية وغلظة، فيعضلها عن حقها، ويسقيها كأس الحسرات فتتجرعه وهي تتجرع معه ألوان الزفرات والحشرجات التي تبين عن فؤاد مكلوم، وقلب والهٍ مفجوع لا يستطيع أن يبوح بما يختلج داخله بسبب مانع الحياء والخوف، فيا لها من فتاة مظلومة! وما أعظم ظلم الأولياء! وما أعظم جفاء الآباء!
يا أيها الآباء والأولياء: لقد حرم الله -تبارك وتعالى- العضل بنص الكتاب المبين وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) [البقرة:232]، وفي سبب نزول هذه الآية أن معقل بن يسار -رضي الله عنه- زوَّج أخته لرجل فطلقها زوجها طلقة رجعية وتركها حتى انقضت عدتها، وأراد زوجها إرجاعها فحلف معقل أن لا يزوجها، فنزلت هذه الآية وهي نص صريح في أنه ليس من حق الوليّ أن يمنع موليته من النكاح ممن توافرت فيه الشروط الشرعية، وأن المانع من النكاح يجب أن لا يرتبط بحاجة شخصية أو علة نفسية.
قال شيخ الإسلام: "فليس للولي أن يجبرها على نكاح من لا ترضاه، ولا يعضلها عن نكاح من ترضاه إذا كان كفؤًا لها، باتفاق الأئمة، وإنما يجبرها ويعضلها أهل الجاهلية والظلمة، الذين يزوّجون نساءهم لمن يختارونه لغرض، لا لمصلحة المرأة، ويكرهونها على ذلك أو يخجلونها حتى تفعل، ويعضلونها عن نكاح من يكون كفؤًا لها، لعداوة أو غرض، وهذا كله من عمل الجاهلية والظلم والعدوان، وهو مما حرمه الله ورسوله، واتفق المسلمون على تحريمه". انتهى كلامه -رحمه الله-.
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخُلقه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".
فيا لله! كم من الفتنة والفساد الكبير الذي تسبب به العاضلون لبناتهم في أرض الله -عز وجل-!! وأي فتة وأي فساد أكبر من فساد فتيات كثيرات، واضطرهن إلى الزلات المقيتة داخل البيوت وخارجها بعد أن رُدّ عنهن الخطاب، وقفل أمام أحلامهن الباب.
ألم يستشعر مثل هؤلاء الأولياء أنهم بمثل هذه الجناية يقتلون بناتهم ومولياتهم في اليوم الواحد مئات المرات!! ألم يدرك هؤلاء كم جر العضل من مآسٍ ونكبات ومصائب، ألم يسمعوا عن فتيات حاولن الانتحار فرارًا من الهموم والأحزان، وتخلصًا من العُقَد النفسية التي أصابتهن نتيجة حرمانهن من جنة الزواج.
ألم يسمعوا عن فتيات سلكن دروب الرذيلة والانحراف بعد أن جرفتهن الشهوات وأثارتهن الغرائز، وفقدن التصريف الشرعي لها بعد أن تسلط الآباء والأولياء، ألا ما أظلم الآباء والأولياء لفتياتهم المعضولات!! وما أقرب هؤلاء الفتيات بأن تزل أقدمهن تحت ضغط الحرمان المتعمد وتأثير المغريات القريبة والفتن الميسورة!!
ألم يدرك هؤلاء أنهم بعضلهم شوّهوا صورة الإسلام، وفتحوا ثغرة للناعقين باسم حقوق المرأة ليطالبوها بالعقوق والتمرد على شريعة الإسلام والتخلص من القوامة التي شرعها الله؟!
متى يدرك هؤلاء أنهم بعضلهم يزرعون بذور الفحشاء، ويغرسون نبتات الجريمة في المجتمع، فإن الفتاة إذا حُرمت مصدرًا من مصادر سعادتها وجنة من جنان بهجتها دفعها ذلك إلى التمرد وروح التحدي، ورسمت ذلك في صورة انحراف وانجراف إن لم يحفظها الله ويربط على قلبها.
إن ما نشاهده في مجتمعنا من صور الانحراف من فتاة معاكسة، وأخرى تتمايل في مشيتها، وثالثة تتباهى بزينتها، ورابعة تخضع في قولها، وخامسة تركب مع من لا يحل لها، كل هذه المشاهد وأمثالها صدى لنفسية محطمة وشعور بالقهر والحرمان، وإظهار للتمرد على القيم وانتقام من الولي يوم أن حال بينها وبين إشباع رغبتها وتصريف شهوتها بالطريق الحلال، فمتى أيها الآباء والأولياء تدركون!!
