د. ربيع أحمد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة؛ إذ يفتك بالإيمان، ويُعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريض به يجادل في البديهيات، ويجمع بين النقيضين، ويفرِّق بين المتماثلين، ويجعل من الظن علمًا، ومن العلم جهلًا، ومن الحق باطلًا، ومن الباطل حقًّا.
ومن عوامل انتشار هذا المرض: الجهل بالدِّين، وضعف العقيدة واليقين، والاسترسالُ في الوساوس الكفرية، والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل.
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل، وادعاءات بلا مستند، ورغم ضعفها وبطلانها فإنها قد تؤثِّر في بعض المسلمين؛ لقلة العلم، وازدياد الجهل بالدِّين؛ ولذلك كان لا بد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوى أهل الإلحاد، شبهة تلو الأخرى، ومغالطة تلو المغالطة، ودعوى تلو الدعوى؛ حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشُبَهِهم.
وفي هذا المقال سنتناول - إن شاء الله وقدر - زعم الملاحدة الجائر بأن الله - سبحانه وتعالى - لا يستحق العبادةَ - تعالى الله عما يقول الظالمون.
عرض زعم الملاحدة الجائر:
يزعم الملاحدة أن الله - سبحانه وتعالى - لا يستحق العبادة - تعالى الله عما يقول الظالمون - ويبرر أحدُهم هذا الزعم الجائر قائلًا: إن قيمة الأشياء تتميز في مقدار تأثيرها علينا، وتأثير الله علينا هو الخَلْق، والخلق ليس سببًا كافيًا للعبادة؛ لأن الخلق لا بد أن يكون له هدف سامٍ، وغياب الهدف يجعل عملية الخلق عبثيةً، وفي حالة وجود هدف، فالهدف في حد ذاته ينسف صفة الكمال والاكتفاء الذاتي عند الله، وفي حالة غياب أي هدفٍ أو غايةٍ للخلق، فلماذا سنعبده؟
ويستطرد في سفسطته قائلًا: ربما عظَمته وجلاله في حد ذاتها سببٌ كافٍ يدفعنا للعبادة... ربما السبب أن الله بنفسه طلبَ منا عبادته، وطلبه هذا جاء من كائنٍ في موقع قوةٍ تجاه كائنٍ آخر في موقع ضعف، وهذا فيه استغلال للقوة والقدرة في إيذائنا ليفرض أحكامه علينا، بل يلجأ للتهديد والترغيب (قانونيًّا هذه جريمة ابتزاز) لإجبارنا على تنفيذ أوامره التي لا نعرف سببًا واضحًا لها أو غايةً معينة، بل إن ضررها - في أغلب الأحيان - أكثر من فوائدها؛ لِما تثيره من تبلُّدٍ للفكر (ترديد نفس العبارات مرارًا وتكرارًا)، وإضاعةٍ للوقت، وتبذيرٍ للجهد.
ثم يفترض هذا الملحد افتراضًا خاطئًا أن الله يحتاج لعبادتنا، ومن ثم هذا ينفي عنه صفة الكمال؛ لثبوت حاجته، ثم يقول هذا الملحد: ولو افترضنا نحن حاجتنا لعبادته، فإن تلك الحاجة تنفي التكليف الذي يفرضه علينا؛ لأن العبادة حينها ستكون حاجةً طبيعيةً مثل الحاجات الإنسانية الأخرى؛ كالهواء والغذاء.
وقبل الرد على هذه الدعاوى والتفاهات لا بد من بيان مفهوم العبادة.
مفهوم العبادة:
للعبادة العديد من التعريفات، من أحسنِها وأجمعها: تعريف ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال: (العبادة: هي اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه؛ من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله.
وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له، التي خلَق الخلق لها؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وبها أرسَل جميع الرسل)[1].
ويقول ابن باديس - رحمه الله -: (العبادة: هي التوجه بالطاعة لله؛ امتثالاً لأمره، وقيامًا بحقه، مع الشعور بالضعف والذل أمام قوة وعز الربوبية، وذلك يبعَث على الخوف المأمور به، ومع الشعور بالفقر والحاجة أمام غِنى وفضل الربوبية، وذلك يبعث على الرجاء المأمور به)[2].
