عناصر الخطبة
1/ أهمية التوازن بين العلم والعمل 2/ أحوال الصحابة والسلف في تلقي العلم وحفظ القرآن 3/ من أسباب الغلو: تجاوز العمل للعلم 4/ تأملات عجيبة في حياة عبد الرحمن بن ملجم 5/ الشبهة تعمي القلب 6/ خطورة استحلال دماء المسلمين بالشبهات 7/ تحريم الاعتداء على حرس الحدود.اهداف الخطبة
اقتباس
كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ يَحْمِلُ قُرْآنًا لَا يَفْهَمُ مَعَانِيهِ، وَكَانَ عَمَلُهُ أَسْرَعَ مِنْ عِلْمِهِ، فَلَيْسَ لَهُ تَمَكُّنٌ مِنَ الْعِلْمِ يَضْبِطُ عَمَلَهُ؛ فَتَمَكَّنَتْ مِنْهُ الشُّبْهَةُ فَفَتَكَتْ بِقَلْبِهِ، وَأَفْسَدَتْ عَلَيْهِ إِيمَانَهُ، فَعَمَدَ إِلَى أَصْلَحِ النَّاسِ فِي زَمَنِهِ فَاسْتَحَلَّ دَمَهُ. لِنَتَأَمَّلْ -عِبَادَ اللَّـهِ- كَيْفَ فَتَكَتِ الشُّبْهَةُ بِقَلْبِ قَارِئِ الْقُرْآنِ، حَتَّى اسْتَحَلَّ خِيَارَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي زَمَنِهِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي وَقْتِ السَّحَرِ، وَعَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُؤَدِّي طَاعَةً فَيُنَادِي عَلَى النَّاسِ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ، فَمَا حُجَّةُ قَاتِلِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ اللَّـهِ -تَعَالَى-؟! إِنَّهَا الشُّبْهَةُ الَّتِي تَغْشَى الْقَلْبَ فَتَحْجُبُهُ عَنِ الْحَقِّ، وَتُعْمِي الْبَصَرَ عَنْ رُؤْيَتِهِ، وَتُغَطِّي الْأُذُنَ عَنْ سَمَاعِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِالْقُرْآنِ وَلَوْ كَانَ يَقْرَؤُهُ، وَلَا يَكُفُّ يَدَهُ عَنِ الدَّمِ الْحَرَامِ مَعَ عِلْمِهِ بِحُرْمَتِهِ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِالِلَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَـدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: إِذَا أَرَادَ اللهُ -تَعَالَى- بِالْعَبْدِ خَيْرًا تَوَازَنَ عِلْمُهُ مَعَ عَمَلِهِ، وَزَادَ إِيمَانُهُ بِزِيَادَةِ عِلْمِهِ. وَإِذَا خُذِلَ الْعَبْدُ تَجَاوَزَ عَمَلُهُ عِلْمَهُ فَمَاجَ بِهِ الْغُلُوُّ مَوْجَةً تُخْرِجُهُ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَرُبَّمَا مَرَقَ مِنَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، أَوْ نَقَصَ إِيمَانُهُ بِزِيَادَةِ عِلْمِهِ فَسَخَّرَ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَضَلَّ بِعِلْمِهِ وَأَضَلَّ غَيْرَهُ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَجَدَ عِنْدَهُمْ تَوَازُنًا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَيُتْبِعُونَ الْعِلْمَ الْعَمَلَ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْعِلْمَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْعَمَلِ، فَكَانُوا وَقَّافِينَ عِنْدَ النُّصُوصِ، مُجْتَنِبِينَ الْأَهْوَاءَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ فَقِهُوا النُّصُوصَ حِينَ حَفِظُوهَا، وَازْدَادُوا بِهَا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ، يُوَضِّحُ ذَلِكَ كَلَامٌ لِعَبْدِ اللَّـهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَهُوَ الَّذِي رُبِّيَ عَلَى تَعْظِيمِ النَّصِّ، فَعَلِمَ كَيْفَ يَتَعَامَلُ مَعَ الْفِتَنِ حِينَ ثَارَتْ فِي عَصْرِهِ، يَقُولُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحْدَثَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ فِيهَا كَمَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ» ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ، يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ».