إن العضل -يا هؤلاء- مسلك من مسالك الظلمة الذين يستغلون حياء المرأة وخجلها وبراءتها وحسن ظنها وسلامة نيتها، وما ذلك إلا لعصبية جاهلية، أو حمية قبلية، أو طمع في مزيد من المال، أو أنانية في الحبس من أجل الخدمة.
لقد نهاكم ربكم -عز وجل- عن عضل النساء مهما كانت المبررات، فما بال بعض الآباء قد صُمَّت آذانهم حتى كأنهم لا يسمعون شيئًا، فأين هم عن قول الله -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) [النساء:19].
إن العاضل لابنته أو موليته من الزواج ظالم ظالم ظالم، مهدد بإسقاط حق الولاية منه؛ لأنه لم يقم بحق الأمانة التي استرعاه الله عليها، وقد قال العلماء: "إذا تكرر من الولي رد الخاطب من غير سبب صحيح صار فاسقًا، ودخل عليه النقص في دينه وإيمانه".
متى يدرك الآباء والأولياء أنهم بعضلهم بناتهم يزرعون الأحقاد والعداوات والتفكك الأسري، فكم من فتاة معضولة تتمنى موت وليها! وكم من فتاة معضولة تدعو على أبيها أو أخيها! ومن منا ينسى تلك الفتاة التي جاءها الموت بعد سنين من الحرمان، فقالت لأبيها في ساعاتها الأخيرة: قل: آمين، ثلاث مرات، ثم قالت: "حرمك الله الجنة كما حرمتني من السعادة".
فمن منا ينتظر هذه النهاية، ومن منا يرضى هذه التعاسة لبناته؟! وما قيمة الدنيا وكنوزها إذا كان الثمن تعاسة ثمرات الفؤاد وفلذات الأكباد.
ألا ليت الآباء والأولياء العاضلين يدركون أنهم بعضلهم أصبحوا من الظالمين، وإن الله لا يحب الظلم ولا الظالمين.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقبل أن تغرق السفينة في هذا الخضمّ العميق من الفساد والضياع والتخبط، وفي ضرام هذا القصف الجنسي الذي تتعرض له أجيالنا لا بد أن يقوم كل منا بواجبه، و(لْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) [البقرة: 283].
ولأن العضل للنساء أصبح شبه ظاهرة في مجتمعنا؛ نتيجة لطغيان الروح المادية، وسيادة مشاعر الأنانية لدى البعض، فقد صدر سابقًا عن هيئة كبار العلماء بيانٌ بأنه "لا يجوز لأولياء أمور النساء التحجير عليهن أو إجبارهن على الزواج بمن لا يوافقن عليهن، وعدّت من يصر على ذلك بأنه عاصٍ لله ولرسوله"، وموجهة تحذيرًا لمن لم ينتهِ عن هذه العادة التي أسمتها بالجاهلية التي أبطلها الإسلام بأنه سيُعاقب بالسجن، ولن يتم الإفراج عنه إلا بعد تخليه عن مطلبه المخالف لأحكام الشرع، والتزامه بعدم الاعتداء على المرأة أو وليها. وإن على القضاة مسؤولية في القضاء على هذا الظلم، وذلك بأن يكون له دور بارز في مناصرة النساء المعضولات والتشديد على الأولياء الظالمين.
ويا أيتها الفتاة المسلمة المعضولة: إن الله جاعل لكِ فرجًا قريبًا ومخرجًا، وإن أحكام الشريعة كفيلة للحصول على حقوقك، وإن تصبري وتتقي فإن ذلك من عزم الأمور.
إنه إذا استبد الولي بالأمر، وأكره موليته على زواج لا تريده، كان لها أن ترده، فهذه هي خنساء بنت خدام استُشهد زوجها أنيس بن قتادة في غزوة بدر، فزوّجها أبوها وهي كارهة، فشكت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "إن أبي أنكحني وإن عمّ ولدي أحب إليّ"، فرد -صلى الله عليه وسلم- نكاحها.
إذا ابتُليتي بولي جائر فاقد للمشاعر الإنسانية متجرد من الآداب الإسلامية حالَ بينك وبين ما تشتهين من جنة الزواج فوسِّطي من تثقين به من قريب أو عالم أو جهة شرعية، أو ارفعي أمرك للقضاء بعد أن تبذلي الوسائل الإصلاحية من داخل أسرتك.