ومن الناس من يتوهم أن العبادة مقصورة على الصلاة والصوم والزكاة والحج، وهذا خطأ؛ فالعبادة ليست مقصورةً على مناسك التعبد المعروفة من صلاة وصيام وزكاة وحج.. إلخ، بل إن العبادة هي العبودية لله وحده، والتلقي من الله وحده في كل أمور الدنيا والآخرة، إنها الصلةُ الدائمة لله في كل قول أو عمل أو شعور؛ فالإنسانُ عابد لله حيثما توجَّه إلى الله، ومن ثم تشمل "العبادة" الحياة، ويصبح الإنسان عابدًا في كل حين [3].
الله عز وجل مستحق للعبادة لذاته وصفاته وأفعاله
الله - عز وجل - مستحق للعبادة؛ لأنه خالق الكون ومدبِّره، ورب جميع العوالم والكائنات، والعبادة حق الله على جميع مخلوقاته، حق الخالق على المخلوق[4]، والله خالقنا ومالكنا، وللمالك أن يأمرَ وينهى[5]، ومَن ينكر حق الله على خلقه أعظم جرمًا وفِريةً ممن ينكر حق الوالدين على الولد، وحق المدرس على تلاميذه، وحق الوطن على أبنائه!
والله - عز وجل - يستحق العبادة لذاته، بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى[6]؛ إذ النفوس مجبولة على حب الكمال، والله - عز وجل - له الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه؛ وذلك يوجب أن تكون العبادةُ له وحده عقلًا وشرعًا وفطرةً [7]، والله - سبحانه وتعالى - يستحق العبادة، لا لكونه خلَق الخَلْق فقط، بل أيضًا يستحق العبادة لذاته.
ويقول ابن القيم - رحمه الله -: (ولا ريب أن كمال العبودية تابع لكمال المحبة، وكمال المحبة تابع لكمال المحبوب في نفسه، والله سبحانه له الكمال المطلق التام في كل وجه، الذي لا يعتريه توهم نقص أصلاً، ومَن هذا شأنُه فإن القلوب لا يكون شيء أحب إليها منه ما دامت فِطَرُها وعقولها سليمة، وإذا كانت أحب الأشياء إليها فلا محالة أن محبته توجب عبوديته وطاعته، وتتبُّع مرضاته، واستفراغ الجهد في التعبد له والإنابة إليه، وهذا الباعثُ أكملُ بواعثِ العبودية وأقواها، حتى لو فرض تجرده عن الأمر والنهي والثواب والعقاب استفرغ الوُسْع واستخلص القلب للمعبود الحق) [8].
والله - عز وجل - يستحق العبادة؛ لأنه المنعم علينا بالحياة، والسمع والبصر، والعقل والإحساس، وغير ذلك من النِّعَم التي لا تُعَد ولا تحصى، وقد جبلت القلوب على حب مَن أحسن إليها وأعطاها، وبُغضِ مَن أساء إليها ومنعها، وكلما ازداد العطاء والإحسان ازداد الحب، خاصة إذا ما كان العطاء بلا مقابل.
والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقُّه إلا المنعِم بأعلى أجناس النِّعم؛ كالحياة والفهم، والسمع والبصر [9].
والعبادة غاية التعظيم، والعقل يشهد بأن غاية التعظيم لا تليق إلا بمن صدَر عنه غاية الإنعام والإحسان[10].
والله - سبحانه وتعالى - هو الذي يجلب للإنسان النفع والرزق، ويدفع عنه الضر والمرض، ويصرف عنه الشر والسوء، ويجيب المضطر إذا دعاه، وهذه الأمور لا يستطيعها إلا من ملَك السموات والأرض وما بينهما؛ فالله - سبحانه وتعالى - هو مصدر خير الإنسان ونفعه، ومنع الضرر عنه[11].
ويقول ابن تيمية - رحمه الله -: (فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره، خضَع له وذَلَّ، وانقاد وأحبه من هذه الجهة، وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلِبُ عليه الحال حتى يحبه لذاته)[12].