هَذَا الَّذِي قَالَ هَذَا الْكَلَامَ مَكَثَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِي سَنَوَاتٍ يَتَعَلَّمُهَا، مَعَ أَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ يَحْفَظُهَا الذَّكِيُّ فِي جُمْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَحْفَظُهَا الْغَبِيُّ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ يَمْكُثُ فِيهَا ابْنُ عُمَرَ ثَمَانِيَ سَنَوَاتٍ؟! مَعَ أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ لَا يَسْمَعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمُ الشَّيْءَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَّا حَفِظَهُ مَهْمَا كَانَ طَوِيلًا!
وَأَعْجَبُ مِنْ خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ خَبَرُ وَالِدِهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا حَدَّثَ عَنْهُ ابْنُهُ فقَالَ: تَعَلَّمَ عُمَرُ الْبَقَرَةَ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمَّا خَتَمَهَا نَحَرَ جَزُورًا.
إِنَّ عُمَرَ وَابْنَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لَمْ يَقْتَصِرَا عَلَى حِفْظِ السُّورَةِ، وَإِتْقَانِ حُرُوفِهَا فَقَطْ، وَإِنَّمَا مَكَثَا هَذِهِ السَّنَوَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِيَتَعَلَّمَا مَا فِيهَا مِنَ الْإِيمَانِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ مَلِيئَةٌ بِمَعَانِي الْإِيمَانِ، غَزِيرَةٌ بِالْأَحْكَامِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ مَكَثَ ثَمَانِيَ سَنَوَاتٍ أَوْ ثِنْتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً يَغْتَرِفُ مِمَّا فِيهَا مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَحْكَامِ؟!
وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي تَعَلُّمِ الْإِيمَانِ مَعَ الْقُرْآنِ مَقْصُورَةً عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ دُونَ بَعْضٍ كَابْنِ عُمَرَ وَمَنْ سَارَ سِيرَتَهُ فِي الْعِلْمِ، بَلْ كَانَ هَدْيًا عَامًّا لِلصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَسَجِيَّةً مِنْ سَجَايَاهُمْ، وَمَظْهَرًا مِنْ مَظَاهِرِ التَّعَلُّمِ عِنْدَهُمْ، وَمَنْهَجًا يَخْتَطُّهُ الشُّيُوخُ لِتَلَامِذَتِهِمْ، كَمَا قَالَ التَّابِعِيُّ الْكَبِيرُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِنَّا أَخَذْنَا الْقُرْآنَ عَنْ قَوْمٍ فَأَخْبَرُونَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهُنَّ إِلَى الْعَشْرِ الْأُخَرِ حَتَّى يَعْمَلُوا مَا فِيهِنَّ مِنَ الْعِلْمِ، قَالَ: فَتَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا، وَإِنَّهُ سَيَرِثُ هَذَا الْقُرْآنَ قَوْمٌ بَعْدَنَا يَشْرَبُونَهُ كَشُرْبِهِمُ المَاءَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، قَالَ: بَلْ لَا يُجَاوِزُ هَهُنَا، وَوَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ».
وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّـهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ)، وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ: «فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ».
وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا وَبَيَانًا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-مَا-: «كَانَ الْفَاضِلُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يَحْفَظُ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا السُّورَةَ أَوْ نَحْوَهَا، وَرُزِقُوا الْعَمَلَ بِالْقُرْآنِ، وَإِنَّ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مِنْهُمُ الصَّبِيُّ وَالْأَعْمَى وَلَا يُرْزَقُونَ الْعَمَلَ بِهِ».
وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْفَهْمِ وَالْعَمَلِ، وَتَقْدِيمِهَا عَلَى كَثْرَةِ الطَّلَبِ وَالْحِفْظِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ) [البقرة: 121]، جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ. وَلَا يُمْكِنُ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا إِلَّا بِفَهْمِ مَا يَقْرَأُ، وَلَنْ يَعْمَلَ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي جَمْعِ الْإِيمَانِ مَعَ الْقُرْآنِ، وَاقْتِرَانِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ، وَإِلَّا لمَا كَانَ ثَمَّةَ اتِّبَاعٌ.
لَقَدْ كَانَ إِيمَانُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَنْمُو وَيَزْدَادُ مَعَ كُلِّ آيَةٍ يَقْرَؤُونَهَا، وَمَعَ كُلِّ حَدِيثٍ يَسْمَعُونَهُ، وَمَعَ كُلِّ مَجْلِسِ مَوْعِظَةٍ يَحْضُرُونَهُ؛ فَاتِّسَاعُ عِلْمِهِمْ كَانَ مُضْطَرِدًا مَعَ زِيَادَةِ إِيمَانِهِمْ، فَضَبَطَ إِيمَانُهُمْ عِلْمَهُمْ، وَزَادَ عِلْمُهُمْ إِيمَانَهُمْ، فَلَمَّا ثَارَتِ الْفِتْنَةُ وَاجَهُوهَا بِإِيمَانٍ وَعِلْمٍ، فَكَانَ اخْتِيَارُهُمْ فِي مَسَالِكِهَا أَحْسَنَ اخْتِيَارٍ، فَمَنِ اعْتَزَلُوا الْفِتَنَ سَلِمُوا، وَمَنِ اضْطُرُّوا لِمُوَاجَهَتِهَا كَانُوا بَيْنَ أَجْرٍ وَأَجْرَيْنِ.
وَخَلَفَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- خُلُوفٌ كَانَ فِيهِمْ مَنْ تَجَاوَزَ عَمَلُهُ عِلْمَهُ فَوَقَعُوا فِي الْغُلُوِّ المَذْمُومِ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَدَيْهِمْ يَضْبِطُ عَمَلَهُمْ حَتَّى لَا يُجَاوِزُوا بِهِ الْحَدَّ الشَّرْعِيَّ، وَمِنْ أَبْيَنِ الْأَمْثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ المُرَادِيُّ قَاتِلُ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَإِنَّهُ مَا قَتَلَهُ إِلَّا تَدَيُّنًا وَحِسْبَةً، وَمَنْ قَرَأَ سِيرَتَهُ عَجِبَ مِنْهَا؛ إِذْ كَيْفَ يَنْحَرِفُ هَذَا الِانْحِرَافَ الْخَطِيرَ حَتَّى يَرَى أَنَّ مِنَ الدِّينِ قَتْلَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، بَلْ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصِّبْيَانِ، وَمَكَانُهُ مِنَ الْإِسْلَامِ لَيْسَ يَخْفَى عَلَى مُسْلِمٍ، وَهُوَ مِنَ الْعَشَرَةِ المَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَزَوَّجَهُ النَّبِيُّ ابْنَتَهُ؟!
كُلُّ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ يَخْتَفِي وَيَتَلَاشَى مَعَ الشُّبْهَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ المَلْعُونَةِ الَّتِي لَا تَجِدُ عِلْمًا يَدْحَضُهَا، وَتَجِدُ عَمَلًا يَسْعَى بِصَاحِبِهَا إِلَيْهَا، حَتَّى تَتَمَكَّنَ مِنْ قَلْبِهِ فَتَفْتِكَ بِهِ، فَيَظُنَّ أَنَّهُ يُحْسِنُ صُنْعًا، وَقَدْ وَقَعَ فِي أَسْوَأ عَمَلٍ.
