سمر نصر عبدالله سمور
الحمد لله الذي بسط لنا الأرض فجعلها مستقرًّا ومستودعًا، الحمد لله الذي جعل في الأرض مراغمًا كثيرًا وسَعَة، الحمد لله الذي وسَّع علينا في هذه الأرض ورزقنا من الطيبات ما لم يُؤتِ أحدًا من العالمين، وحثَّ عباده على السعي في طلب الرزق، الحمد لله الذي جعل الهجرة عبادةً يُتقرَّب بها إليه؛ أما بعد:
فحديثنا في هذا المقال عن الهجرة وأهميتها في الإسلام، وشروطها وأنواعها وأحكامها؛ حيث تعد الهجرة من أبرز المشاكل التي لمسنا أثرها في عصرنا الحاضر، فقد انتشرت بشكل كبير في بلادنا العربية، فالكثير لا يعرفون متى تكون واجبة ومتي تكون محرَّمة، من هنا وجدتُ أهمية التطرق لموضوع الهجرة، والوقوف على أهم الأسباب والتداعيات التي تجعل الشباب يلجؤون للهجرة، والتحديات التي تواجههم؛ حيث يهدف هذا المقال إلى توضيح مفهوم الهجرة، وموقف الإسلام منها، ويذكر نماذجَ لبعض الأنبياء عليهم السلام الذين اضطروا للهجرة، ويبين متى تكون الهجرة مشروعة، وما أثر ذلك على الشباب، ثم نحاول أن نضع بعض الحلول للحدِّ من الهجرة.
أولًا: الهجرة لغة: يعود لفظ الهجرة في جذوره إلى (الهاء والجيم والراء)، ومن أبرز معانيها في المعاجم، هاجر، هاجر عن، هاجر من يهاجِر، مهاجرةً وهجرةً، فهو مهاجِر، والمفعول مهاجَر (للمتعدي).
1- هاجر الشباب: خرجوا من بلدهم إلى بلد آخر: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ﴾ [الأنفال: 75].
2- هاجر القومَ: تركهم وذهب إلى آخرين، "هاجر بلاده".
3- هاجر عن وطنه، هاجر من وطنه: تركه وخرج إلى غيره، "يهاجر العمال من بلادهم بحثًا عن العمل"[1]، ومما سبق نجد أن المعنى اللغوي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعنى الاصطلاحي من حيث أن الهجرة تعني الخروج من الوطن الذي نشأ فيه إلى بلد آخر، وللتوضيح أكثر لا بد من الوقوف عند المعنى الاصطلاحي؛ فالهجرة اصطلاحًا: هي خروج الإنسان من وطنه الذي نشأ وترعرع فيه إلى بلد آخر؛ من أجل البحث عن الأمن أو الرزق، بقصد الاستقرار والإقامة فيه بصفة دائمة.
أما موقف الإسلام من الهجرة، فقد أقرَّ الإسلام الهجرةَ في سبيل الله التي تكون من أجل محاربة الكفار، لا من أجل العيش معهم في أمصارهم؛ فقد ظهر ذلك جليًّا في آيات القرآن الكريم؛ حيث قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218]؛ قال أبو جعفر: "يعني بذلك جل ذكره: إن الذين صدقوا بالله وبرسوله وبما جاء به، وبقوله: ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ﴾ الذين هجروا مساكنة المشركين في أمصارهم"[ 2].
وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 100]، فدلَّتِ الآية على ضرورة الهجرة والخروج من بلاد الكفار ومحاربتهم، وطلب العزة، أو للخروج من أرض ليست تحت حماية الإسلام إلى أرض فيها حكم الإسلام، وتكون الهجرة في سبيل الله تعالى، إذا كانت للفرار من الفتنة في الدين، أو لدفع الذل، أو من أرض فيها ظلم سائد واقع على الأبدان أو المال، ولو كانت من ولاية الإسلام، أو كانت الهجرة لتكثير سواد المسلمين في إقليم قلَّ فيه عددهم، وهي الانتقال من أرض إسلامية مزدحمة بالسكان قد اكتظَّت بأهلها إلى أرض إسلامية خالية من السكان، فإنها تكون مَظِنَّة أن يأخذها أعداء المسلمين، فتكون قوة لهم على المسلمين، ففي كل هذه الأحوال فإن المهاجر في سبيل الله تعالى ينتقل من حِمى الناس إلى حمى الله تعالى، فإذا كان يترك بيته، وأهله وعشيرته، وجيرانه الذين عاش بينهم وعاشرهم، فهو يتركهم إلى جانب أعظم، ورحاب أوسع، وهو جانب الله تعالى ورسوله ورحابهما، وإن المهاجر إلى الله تعالى في سبيل تحقيق مقصد من مقاصد دينه ينال إحدى الحسنيين: إما الظَّفَر بالسَّعَة والعزة، والمال، وإما الظَّفَر بالأجر العظيم، وذلك إذا أدركه الموت، وهو في الطريق إلى الله؛ وهذا قد قال فيه سبحانه: ﴿ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [النساء: 100]؛ أي: فقد حقَّ له الأجر العظيم عند الله تعالى، وقد تفضَّل سبحانه، فاعتبر ذلك الأجر حقًّا عليه سبحانه؛ ولذا عبَّر بـ"على" في قوله: ﴿ عَلَى اللَّهِ ﴾، ووقع هنا معناه ثبت وتقرر، وكأنه صار وثيقة على الله تعالى، وفي ذلك كله تأكيدٌ لتحقق الأجر بهذه الهجرة[3].
قال الشيخ السعدي: "هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغمًا في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا؛ وذلك أن كثيرًا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتًا بعد الأُلْفة، وفقرًا بعد الغِنى، وذُلًّا بعد العز، وشدة بعد الرخاء، والأمر ليس كذلك، فإن المؤمن ما دام بين أَظْهُرِ المشركين فدينه في غاية النقص، لا في العبادات القاصرة عليه كالصلاة ونحوها، ولا في العبادات المتعدية كالجهاد بالقول والفعل، وتوابع ذلك؛ لعدم تمكنه من ذلك، وهو بصدد أن يُفتَن عن دينه، خصوصًا إن كان مستضعفًا، فإذا هاجر في سبيل الله تمكَّن من إقامة دين الله، وجهاد أعداء الله، ومراغمتهم، فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لأعداء الله من قول وفعل، وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه، وقد وقع كما أخبر الله تعالى، واعتبر ذلك بالصحابة رضي الله عنهم؛ فإنهم لما هاجروا في سبيل الله، وتركوا ديارهم وأولادهم وأموالهم لله، كمل بذلك إيمانهم، وحصل لهم من الإيمان التام، والجهاد العظيم، والنصر لدين الله، ما كانوا به أئمة لمن بعدهم، وكذلك حصل لهم مما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم، ما كانوا به أغنى الناس، وهكذا كل مَن فَعَلَ فِعْلَهم، حصل له ما حصل لهم إلى يوم القيامة" [4]، والهجرة كانت كذلك من أعظم عوامل تمكين دعوة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ انتقلت الجماعة المؤمنة حين هاجرت إلى المدينة إلى مرحلة الظهور والتجمُّع، ونزول الشرائع والأحكام عليها، والجهاد وقوة الشوكة والتمكين، والهجرة هي طريقة للتخلص من أذى الأعداء وكيدهم في الأصل، بيد أنها كذلك عامل الظهور والاستقرار والانطلاق لكل دعوة حقٍّ، فهي ثابتة في الأمة لا تنقطع أبدًا، كما أنها عريقة في اقترانها بدعوة الحق منذ القدم، وأحيانًا لا تعدو أن تكون الهجرة مجرد النَّجاء، النجاء بالمؤمنين والفرار بدينهم من فتنة وعذاب الأعداء الحاقدين.
وكان هذا جليًّا في قصة أصحاب الكهف، وخروج موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ببني إسرائيل من كيد فرعون[5].
كما بيَّن الله سبحانه وتعالى هجرةَ لوط وإبراهيم عليهما السلام؛ فقال تعالى: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71].
