عناصر الخطبة
1/ غريزة حب المال 2/ أهمية المال 3/ من ملامح تنظيم الشريعة للتعاملات المالية 4/ آثار الابتعاد عن النظام المالي الإسلامي 5/ من واجبات المسلم في تعاملاته المالية 6/ دلالات ميزانية الدولة الأخيرةاهداف الخطبة
اقتباس
ولما كان المال بهذه الأهمية سعى الإسلام لتشريع تعاملاته، وتنظيم تداولاته، بنظام اقتصادي متين، فريد في نوعه، عريق في تاريخه، أصيل في ذاته، مستقل في تعاليمه؛ لأنه اقتصاد يقوم على تشريع رباني.
الخطبة الأولى:
أما بعد: معاشر المؤمنين، إن المال -كما هو معلوم- هو شريَانُ الحياةِ، وحبه غريزة في النفس البشرية، وجبلّة في الطبيعة الإنسانية، وهو زهرة هذه الدنيا، كما جاء في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الدنيا خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو! ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع".
وللمالِ في نَفسِ الإنسانِ حَظوَةٌ وشَرَه وتطَلُّبٌ حثيثٌ، كما أكد المولى -جل وعلا- ذلك في كتابه حيث قال في وصف جنس الإنسان : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:8] أي: المال، ويقول -سبحانه- عَن جماعةِ بَني آدَم: (وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّ) [الفجر:20].
إن من مقاصد الشريعة في المال أن يكون المال عوناً للإنسان على طاعة الله، فلا يتصرف فيه إلا في حدود المشروع والمأمور به؛ لأنه مال الله وليس مال العبد، ولهذا امتدح النبي -صلى الله عليه وسلم- المال الصالح في يد الرجل الصالح، فقال: "نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحِ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ" رواه البخاري في الأدب المفرد.
وهذا الحب للمال يستوجب السعي بالحلال للتكسب، ولإعمار الأرض، فلقد حث الإسلام على عِمارةِ الأرض وتَنميِتها اقتصاديًّا بما يَكونُ عَونًا على أداءِ حقّ الله فيها، فَلَقَد قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قَامَتِ الساعة وفي يدِ أحدِكم فَسِيلةٌ فاستطاعَ أن لا تقوم حتى يغرِسها فليغرسها، فله بذلك أَجر" رواه البخاري في الأدب المفرد.
ولما كان المال بهذه الأهمية سعى الإسلام لتشريع تعاملاته، وتنظيم تداولاته، بنظام اقتصادي متين، فريد في نوعه، عريق في تاريخه، أصيل في ذاته، مستقل في تعاليمه؛ لأنه اقتصاد يقوم على تشريع رباني.
والمتأمل لأحوال الأمة اليوم يجدها تعيش فوضى اقتصادية، وتعاني من ضعف تنموي شديد، أدى إلى تقهقرها وتخلفها عن سائر الأمم؛ فغالب المشكِلاتِ الاقتصاديّة التي يواجِهها العالم الإسلاميّ اليومَ ما هي إلا بسبَب غِيابِ المنهجِ الاقتصاديّ الإسلاميّ الصّحيح، والذي يتناول تنظيمَ جَوانبِ النّشاط الاقتصاديّ في الحياة العامّة بالعدل والتعاون والتكافل والإحسان، التي من خِلالها تَتَحقَّق المصالح للأمّة وتُدْرَأُ المفاسِدُ عنها.
إن كثيرًا من الدِّراسات الحديثةِ لتؤكِّد وُجودَ علاقةٍ عكسيّة بين الفساد الاقتصاديّ والنّموّ، ومن هنا؛ فإنّ الأمّةَ لو أخذَت بِالمعنى الحقيقيّ للاقتصادِ الإسلاميّ لما حادَتْ عن الجادَّة، ولما عاشَت فَوضَى التخبُّط واللَّهَث وراءَ المغريَات المالية.
والاقتصادُ الإسلاميّ هو توازنٌ في الإنتاج والإنفاق، يحمل المجتمعَ المسلم إلى الاعتدالِ والموازنَةِ دون إفراطٍ أو تفريط، ولا ينبغي أن يطغى كلاهما على الآخر، كما قال -تعالى-: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [ القصص:77].
والنظام الاقتصادي الإسلامي يستهدف إشباع حاجات الإنسان الأصلية وذلك في إطار من القيم والأخلاق الإسلامية، والسلوكيات الحسنة والتي تتفاعل مع بعضها البعض فتولد توازنا دائما بين الفرد والمجتمع.
معاشر المؤمنين: ونظرًا لأن المال يشترك مع كل جوانب الحياة الأخرى؛ لذا فإن الأزمات المالية، والتقلبات الاقتصادية، التي قد تعترض المسلم بسببه كثيرة، والإسلام لم يترك شاردة ولا واردة إلا ووضع لها المنهج القويم، والطريق المستقيم، الذي به هداية الناس إلى طريق رب العالمين.
ومن تلك الواجبات تجاه التعاملات المالية -أولا- المحافظة على الأموال، ويعني ذلك أنه يجب على المسلم أن يأخذ بالأسباب في المعاملات المالية التي تحمي المال من الهلاك وعدم تعرضه للمخاطر المالية الجسيمة التي تقود إلى الضياع, كما يتخذ التدابير اللازمة للمحافظة على المال من السرقة والابتزاز والرشوة, ولقد أشار القرآن العظيم إلى ذلك في قول الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) [النساء:29]. ولقد أوصانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمحافظة على الأموال, فقال: "إن الله كره إليكم ثلاثاً: قيل وقال, وإضاعة المال, وكثرة السؤال" رواه البخاري ومسلم.