والله - سبحانه وتعالى - كما يستحق العبادة لذاته يستحقها لنِعَمه[13]؛ فالذي لا يعبُدُ الله لذاته سبحانه يعبده لنعمه وحاجته إليه، فعندنا عبادة للذات؛ لأنه سبحانه يستحق العبادة لذاته، وعبادة لصفات الذات في معطياتها، فمن لم يعبده لذاته عبده لنعمته[14].
ويقول ابن تيمية - رحمه الله -: (في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل عليه: فلا يعمل إلا له، ولا يرجى إلا هو، هو سبحانه الذي ابتدأك بخلقك والإنعام عليك بنفس قدرته عليك، ومشيئته ورحمته، من غير سبب منك أصلاً، وما فعل بك لا يقدر عليه غيره، ثم إذا احتجت إليه في جلب رزق أو دفع ضرر، فهو الذي يأتي بالرزق لا يأتي به غيره، وهو الذي يدفع الضرر لا يدفعه غيره) [15].
ويقول ابن القيم - رحمه الله -: (ولما كانت عبادته تعالى تابعةً لمحبته وإجلاله، وكانت المحبة نوعين: محبة تنشأ عن الإنعام والإحسان؛ فتوجب شكرًا وعبودية بحسب كمالها ونقصانها، ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكماله؛ فتوجب عبودية وطاعة أكمل من الأولى - كان الباعث على الطاعة والعبودية لا يخرج عن هذين النوعين) [16].
وإذا اعترف الإنسان أن الله ربُّه وخالقه، وأنه مفتقر إليه، محتاج إليه - عرَف العبودية المتعلقة بربوبية الله[17].
والناس مفطورون على التعبد لمعبود معين، وعند النفس البشرية حاجة ذاتية إلى إله تعبده، ومعبود تتعلق به وتسعى إليه، وتعمل على مرضاته، وجميع الأمم التي درس العلماء تاريخها تجدها اتخَذت معبودات تتجه إليها وتقدسها، مما يدلُّ على وجود اتجاه فطري إلى أن يكون هناك إلهٌ معبود.
وإذا لم يهتدِ الإنسان إلى الإله المعبود بحق - وهو الله سبحانه تعالى - بسبب وجود مؤثِّرات تجعله ينحرِفُ عن الفطرة السليمة، فإنه يُعبِّدُ نفسَه لأي معبود آخر؛ ليشبع في ذلك نهمته إلى العبادة، وذلك كمن استبد به الجوع، فإنه إذا لم يجد الطعام الطيب الذي يناسبه فإنه يتناول كلَّ ما يمكن أكله، ولو كان خبيثًا، ليسد به جوعته.
لماذا نعبد الله؟
نعبد الله؛ لأنه خالقُنا ومالكنا، ومن حق الخالق أن يُعبَد.
ونعبد الله؛ لأنه خالقنا ومالكنا، وقد أمرنا بعبادته؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]، وإذا طلَب منك ملِك من ملوك الدنيا فعل شيء، فهل ستتأخر عن ذلك؟! وإذا طلب منك رئيس من رؤساء الدول فعل شيء، فهل ستتأخر عن ذلك؟! وإذا طلب منك أحد الوزراء فعل شيء، فهل ستتأخر عن ذلك؟! والله أحقُّ أن تطيعَه.
ونعبد الله؛ لأن في عبادته السعادةَ في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وقال تعالى: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123، 124]، وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].
ونعبد الله؛ لأن في عبادته الخيرَ لنا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ [النساء: 66]، وقال قتادةُ وغيره من السلف: "إن اللهَ سبحانه لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه، ولا نهاهم عنه بخلًا منه، بل أمرهم بما فيه صلاحُهم، ونهاهم عما فيه فسادهم"[18].
ونعبد الله؛ لأنه يستحق العبادة لذاته؛ فهو كامل في أسمائه، وكامل في صفاتِه، وكامل في أفعاله؛ قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [النحل: 60].