كَانَ ابْنُ مُلْجَمٍ فَارِسًا شُجَاعًا شَارَكَ فِي فَتْحِ مِصْرَ، وَكَانَ مِنَ الْعُبَّادِ المُتَأَلِّهينَ، وَمِنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ المَشْهُورِينَ، قَرَأَهُ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَفَى بِهِ تِلْمِيذًا لِلْجَبَلِ ابْنِ جَبَلٍ، وَبَلَغَ مِنْ إِتْقَانِهِ حُرُوفَ الْقُرْآنِ أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنْ قَرِّبْ دَارَ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ مُلْجَمٍ مِنَ المَسْجِدِ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ، فَوَسَّعَ لَهُ مَكَانَ دَارِهِ.
كَانَ ابْنُ مُلْجَمٍ يَحْمِلُ قُرْآنًا لَا يَفْهَمُ مَعَانِيهِ، وَكَانَ عَمَلُهُ أَسْرَعَ مِنْ عِلْمِهِ، فَلَيْسَ لَهُ تَمَكُّنٌ مِنَ الْعِلْمِ يَضْبِطُ عَمَلَهُ؛ فَتَمَكَّنَتْ مِنْهُ الشُّبْهَةُ فَفَتَكَتْ بِقَلْبِهِ، وَأَفْسَدَتْ عَلَيْهِ إِيمَانَهُ، فَعَمَدَ إِلَى أَصْلَحِ النَّاسِ فِي زَمَنِهِ فَاسْتَحَلَّ دَمَهُ.
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «فَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ وَمَعَهُ سَيْفٌ مَسْلُولٌ حَتَّى أَتَى مَسْجِد الْكُوفَة، وَخَرَجَ عَلِيٌّ مِنْ دَارِهِ وَأَتَى المَسْجِدَ، وَهُوَ يَقُول: أَيُّهَا النَّاسُ، الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، أَيُّهَا النَّاسُ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَكَانَتْ تِلْكَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَصَادَفَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ مِنْ خَلْفِهِ ثُمَّ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ ضَرْبَةً مِنْ قَرْنِهِ إِلَى جَبْهَتِهِ..." فَقَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "احْبِسُوهُ وَأَطِيبُوا طَعَامَهُ، وَأَلِينُوا فِرَاشَهُ، فَإِنْ أَعِشْ فَعَفْوٌ أَوْ قِصَاصٌ، وَإِنْ أَمُتْ فَأَلْحِقُوهُ بِي أُخَاصِمْهُ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَمَاتَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ غَدَاةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ».
لِنَتَأَمَّلْ -عِبَادَ اللَّـهِ- كَيْفَ فَتَكَتِ الشُّبْهَةُ بِقَلْبِ قَارِئِ الْقُرْآنِ، حَتَّى اسْتَحَلَّ خِيَارَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي زَمَنِهِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي وَقْتِ السَّحَرِ، وَعَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُؤَدِّي طَاعَةً فَيُنَادِي عَلَى النَّاسِ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ، فَمَا حُجَّةُ قَاتِلِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ اللَّـهِ -تَعَالَى-؟!
إِنَّهَا الشُّبْهَةُ الَّتِي تَغْشَى الْقَلْبَ فَتَحْجُبُهُ عَنِ الْحَقِّ، وَتُعْمِي الْبَصَرَ عَنْ رُؤْيَتِهِ، وَتُغَطِّي الْأُذُنَ عَنْ سَمَاعِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِالْقُرْآنِ وَلَوْ كَانَ يَقْرَؤُهُ، وَلَا يَكُفُّ يَدَهُ عَنِ الدَّمِ الْحَرَامِ مَعَ عِلْمِهِ بِحُرْمَتِهِ، بَلْ تَقْلِبُ الشُّبْهَةُ قَلْبَهُ حَتَّى يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّـهِ -تَعَالَى- بِمَا يَظُنُّهُ صَلَاحًا وَهُوَ فَسَادٌ، نَعُوذُ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَنَسْأَلُهُ -سُبْحَانَهُ- الْعِصْمَةَ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ إِلَى المَمَاتِ، «اللهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنَا لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ..