ثانياً: العمل الجاد، والضرب في الأرض؛ ابتغاء الرزق الطيب الحلال، وفي هذا يقول الله -عز وجل-: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:10]، ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أشرف الكسب كسب الرجل من يده"؛ فالعمل في الإسلام من موجبات الحصول على الرزق الحلال الطيب، ولا يجوز للفرد أن يعيش عالة على غيره؛ حتى يبقى متمسكا بحريته وعزته.
ثالثاً: زكاة المال والصدقات التطوعية: فنظام التكافل الاجتماعي الإسلامي من أهم الأساليب لمعالجة كافة الأمراض والأوجاع والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً أو يعذبهم عذاباً أليماً".
رابعاً: الالتزام بالحلال الطيب وتجنب الحرام الخبيث: ويقصد بذلك أن تكون المعاملات مشروعة، أي: مطابقة لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية وللفتاوى الصادرة عن مجامع الفقه الإسلامي في المسائل المعاصرة, وكذلك أن تكون في مجال الطيبات, وتجنب الخبائث مهما كان قدرها؛ يقول الله -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [البقرة: 168], ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" رواه مسلم.
خامساً: الاقتصاد في المعيشة والتوسط في النفقة: وكذا التخلي عن النمط الاستهلاكي المتأثر بالدعايات التجارية، يقول الله -عز وجل-: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [الإسراء:29]، ويقول -سبحانه وتعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف:31]، وهذا بدوره يستلزم الرضا والقناعة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ"، أي: اقنع بما أعطاك لله وجعله حظك من الرزق، "تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ"، فإن من قنع استغنى، "فليس الغنى بكثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس"، والقناعة غنى وعز بالله -عز وجل-، وضدها فقر وذل للغير، ومن لم يقنع لم يشبع أبدًا، ففي القناعة العز والغنى والحرية، وفي فقدها الذل والتعبد للغير، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ".
فيتعين على كل عاقل أن يعلم أن الرزق بالقسـم والقـدر، لا بالعلم والعقل، قال بعض الحكماء: "لو جرت الأقسام على قدر العقول لم تعش البهائم".
سادساً: تحقيق النفع وتجنب الضرر: وأن يكون هذا النفع مرتبطا بتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية, وكذا تجنب أي معاملة فيها ضرر على الفرد والجماعة، يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة:2].
ولقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بعض المعاملات المالية لأنها تسبب أضرارا مثل: التعامل في الخمر, ولحم الخنزير, والميتة, والدم, والأصنام, والصلبان, والتماثيل, والكلاب, وكسب الإماء (الزنا), وبيع السلاح وقت الفتنة, والتسعير في الأسواق بدون ضرورة معتبرة شرعا, وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من ضارّ ضارّ الله عليه, ومن شقّ شقّ الله عليه" رواه الترمذي.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن المؤمن العاقل ليحمد الله أن هيأ له بلدا آمنا، وقيادة رشيدة، تحكم بشرع الله، وتحتكم إلى كتاب الله، ووحدت أبناءها تحت راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله، بلاد يتجه لها أكثر من مليار مسلم في اليوم والليلة أكثر من خمس مرات، بلاد تقود العالم، وتنشر السلام، وتحمي الأوطان، هي عز للأمة، وفخر لأهل السنة، أخرست أفواه المجوس، وقطعت أذنابهم، وأعادت للأمة هيبتها وفخارها، وهذا كله -ولا شك- يتطلب عملا دؤوبا، وجهدا متوافرا، وإنفاقا ضخما، في ظل ظروف اقتصادية، وتقلبات مالية.
ومع ذلك، فقد كان إعلان الميزانية المالية لبلادنا هذا العام شاهداً -بفضل الله وحده- على تمكنها من تجاوز هذا المنعطف بأقل الخسائر، وجاء إعلان برامج التوازنات المالية، والخطط العملية التي تركز على الإصلاح المالي، وغيرها، مبشراً بمستقبل مشرق، وغدٍ أفضل.
ولقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- متفائلا، ويقول: "يعجبني الفأل"، فالمؤمن ليس له حظ من التشاؤم، بل يعمل بجد واجتهاد، وبذل للأسباب، وهو مع ذلك مطمئن البال، منشرح النفس، واثق برزقه، لا يلتفت لاستماع الشائعات، أو تصديق الأكاذيب؛ فمن كانت حباله ممدودة بخالقه، وثقته متصلة بسيده، كان في أمان من ذلك كله، فالرزق وَالْأَجَل قرينان مضمونان، فَمَا دَامَ الْأَجَل بَاقِيا كَانَ الرزق آتِيَا.
وهو -مع ذاك- قوي النفس، شديد العزم، على السعي في الأرض، وبذل الأسباب. (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15].
والإنسان -بطبعه- همَّام جمَّاع، يُهمه رزقه، ويحب جمع ما فضل عن حاجته، قال -عليه الصلاة والسلام-: "أجملوا في طلب الدنيا فإن كلاًّ ميسر لما كتب له منها".
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تستبطئوا الرزق؛ فإنه لم يكن عبدٌ ليموت حتى يبلغ آخر رزقٍ هوَ له، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال وترك الحرام".
ثم صلوا وسلموا...
التعليقات