ونعبد الله؛ لأنه المنعم علينا بأجلِّ النِّعم؛ فقد خلقنا في أحسن تقويم، وفضَّلنا على كثير ممن خلَق، وسخر لنا ما في الأرض، ورزقنا من الطيبات، ووهب لنا السمع والبصر والفؤاد، وغير ذلك من النِّعم التي لا تُعَدُّ ولا تحصى؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53].
ونعبد الله؛ لنفوزَ بمرضاته وحبِّه وقُربه منا؛ قال تعالى: ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 19]، والواحد من الناس يحب أن يفعل الأمرَ الذي يحبه ملِك من ملوك الدنيا، والله - سبحانه وتعالى - ملِك الملوك؛ فهو أحق بأن نفعل ما يحبه.
ونعبد الله؛ لأن في عبادة الله - مع استشعار مناجاته وقُربه - لذةً لا تضاهى بلذات الدنيا، ويجد المرء أثناء ممارسته العبادة أُنسًا وسعادة وانشراحًا، وراحة ما بعدها راحة، وحلاوة ما بعدها حلاوة، والمحب يتلذذ بخدمة محبوبه وتصرفه في طاعته، وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذةُ الطاعة والخدمة أكملَ[19].
نظرات في كلام ملحد
سنتناول - بإذن الله - في هذه الجزئية الرد على بعض ما كتبه أحدُ الملاحدة في مواقعهم الخبيثة.
يقول الملحد: (قيمة الأشياء تتميز في مقدار تأثيرها علينا، وتأثير الله علينا هو الخلق، والخلق ليس سببًا كافيًا للعبادة)، وقوله: قيمة الأشياء تتميز في مقدار تأثيرها علينا، حقٌّ أريد به باطل، وقوله: تأثير الله علينا هو الخلق، فيه غضُّ الطَّرف عن جميع آثار الله، وقصرها على الخلق، وهذا من الظلم والجَور، وليس من العدل والإنصاف.
والواقع والمشاهد أن آثار الله أكبرُ مِن أن تعد وتحصى، ولو خلق الله الكون وتركه هملاً، لهلك الكون؛ فالكونُ يحتاج للخالق كي يظل قائمًا، فلا بد من عناية الله بالكون، وهذه نعمة تستوجب استحقاق الله للعبادة.
وخَلْق اللهِ الكونَ بهذه السعة وهذا الإحكام والتناسق دليل على عظمة الله وكماله وحكمته؛ مما يوجب استحقاقه للعبادة.
وخلق الله للإنسان بعد أن لم يكن شيئًا ووهب الحياة له ما هو إلا فضلٌ وجودٌ وكرم من الله للإنسان، يستوجب استحقاق الله للعبادة.
والله هو الذي يرزقنا، ويجلِب لنا الخير، ويدفع عنا الضر، وكل هذه نِعَمٌ تستوجب استحقاقَ الله للعبادة.
والله هو الذي سخَّر لنا ما في الأرض جميعًا، وهذه نعمة تستوجب استحقاق الله للعبادة.
والله هو الذي وهبنا السمع والبصر والفؤاد، والتذوق والعقل والكلام والحركة، وكل هذه نِعَمٌ تستوجب استحقاق الله للعبادة.
والله هو الذي خلق لنا النبات والحيوان والطيور والأسماك لنستمتع ولنتمتع ولننتفع بها، وكل هذه نِعَم تستوجب استحقاق الله للعبادة.
والله هو الذي يُطعِمنا ويسقينا، وإذا مرضنا يشفينا، ويجيب المضطر إذا دعاه، وكل هذه نِعَم تستوجب استحقاقَ الله للعبادة.
وقول الملحد: "والخلق ليس سببًا كافيًا للعبادة" فيه جحودٌ لحقِّ الخالق على المخلوق، وهذا مِن الظلم والجَور، وأعظم جُرمًا وفِرية ممن ينكر حق الوالدين على الولد، وحق المدرس على تلاميذه، وحق الوطن على أبنائه!