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّ التَّقْوَى سَبَبٌ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ) [الأنفال: 29].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَا شَيْءَ أَخْطَرُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ شُبْهَةٍ تُدَاخِلُهُ فَتُفْسِدُهُ، فَيَجْعَلُ الْبَاطِلَ حَقًّا، وَالْحَقَّ بَاطِلًا، وَيَلْتَبِسُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ إِذَا اشْتَعَلَتِ الْفِتَنُ، وَاتُّبِعَ الْهَوَى، وَأُعْجِبَ كُلُّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ؛ وَلِذَا فَإِنَّ عَلَى كُلِّ مَنْ يَخَافُ الْفِتْنَةَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُجَانِبَ طُرُقَ الْأَهْوَاءِ وَالشُّبُهَاتِ، وَإِذَا وَرَدَ وَارِدُ الشُّبْهَةِ عَلَى قَلْبِهِ رَدَّ المُتَشَابِهَ إِلَى المُحْكَمِ. وَالمُحْكَمُ فِي فِتَنِ الدِّمَاءِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ أَنَّ المُسْلِمَ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ، صَدَعَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَعْظَمِ جَمْعٍ وَأَفْضَلِهِ، فِي يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ.
وَلَا يُخْرِجُ المُسْلِمَ مِنْ إِسْلَامِهِ إِلَّا يَقِينٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَإِخْرَاجُهُ مِنْ إِسْلَامِهِ بِالظَّنِّ هُوَ قَضَاءٌ بِالمُتَشَابِهِ عَلَى المُحْكَمِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ مِنْ قَلْبِ صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ تَكْفِيرَ المُسْلِمِ بِلَا حَقٍّ يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي كَبَائِرَ وَمُوبِقَاتٍ لَا عَافِيَةَ لَهُ مِنْهَا، فَاللهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة: 32].
وَدَلَّتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ قَتْلَ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنَ الْكَبَائِرِ، بَلْ مِنْ أَكْبَرِهَا، وَمِنَ السَّبْعِ المُوبِقَاتِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ «قَتْلُ المُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّـهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا» وَ«يَجِيءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ، فَيَقُولُ: فَإِنَّهَا لِي. وَيَجِيءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فَيَقُولُ: لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِفُلَانٍ، فَيَقُولُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِفُلَانٍ فَيَبُوءُ بِإِثْمِهِ»، وَأَنَّ المُؤْمِنَ «لَنْ يَزَالَ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ أَوْ ذَنْبِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا».
وَكَمْ مِنْ قَاتِلٍ فِي فِتْنَةٍ يَسْتَبِيحُ دَمَ مُسْلِمٍ يَظُنُّ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِلَّـهِ -تَعَالَى-، وَلَا يَشْعُرُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِفُلَانٍ مِنَ النَّاسِ.. فَمَا جَوَابُهُ حِينَ يَقِفُ مَعَ المَقْتُولِ أَمَامَ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَقَدِ اسْتَبَاحَ دَمَهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ؟!
وَمَا وَقَعَ مِنِ اعْتِدَاءٍ أَلِيمٍ عَلَى حَرَسِ الْحُدُودِ فِي عَرْعَرَ لَيْسَ إِلَّا ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَقَتْلٍ لِأَنْفُسٍ مَعْصُومَةٍ، فِي فِتْنَةٍ عَمْيَاءَ رَكِبَتْ أَصْحَابَهَا، فَسَيَّرَتْهُمُ الشُّبُهَاتُ إِلَى هَذَا المَصِيرِ المُظْلِمِ، فَحَذَارِ حَذَارِ مِنَ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهَا مَا دَاخَلَتْ قَلْبًا إِلَّا أَفْسَدَتْهُ، وَلَا تَمَكَّنَتْ مِنْ عَبْدٍ إِلَّا أَضَلَّتْهُ، وَكَمْ مِنْ شُبْهَةٍ أَهْلَكَتْ صَاحِبَهَا، وَأَذْهَبَتْ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) [الفرقان: 20].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
التعليقات