وهذا يدل على أن أهل الإيمان عليهم أن يفارقوا أهل الباطل، إذا بلغت الدعوة إلى الله عز وجل غايتها بإقامة الحُجَّة على الخَلْقِ، وبلوغ الحق لكل مكلَّف، فبعد ذلك عليهم أن يفارقوا أهل الباطل، وأن يُنْشِئوا مجتمعًا صالحًا يعيشون فيه، فالله عز وجل يبدلهم بعلاقتهم التي ضحُّوا بها في سبيله خيرًا منها، ويعوِّضهم العلاقة الوطيدة في الله عز وجل، التي بها يجد أهل الإيمان بَرَدَ الوُدِّ، بدلًا من جوٍّ مليء بالحقد والكراهية، والحسد والبغضاء، وهذه العلاقة لا بد أن نحرص عليها، ولا بد أن تكون قوية متينة بين أهل الإيمان، فإذا استجابوا جميعًا لدعوة الحق، فلا بد أن نستثمر هذه العلاقة، وأن نقوِّيَ روابط المحبة بين أهل الإيمان، والاجتماع على طاعته سبحانه وتعالى، وقد تكون الهجرة واجبة لمن لا يستطيع أن يقيم دينه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما أمره الله سبحانه وتعالى بالهجرة من مكة إلى المدينة، حينما ضيَّق عليه كفار قريش فلم يجد إلا الهجرة سبيلًا للنجاة ولنشر دعوته، فلجأ إلى المدينة؛ حيث وجد من يناصره ويؤازره وينشر دعوته، فكانت هجرته هجرةً من دار الشرك إلى دار الإسلام، وكهجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة، فهذه هجرة من دار الخوف إلى دار الأمن، أو تكون هجرة ما نهى الله عنه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه))[6]، فهذه أنواع الهجرة المشروعة التي تُعَدُّ من الأعمال الصالحة؛ لأنها يُقصَد بها الله ورسوله، ويُؤجَر عليها، أما الهجرة التي لا تكون مشروعة هي التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، المتفق عليه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة يَنْكِحُها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))، فالحديث يدل على أن الهجرة المشروعة هي التي تكون ابتغاء مرضاة الله ورسوله، وإعلاء دين الله التي ذكرناها سابقًا، أما من أراد الهجرة من أجل المال أو الزواج، فسوف يصرفه الله لذلك، فلْيَتَّقِ الله وليجدِّد نيته، ويجعلها خالصة لله تعالى، عندها سوف يجد كل ما يبحث عنه؛ فالحركة والسعي في الأرض لطلب الرزق الحلال ليس فيه حرج، وقد وعد الله من هاجر في سبيل الله سبحانه وتعالى بالرزق والإخلاف، لكن قد تكون هذه الهجرة محرَّمة، كالهجرة التي انعكس اتجاهها الآن، فبدلًا من أن تكون الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، أصبحنا نجد الشباب المسلمين يلهثون من أجل اللجوء إلى بلاد الكفر والاستقرار فيها، والذي يهاجر إلى بلد الكفار، فإنه يتبع هواه، ويعصي الله سبحانه وتعالى، إلا من كان عنده عذر استثنائي، لكن للأسف تجد الفئة الكبيرة من الناس ممن يهاجرون يطلبون عَرَضَ الحياة الدنيا، فلا يجدون بركةً في رزقهم؛ لأن في الغالب يكون رزقهم مشوبًا بالمحرَّمات والشُّبُهات، فمن المعلوم أن بلاد الكفار هي محل فتنة وضياع للدين، ومن الأمور التي تعين على الرزق الحلال كما ذكرها بعض العلماء: الاستغفار والتوبة بالقول والفعل، والتقوى، والتوكل، والتفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى، والمتابعة بين الحج والعمرة، وصلة الرحم، والإنفاق في سبيل الله تعالى، والإنفاق على أهل الخير سيما طلبة العلم الشرعي، والإحسان إلى الضعفاء، والمهاجرة في سبيل الله عز وجل، وهي الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان، ابتغاء مرضاة الله تعالى وفق ما شرعه الله عز وجل، هذا وما عند الله لا يُنال بمعصيته، وإنما يُنال بطاعته؛ يقول عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24]، ويقول: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 124 - 126].