ويقول الملحد - هداه الله -: (الخلق لا بد أن يكون له هدف سامٍ، وغياب الهدف يجعل عملية الخلق عبثيةً، وفي حالة وجود هدف، فالهدف في حد ذاته ينسف صفة الكمال والاكتفاء الذاتي عند الله، وفي حالة غياب أي هدفٍ أو غايةٍ للخلق، فلماذا سنعبده؟).
وقوله: "الخلق لا بد أن يكون له هدف سامٍ، وغياب الهدف يجعل عملية الخلق عبثيةً" حق أريد به باطل، ونحن نعتقد أن الله لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، عرَفها مَن عرَفها، وجهِلها مَن جهلها، وليس معنى عدم معرفتنا للحكمة من شيء أن لا حكمة فيه؛ فعقولنا قاصرة، وعلمنا محدود، والعِلم يكشف لنا كل يوم أشياء كنا نجهلها فيما سبق.
وقول الملحد: "وفي حالة وجود هدف، فالهدف في حد ذاته ينسف صفة الكمال والاكتفاء الذاتي عند الله"، هذا سفسطة وادعاء بلا دليل، وأي ادعاء بلا دليل فهو باطل مرفوض؛ فوجود هدف وغاية من عمل الشيء ينفي عن الفاعل العبثية، وعدم الغائية وعدم وجود هدف مِن عمل الشيء شيءٌ مذموم لا محمود، والخالق منزَّهٌ عن النقص والذم.
ولعل الملحد قصد بالهدف الدافع، وهو قوى محركة تبعث النشاط في الكائن الحي، وتُبدئ السلوك وتوجهه نحو هدف أو أهداف معينة[20]، أو الدافع هو أي عمل داخلي في الكائن يدفعه إلى عمل معين، والاستمرار في هذا العمل مدة معينة من الزمن حتى يشبع هذا الدافع[21] ؛ فالدافعُ ينشأ عن حالة من التوتر، يصحبه شعور الفرد بنقص أوحاجة معينة ليوجه السلوك باتجاه تحقيق هدف، أونتيجة لإشباع الحاجة أو النقص لدى الفرد.
ووراء كل سلوك يصدر عن الكائن الحي دافعٌ قوي يحركه، أو حاجة قوية تحركه وتدفعه إلى الظهور؛ أي: الدافع ينشأ نتيجة افتقاد الكائن الحي لشيء ما، فينتج عن ذلك نوعٌ من التوتر، يدفعه إلى محاولة إرضاء الحاجة المفتقدة، والله - عز وجل - لا يوصف بذلك؛ فهو القيوم وواجب الوجود لذاته.
والله - عز وجل - لم يخلُقِ الخَلْق ليحقق كمالاً ما؛ فهو واجب الوجود لذاته، وكامل في ذاته وصفاته.
والله - عز وجل - لم يخلُقِ الخلق ليشبع حاجة ما؛ فهو قيُّوم قائم بنفسه، مُستَغْنٍ بنفسه عن غيره، والله - عز وجل - لا يحتاج لشيء، بل الخَلْق يحتاجون إليه.
والله - عز وجل- له حكمة وغاية وهدف من الخَلْق، وليس له حاجة من الخلق، والحكمة من الخلق أن نعبده؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وفي عبادته - سبحانه - صلاحنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة، ونحن الذين نحتاج عبادته، ونحن من ننتفع بعبادته، فأمره لنا بالعبادة مِن حبه لنا، ومن فضلِه وكرمِه علينا.
والله - عز وجل - خلَقنا لنعبده باختيارنا؛ تشريفًا لنا، وتمييزًا لنا عن كثير من خَلْقه سبحانه.
والله - عز وجل - خلَقنا لنعبده؛ لأنه يحب أن يرى امتثالَنا وطاعتنا له سبحانه.
والله - عز وجل - خلَقنا لنعبده باختيارنا؛ ليُنعِمَ علينا في الآخرة - إذا عبدناه وحده وأطعناه - بالسعادة الأبدية، وذلك كرمٌ منه وفضلٌ.
وكون الله هو الخالق هذا يقطع بعدم احتياجه لغيره، فكيف ندعي أنه يحتاج عبادتنا، وهو لا يحتاج لغيره؟!