ولا يمنعك حياء ولا خوف، فإنه لا حياء في نيل الحقوق ورد العقوق.
وختامًا أوجّه كلمات إلى الأولياء الذين في قلوبهم مثقال ذرة من إيمان، وحبة خردل من خوف من الله تعالى، إلى الذين وقفوا حجر عثرة أمام بناتهم في طريق حقوقهن المشروعة، وصنعوا بينهن وبين جنة السعادة برزخًا وحجرًا محجورًا، إلى هؤلاء أوجه كلمات عتاب وتخويف بالله رب الأرباب: يا هؤلاء: بعد أن عرفتم من الحكم الشرعي في العضل ما علمتم، وأدركتم من آثاره ومخاطره ما أدركتم، فهل أنتم بعد ذلك منتهون؟!
يا معشر الأولياء: أحدكم إذا اشتدت شهوته وتحركت غريزته أوى إلى زوجته في غرفته ليسكن إليها ويغشاها ويبادلها المشاعر الفياضة والأحاسيس الصادقة، ألا فليتذكر أنه على بعد خطوات منه وفي غرفة من غرفات بيته تنبعث روائح الهم والأحزان، وتتقد جمرة من جمرات الصراع مع النفس والهوى؛ حيث فتاة حُرمت ممن يشاركها مشاعرها، ويُطفئ نار غريزتها، ويبادلها العواطف الجياشة في طهر وعفاف وأمان من الانحراف.
يا أيها الولي: حرام والله ثم حرام أن تحرم موليتك حقًّا من حقوقها، وأن تساهم في إيقاد جذوة عذابها، بادر إلى تزويجها إذا بلغت سن الزواج، ولا تنتظر خاطبًا يقصدها، بل اعرضها على من ترضى دينه وخُلقه وذلل أمام زواجها كل الصعاب، وأدخلها جنة النكاح قبل أن تقع في بؤر الانحراف إن لم يعصمها الله بالدين والعفاف.
لست بأفضل من عمر -رضي الله عنه-، ولا بناتنا بأفضل من بناته، وقد عرض ابنته على أبي بكر وعثمان، ولسنا بأحسن من سعيد بن المسيب وقد عرض ابنته ذات الصلاح والعلم والجمال على تلميذ فقير من تلاميذ حلقته بمهر لا يزيد عن درهمين.
ليس العيب والعار أن تعرض ابنتك على شاب صالح عاقل، ولكن العيب والعار أن تتركها تصارع الوساوس والهموم والأفكار.
ليس العار أن تبحث لها عن زوج كفء يليق بها، ولكن العار أن تتركها تبحث عن صديق أو ذئب بشري يشاركها عواطفها زورًا ويشبع غريزتها فجورًا.
يا أيها الولي: وأنت تنعم بحياة هادئة في بيت كريم وزوجة صالحة وأولاد بررة، تذكر أن المرأة الأسيرة لديك تحلم بهذه الحياة، وتنتظرها وتحن إليها، فهل من الرحمة والشفقة أن تحرمها خوفًا أو طمعًا.
إذا كان الزواج -أيها الأولياء- في كل الأزمان مشروعًا ومطلوبًا فهو في هذا الزمن أحرى وأولى؛ حيث هيجان الغرائز واشتعال الشهوات وتيسر سبل الانحراف.
يا أيها الولي: تذكّر حينما تحرم ابنتك وتؤخر زواجها وتمنعها حقها أنك ظالم، والظلم ظلمات، ودعوة المظلوم مستجابة، والرب يقول: "لأنصرنك ولو بعد حين".
وتذكر أن موليتك ستقف خصيمة لك يوم القيامة بين يدي الملك العدل، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، وحينها ستعلم عاقبة القهر والظلم والحرمان، ولكن في ساعة لا ينفع فيها الندم.
يا معشر الأولياء: إن لم يحرككم الدين والخوف من رب العالمين، فلتحرك مواقفكم مشاعركم الإنسانية وعواطفكم الأبوية والأخوية تجاه قلوب تتقلب على جمرٍ لظلم القريب وقلة الناصر.
هذه كلمتي إليكم -يا معشر الآباء والأولياء- سطرتها نصحًا لكم، وخوفًا على الأمة وأجيالها، وشفقة على القوارير في بيوتكم، فرفقًا بالقوارير قبل أن تتحطم وتتكسر، وكسرها لا يُجبَر.
اللهم هبْ لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين...
التعليقات