ومما سبق نستخلص شروطَ وجوب الهجرة؛ وهي أن يكون في بلد يغلب فيها حكم الكفر على الإسلام، وألَّا يستطيع المسلم إظهار دينه، وأن يقدر على الارتحال، فلا تجوز الإقامة في بلد يحال فيه بين المسلم وإظهاره شعائر الإسلام وإعلانها، فعلى من يستطيع الهجرة أن يهاجر منه إلى بلد يتمكن فيها من إقامة شعائر دين الإسلام وإعلانها، ويتم له التعاون مع المسلمين على البِرِّ والتقوى، ويكثُر به سواد المسلمين، ولن يُعدَم رزقًا؛ فإنه ﴿ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3]، ومن بقِيَ في تلك الأماكن وأمثالها مما فيه حِجْر على المسلمين في إعلان شعائر دينه بعد قدرته على الهجرة منه فهو آثم[7]؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97].
هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبِّخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: ﴿ فِيمَ كُنْتُمْ ﴾ [النساء: 97]؛ أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثَّرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم.
﴿ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [النساء: 97]؛ أي: ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة، وهم غير صادقين في ذلك؛ لأن الله وبَّخهم وتوعَّدهم، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، واستثنى المستضعفين حقيقة.
ولهذا قالت لهم الملائكة: ﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾ [النساء: 97]، وهذا استفهام تقرير؛ أي: قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة، فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له مُتَّسعًا وفُسْحَةً من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾ [العنكبوت: 56]، قال الله عن هؤلاء الذين لا عذرَ لهم: ﴿ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97]، وهذا كما تقدم، فيه ذكر بيان السبب الموجِب، فقد يترتب عليه مقتضاه، مع اجتماع شروطه وانتفاء موانعه، وقد يمنع من ذلك مانع.
وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من الكبائر، وفي الآية دليل على أن كل من تُوفِّيَ فقد استكمل واستوفى ما قُدِّر له من الرزق والأجل والعمل، وذلك مأخوذ من لفظ "التوفي"؛ فإنه يدل على ذلك؛ لأنه لو بقِيَ عليه شيء من ذلك لم يكن متوفيًا[8].
أما دوافع الهجرة هي: تجنب إيذاء الأعداء والمشركين ليتمكن المؤمنون من وطن يؤدُّون فيه حق الله بحرية، والفرار بالنفس والسلامة من القتل، ولا يكون ذلك إلا بعد الصبر والتحمل كما صبر أنبياء الله عليهم السلام ما دفعهم إلى الهجرة؛ فسيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كم تحمل من قومه، وكم صابر مع أبيه! إلى حدِّ أنهم جمعوا له الحطب، وأوقدوا له النيران، وألقَوه فيها، وهو صابر لم يفِرَّ، ويذكر ابن كثير وغيره أنهم حينما صعب عليهم إلقاءه في النار مباشرة لعجزهم وعدم استطاعتهم الدنو منها لشدة لهيبها، جاء الشيطان وأوحى إليهم بعمل المنجنيق، والمنجنيق يرمي بالثقل إلى مسافة بعيدة، إلى أن جِيء بإبراهيمَ ووُضِعَ في المنجنيق وهو صابر ومحتسب، فصبر وتحمَّل وقاوم إلى أقصى حدٍّ، فكانت نتيجة صبره ونتيجة اتكاله على الله: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]؛ كوني بردًا ومع البرد سلام؛ لأن البرد قد يقتل، فتأتي القدرة الإلهية وتسلب النار خاصية إحراقها التي تذيب الحجر وتصهر الحديد؛ لأن الذي خلق إبراهيم وخلق النار واحد، وهو الذي أعطاها قوة الإحراق واللهيب وهو الذي يسلبها منها، بعد هذا خرج هو وسارة وكانت قضيتهما طويلة.