والله - عز وجل - ما كلَّف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعةً، أو ليدفع عن نفسه مضرة؛ لأنه تعالى غنيٌّ على الإطلاق، فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة؛ لأنه واجب الوجود لذاته، وواجب الوجود لذاته في جميع صفاته يكون غنيًّا على الإطلاق، وأيضًا فالقادر على خلق السموات والأرض، والشمس والقمر والنجوم، والعرش والكرسي، والعناصر الأربعة، والمواليد الثلاثة - ممتنعٌ أن ينتفع بصلاة "زيدٍ" وصيام "عمرٍو"، وأن يستضر بعدم صلاة هذا، وعدم صيام ذلك[22].
وقول الملحد: "وفي حالة غياب أي هدفٍ أو غايةٍ للخلق، فلماذا سنعبده؟".
والجواب: نقطع بأن أي فعل لله - عز وجل - له غاية وحكمة؛ فهو الحكيم في أفعاله، ودقةُ الكون وتناسقه ووضعُ كل شيء في الكون في موضعه: دليلٌ على عِلم الله وقدرته وحكمته.
ومجرد خلق الله لنا وإنعامه علينا بالحياة نعمة تستوجب العبادة، سواء علِمنا الغاية من الخلق أو لم نعلم، ومن يقول: لا أعبد اللهَ رغم أنه خلقني؛ لأني لا أعرف الغاية من خَلْقي، كمن يقول: لا أطيع والدي رغم أني أعرف أنه والدي؛ لأنه لم يبيِّن لي لماذا أنجبني؟
ومجرد إنعام الله علينا بأجلِّ النِّعَم - كالحياة والسمع والبصر والعقل - يستوجب عبادته سبحانه، سواء علمنا الغاية من الخلق أو لم نعلم، ومجرد اتصاف الله بصفات الجلال والكمال يستوجب عبادته سبحانه، سواء علمنا الغاية من الخلق أو لم نعلم، ومن رحمة الله بنا أن أرسل لنا أنبياءَ ورسلاً ليعرِّفونا الغاية من الخَلْق، وكيف نعبد الخالق!
يقول الملحد: (ربما عظمته وجلاله في حد ذاتها سببٌ كافٍ يدفعنا للعبادة) حقًّا عظمة الله وجلاله وكماله وجماله تستوجب استحقاقَ عبادة الله لذاته.
ويقول الملحد: (ربما السبب أن الله بنفسه طلب منا عبادته، وطلبه هذا جاء من كائنٍ في موقع قوةٍ تجاه كائنٍ آخر في موقع ضعف، وهذا فيه استغلال للقوة والقدرة في إيذائنا ليفرض أحكامه علينا، بل يلجأ للتهديد والترغيب (قانونيًّا هذه جريمة ابتزاز) لإجبارنا على تنفيذ أوامره التي لا نعرف سببًا واضحًا لها أو غايةً معينة).
وهذا سوءُ أدبٍ، وتشويه للحقائق بالسفسطة، فما علاقة طلب العبادة باستغلال القوة؟ وهل أجبرنا الله على العبادة أو خيَّرنا؟ وهل أسلوب الترهيب دليلٌ على حب الله لنا أو كرهه لنا؟
وتحذير الله لنا من أن نعصيه دليلٌ على حبه لنا، كما أن الوالد الذي يخاف على ولده من الرسوب في الامتحان يحذره من الرسوب، فيقول لولده: لو رسبت سأفعل بك وأفعل، وكما أن الأم التي تحب أن يكون لباس ابنها نظيفًا تحذره من اتساخ الملابس فتقول: لو اتسخت ملابسك سأفعل بك وأفعل، وهل تهديد الحكومة لمن يخالف القانون شيء مذموم؟ وهل تهديد الأب لابنه الذي لا يذاكر أنه سيعاقبه شيء مذموم؟ وهل تهديد رئيس العمل للموظف الذي يخطئ شيء مذموم؟
ولو سلَّمنا جدلاً أن أسلوب الترهيب فيه استعمال القوة، فهل استعمال القوة لتقويم المعوجِّ شيء مذموم؟ وهل تقويم الحكومة للمجرم شيء مذموم؟ وهل عقاب الأب لابنه على خطأ ارتكبه شيء مذموم؟
سبحان ربي! الله يأمرنا بما فيه الخير لنا والملحد لا يريد الخير! والله يأمرنا بما فيه الصلاح لنا والملحد لا يريد الصلاح؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27].