أيضًا سيدنا موسى عليه السلام، فإنه لما خرج إلى المدينة، وجد واحدًا من شيعته وآخر من عدوه يقتتلان، فاستنصره الذي من شيعته، فضربه فقتله، ثم خرج وقابل الرجل الصالح أو النبي شعيبًا، وتزوج ثم رجع، وجاء وكان من أمره أن الله سبحانه وتعالى في عودته يناديه ويناجيه ويبعثه إلى فرعون، فماذا كانت النتيجة؟ فرعون يذبح الأبناء، ويستحيي النساء من قبل، والجو جو قاتل، وجاء موسى بالآيات، ولكن فرعون كابر أمام تلك الآيات؛ ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ﴾ [النمل: 14]، فما كان من موسى عليه السلام وبني إسرائيل وقد أدركهم الضغط والتعذيب والتشريد، والإيذاء من فرعون وجنوده، إلا أن أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل، فخرج، فماذا كانت النتيجة؟ البحر أمامهم وفرعون يكاد يدركهم، فيقول أصحاب موسى: ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]، ولكن موسى موقِنٌ بالله، فقد خرج بأمر من الله، وهو يعلم بأن الله لن يتخلى عنه؛ ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي ﴾ [الشعراء: 62]، وما دام معه ربُّه، فلِمَ يخاف من فرعون؟ ولِمَ يخشى البحر؟ ﴿ سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62]؛ أي: يرشدني ماذا أعمل؛ لأن قوة موسى أمام قوة فرعون ليست بشيء، فتأتي المعجزة والقدرة الإلهية فتتدخل، فأوحى ربك إلى موسى ﴿ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: 63]، ﴿ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا ﴾ [طه: 77]، الماء الرَّجْرَاج السيَّال، البحر المتلاطم، فيجمد الماء ويصير طرقًا، والأرض يابسة، وبنو إسرائيل كلهم اثنا عشر سبطًا، كل سبط لهم طريق مستقل يسيرون فيه، والطود الذي بين هذا الطريق وذاك الطريق فيه نوافذ حتى يطمئنَّ بعضهم على بعض، ولا يحدث قلق.
إذًا: الرسل هاجروا، وما هاجروا إلا بعد أن أُوذُوا وصبروا، ولم يبقَ من طاقة الإنسان كبشر أن يتحمل؛ لأن الإنسان مهما كان سيؤذى وربما يتحمل، لكن إلى متى؟ فكانت هجرة المؤمنين هربًا من إيذاء المشركين.
أيضًا من أسباب الهجرة ودوافعها في الإسلام: إيذاء المشركين للمؤمنين، وكلنا يعلم ما كان عليه بلال وصهيب وعمار وآل ياسر: ((صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة)).
بلال يُؤتَى به في الصحراء في القائلة، في شدة الحر على الرَّمْضَاء، لا تقدر أنت أن تَمَسَّها بقدمك، ويُجرَّد هو ويُطرَح عليها، ويُؤتَى بصخرة حارَّة وتُلقى على بطنه، ويُقال له: ارجع عن دين محمد، فيقول: (أَحَدٌ أَحَدٌ)، هذا يعني أن الإيمان إذا خالط القلوب فلا يمكن أن يُنزَع، ولا تقدر أن تُخْرِجه، ثم اشتدَّ إيذاء المشركين للمسلمين، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم ما سلِم من إيذائهم؛ فقد كانوا يعتدون عليه، ويأتي أبو بكر رضي الله تعالى عنه ويدافع عنه، وفي بعض المرات جاء أبو بكر يقول: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ [غافر: 28]، فتوجهوا إلى أبي بكر وأخذوا يضربونه حتى صُرِع، وأُغمِيَ عليه من كثرة الضرب، كذلك حينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في ظل الكعبة، وعندما يسجد يأتي أشقاهم ويقول: إن بني فلان نحروا جزورًا اليوم، فليذهب أحدكم ويأتي بسلا الجزور، ويضعه بين كتفيه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، وتأتي فاطمةُ فترفع الأذى عن كتفيه.
إن إيذاء المشركين للمسلمين جعلهم يهاجرون، والإيذاء كما وقع على أفراد المسلمين، كذلك وقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخرَ ذلك الإيذاء التآمُرُ على قتله، فلم تكن الهجرة هروبًا بدون موجب، ولا خروجًا بدون صبر، بل تحملوا وصبروا إلى أقصى ما يمكن، فكانت الهجرة أفضلَ وسيلة للفرار بالدين ونصرته؛ حيث جاء الفرج والتمكين بعدها.
إذًا: الهجرة من سُنَنِ الأنبياء، والهجرة سببها الإيذاء، وإذا كان المسلم يعيش في جو إيذاء وإرهاب، فإنه لن يستطيع أن يؤدي عبادة الله، فعليه أن يطلب موطنًا آخر يمكن أن يؤدي فيه حق الله بطمأنينة[ 9].
وقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة تحدياتٍ اقتصادية واجتماعية وسياسية؛ حيث إن الهجرة من بلد إلى بلد تعتمد كثيرًا على الناحية الاقتصادية؛ لأن موارد البلد حركة أهلها، فإذا استقدمت أشخاصًا واستقبلت العديد من غير أبنائها كان ذلك على حساب مواردها، والعالم اليوم عند هجرة كل شعب ينزل به ضَيمٌ، ويضطر إلى الهجرة إلى جواره، أول ما يفكر فيه أهل البلد المضيف اقتصاداته وتأمين حاجيات المهاجرين؛ هذا أمر طبيعي، فكيف عالجت المدينة استقبال المهاجرين وموارد المدينة آنذاك أغلبها في يد اليهود؛ الصياغة والصرافة، والزراعة والتجارة؟ حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى ودرعه مرهون في شعير عند يهودي، وجابر بن عبدالله مات أبوه وهو مَدِينٌ ليهوديٍّ، فجاء اليهودي يطالب بالدَّين في أوسق من تمر، فقال له: خذ ثمرة البستان هذه، قال له: بل تكيل وترد لي الأوسق التي أخذها أبوك، فبقي جابر كئيبًا، حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه ومشى في البستان، ودعا بالبركة، فوفى اليهودي، وبقي عنده الكثير، إذا كان اقتصاد الدولة في حكم اليهود ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عالج هذه المشكلة بالإخاء وصفاء النفس، وعفة المهاجرين، وبذل وإيثار الأنصار؛ فقد بيَّن سبحانه في قسمة فَيْءِ بني النضير: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾ [الحشر: 8]، أُخرِجوا منها وليس باختيارهم، ولا استطاعوا أن يحملوا منها شيئًا؛ مثال ذلك: لما جاء صهيبٌ مهاجرًا وأدركته قريش، وقالوا: جئتنا صعلوكًا لا مال لك، والآن صرت ذا مال، وتريد أن تفوتنا بنفسك وبمالك، قال: لو دللتكم على مالي، أترجعون إليه وتتركونني، قالوا: نعم، قال: مالي دفنته في المكان الفلاني، ولما وصل بشَّره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ربِحَ البيع أبا يحيى))، اشترى نفسه.
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا ﴾ [الحشر: 8]، يقابلهم: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9].
كان هذا الموقف مما واجهه النبي صلى الله عليه وسلم، وتواجه المهاجرون مع الأنصار، فكان مجتمع المدينة قسمين؛ هما: مهاجرون يتعففون، حتى إن الأنصاري كان يقول لأخيه المهاجري: هلم أقاسمك مالي، هلم أنزل لك عن إحدى زوجتي، فابن عوف قال: بارك الله لك في زوجاتك، وبارك الله لك في مالك، دُلَّني على السوق، وذهب يعمل، وهذا الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يمر على امرأة قد جمعت الطين والتبن، وعندها البئر، قالوا: ما بال هذه المرأة؟ قال: ما وجدت من يحمل لها الماء حتى تعجن هذا الطين لتصلح بيتها، قال: علام تؤاجرين الرجل؟ قالت: الدلو بتمرة، فملأ لها عدة دلاء، وأخذ عدة من التمر ورجع بها إلى رسول الله، قال: من أين هذا يا علي؟ قال له: من كذا وكذا، فأكل معه منها، هكذا عالج الإسلام الموقف من الناحية الاقتصادية، أما الناحية السياسية في تلك الطوائف المتعددة، فقد عالجها رسول الله بأقصى حكمة، فجمع الجميع وكتب كتابًا: (هذا ما تعاهد عليه الأوس والخزرج واليهود بالمدينة، كل قبيلة تحمل تبعتها - يتعاونون فيما بينهم - ولا تحمي قبيلة صاحب دخيلة، ولا صاحب جناية، ومن آوى كذا فعليه كذا، والأمر في المدينة كذا، وما اختلفتم فيه فأمره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ومما عاهد عليه اليهود: ألَّا يُعِينوا عليه عدوًّا، وأن يعينوه فيما نابه؛ أي: لا يتأخرون في المساعدة إذا لزم الأمر، وهكذا صارت كل الأحزاب والفرق الموجودة في المدينة ضمن معاهدة رسمية يرجع أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من الناحية الأخرى بين الأفراد، فقد آخى بين المسلمين[10].
بعدما ذكرنا بعض التحديات التي واجهها النبي نجد أنها لا تنفصل كثيرًا عن تحديات العصر؛ من هنا وجب علينا أن نتطرق لبعض الدوافع التي كان لها دور في جعل الشباب يلجؤون للهجرة بالرغم من كثرة المخاطر التي تحيط بهم.
لا شك أن هناك عواملَ كثيرةً؛ منها السياسية والاجتماعية، والبيئية والاقتصادية، التي أبرزها تدني المستوى المعيشي، وكثرة البَطالة، وانعدام الأمن، والفقر المدقِع الذي تعاني منه مجتمعاتنا العربية، في المقابل ما تتيحه بعض الدول الغربية من تسهيلات ومميزات لمن يلجأ إليها؛ مما يجعل الشباب يأمُلون في تحقيق طموحاتهم التي عجزوا عن تحقيق ولو جزءًا بسيطًا منها في بُلدانهم العربية، لكن الحقيقة في الواقع تختلف تمامًا عما يغرِسه الغرب من أفكار في أدمغة الشباب المسلم؛ فكثير ممن قرروا اللجوء ندِموا أشدَّ ندم على خروجهم من أوطانهم؛ لأنهم واجهوا عدة تحديات؛ حيث يشعر المهاجر أنه يجب عليه الحفاظ على هُوِيَّتِه ووجوده الإسلامي، ووجود أبنائه، والحفاظ على اللغة العربية، فيعمل جاهدًا من أجل البحث عن جاليات إسلامية ينتمي إليها، أو يسعى بنفسه لبناء المؤسسات الإسلامية؛ كالمساجد والمدارس والمعاهد والمراكز، وتصبح هذه بذاتها سببًا لبقائه ليحافظ عليها من جهة، ولأنه قد يعتقد أنها تحافظ على وجود إسلامي مقبول إلى حد ما من جهة أخرى.
إن الأقليات المسلمة هم جزء من الأمة الإسلامية، التي تشمل كل مسلم في أنحاء العالم أيًّا كان جنسه أو لونه، أو لسانه أو وطنه أو طبقته، وهم - من ناحية أخرى - جزء من مجتمعهم الذي يعيشون فيه، وينتمون إليه، فلا بد من مراعاة هذين الجانبين، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، فقد نشأت الأقليات المسلمة نتيجة عدة عوامل؛ منها: الهجرة الاختيارية بهدف العمل أو الإقامة، أو بناء على ظروف شخصية، ومن تلك العوامل: الهجرة الإجبارية، وهي تلك التي تنشأ عن أعمال عسكرية وسياسية عدوانية، وهذه تعرف اليوم باسم ظاهرة اللاجئين، فأما الهجرة الاختيارية، فهي في كثير من الأحوال تكون طارئة في حياة المهاجر مع رغبة أكيدة في العودة إلى الوطن، غير أن تمادي أحد أسباب الهجرة، بالنسبة إلى وضعه الخاص، يحوِّل الهجرة مع الزمن إلى استيطان دائم، خاصة إذا نشأت ظروف محلية جديدة في بلد الهجرة كالنجاح في العمل التجاري، أو طمأنينته إلى غدِه وتخوُّفه من التحول في بلده الأصلي إلى مكافح من جديد في طلب العيش، أو إلى ارتباطه في المهجر بنشأة أبنائه وتقلبهم في مراحل الدراسة، مما يلزمه في كثير من الأحوال إلى تمديد حال الهجرة إلى حين تخرجهم، ثم قد تنشأ روابط الزواج من أهل تلك البلاد فتغدو العودة أكثر صعوبة، فيتحول المهاجر إلى مستوطن، خاصة إذا ما اكتسب جنسية الدولة المقيم فيها، وأصبح حائزًا على حقوق المواطن[11]، مما يعود عليه بأثر سلبي كبير، سواء على الصعيد النفسي أو الأخلاقي والاجتماعي، هذا يدفعنا للتحدث عن بعض الآثار التي تخلِّفها الهجرة على الفرد والمجتمع، ولا أنكر وجود آثار إيجابية تعود على الفرد والمجتمع أحيانًا؛ مثل: تشغيل الأيدي العاملة، والارتقاء بالمستوى المعيشي، وإعطاء بعض الميزات للفرد الذي يملك جنسية الدولة التي لجأ إليها، لكن وجود السلبيات يفوق الإيجابيات بكثير؛ حيث إن المهاجر سواء كان بطريقة مشروعة أو غير مشروعة سينفق كل ما يملك من أجل الوصول للدولة المراد الذهاب إليها، ثم إن أول ما يعيق تواصله مع الآخرين اختلاف اللغات، ومن ثَمَّ سيجد نفسه غريبًا في تلك البلاد، وهذا سيؤثر في نفسيته، وأيضًا يعيق تواصله مع المؤسسات التعليمية والصحية وغيرها، فضلًا عن اختلاف الثقافات والعادات التي لن يستطيع التأقلم معها بسهولة، وإن استطاع أن ينسجم في تلك البلاد، فسيجد نفسه بعيدًا عن دينه، وعما تحلى به من أخلاق؛ حيث سيتأثر بطبيعة المجتمع الذي يعيش فيه، فضلًا عن ذلك بعده عن أهله وأقاربه، فلن يجد من يؤازره، سواء في السراء أو الضراء، حتى لو توفرت له فرصة عمل جيدة ومسكن وما إلى ذلك، فسيبقى غريبًا تأكله نار الغربة والبعد عن الأهل والأحباب، وللحد من ظاهرة الهجرة لا بد من تقوية الوازع الديني لدى الشباب، وذلك من خلال الدروس والندوات والخطب، حتى يصل بهم لمرحلة الإيمان المطلق بالقضاء والقدر؛ بحيث تكون لديهم قناعه ذاتية بأن ما كتبه الله له من رزق، فهو له، حتى لو جال وصال كل دول العالم، ثم ترسيخ حب الأوطان في النفوس منذ الصغر من خلال المناهج الدراسية والنشاطات المنهجية، حتى نبنيَ جيلًا واعيًا، مدركًا قيمة أرضه ووطنه، كذلك توفير فرص عمل للشباب الخريجين والأيدي العاملة من خلال عمل مشاريع قد تكون صغيرة في البداية، ثم تتطور لتصبح ذات مكانة مرموقة في المجتمع، والاهتمام بفئة الشباب، والاستماع لمقترحاتهم وآرائهم، والاستفادة من طاقاتهم في شتى المجالات، وتحسين مستوى دخل الأفراد من خلال تطوير مشاريع استثمارية، ومحاولة توفير جميع الامتيازات التي تمنحها بعض الدول للاجئين.
وفي نهاية هذا المقال الذي أوجزنا فيه مفهوم الهجرة وموقف الإسلام منها، وشروطها ودوافعها، وأهم التحديات التي تواجه المهاجرين، سواء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو في زماننا، ووضحنا أثر ذلك على الفرد والمجتمع، ووضعنا بعض الحلول التي من الممكن أن تساهم في الحد من هذه الظاهرة، فإنني أدعو الله أن يرزق شباب أمَّتِنا الهداية والتوفيق والسداد في أوطانهم، وأدعوهم للعمل جادين من أجل تطوير ذاتهم، والرقي والنهوض بمجتمعاتهم، وعدم الالتفات لما تروِّجه بعض الدول الغربية من الاهتمام باللاجئين، وتقديم مميزات وتسهيلات توفر لهم حياة كريمة، فوالله لن تجدوا الحياة الكريمة إلا في ربوع وأحضان الوطن الذي ترعرعتم فيه، وأكلتم من خيراته، حتى أصبحتم شبابًا يافعين تُعِيدون للأمة الإسلامية مجدها.
[1] معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 2325).
[2] تفسير الطبري = جامع البيان، ت: شاكر (4/ 317).
[3] زهرة التفاسير (4/ 1824).
[4] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي (196).
[5] ينظر عوامل النصر والتمكين في دعوات المرسلين (ص: 127، بترقيم الشاملة آليا)
[6] صحيح النسائي (ص: 5011).
[7] أرشيف ملتقى أهل الحديث-3(77/ 72)
[8] تفسير السعدي (ص: 195)
[9] ينظر دروس الهجرة - عطية سالم (3/ 16، بترقيم الشاملة آليًّا).
[10] ينظر دروس الهجرة - عطية سالم (8/ 13، بترقيم الشاملة آليًّا).
[11] ينظر: فقه النوازل للأقليات المسلمة (1/112-113).
التعليقات