وقول الملحد: (لإجبارنا على تنفيذ أوامره التي لا نعرف سببًا واضحًا لها) الملحد يعترض على خالقِه أنه يأمره بأوامرَ لا يعرف الغاية منها، لكنه لا يعترض على مَن هو أعلى منه في العمل عندما يأمره بشيء لا يعرف الغاية منه، وهل يجب على الأعلى إذا أراد من الأدنى منه أن يفعل شيئًا أن يبين له الحكمة من الأمر؟!
ويقول الملحد: (إن ضررها - يقصد الصلاة - في أغلب الأحيان أكثر من فوائدها؛ لِما تثيره من تبلدٍ للفكر (ترديد نفس العبارات مرارًا وتكرارًا) وإضاعةٍ للوقت وتبذيرٍ للجهد)، وهذا كلام مخالف للواقع؛ فالصلاة إذا أُدِّيَت كما ينبغي نهت عن الفحشاء والمنكَر، وكانت سببًا في زوال الهموم، وكانت راحة للنفس والبدن، ومن المعلوم أن الركوع والسجود في الصلاة يقوِّيان عضلات البطن والساقين والفخذين، وتزيد حركاتُ الصلاة من نشاط الأمعاء، وبالتالي تقلِّل مِن الإمساك، والملحد يكره ضياع جزء من الوقت بسبب الصلاة لخالقه، وكم ضيع وقته في مداعبة زوجته أو ولده أو صديقه!
والملحد يعيب تكرار نفس العبارات في الصلاة رغم أنها كلمات طيبة، والسؤال: ما المانع من تكرار الكلام الطيب؟ وهل تكرار الكلام الطيب يؤثر تأثيرًا سلبيًّا على الإنسان؟ وهل تكرار تعبيرك لزوجك بالحب أمر غير مرغوب؟ وهل تكرار تعبيرك لأمك بالحب أمر غير مرغوب فيه؟
ويقول الملحد: (حاجة الله لعبادتنا تنفي عنه صفة الكمال لثبوت حاجته)، والسؤال: ما دليلك على أن الله يحتاج العبادة منا؟ ألا تعلم أن الله عندنا واجب الوجود لذاته؟ ألا تعلم أن الله عندنا قيُّوم؟ والملحد ربما توهم أن طلب الله العبادة منا دليلٌ على احتياجه لها، وهذا الفهم مبنيٌّ على مغالطة أن كل أمر يأمر به السيد عبده يحتاجه السيدُ من العبد، وهذا ليس صحيحًا؛ فقد يكون الأمر اختبارًا من السيد لعبده، وقد يكون الأمر تشريفًا للعبد بفعل شيء جدير أن يفعله، وقد يكون الأمر لمحبة السيد أن يرى امتثال عبده له وطاعته له، وقد يأمر السيد عبده بشيء إذا فعله رفع منزلته عنده، وأفاض عليه بعطايا عظيمة، ولله المثل الأعلى.
ويقول هذا الملحد: (ولو افترضنا نحن حاجتنا لعبادته، فإن تلك الحاجة تنفي التكليف الذي يفرضه علينا؛ لأن العبادة حينها ستكون حاجةً طبيعيةً مثل الحاجات الإنسانية الأخرى؛ كالهواء والغذاء).
وهذا الكلام تشويه للحقائق بالسفسطة، وأين الدليل الدال على أن الحاجة تنفي التكليف؟ وهل من موانع التكليف الاحتياج؟ نحن نعلم أن من موانع التكليف الجهل، والخطأ، والنسيان، والإكراه، ولم نقرَأْ في أي شرع أو قانون أن الحاجة من موانع التكليف، وما قولك في حاجة المغتصب في الاغتصاب وحاجة السارق في السرقة؟!
هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات!
مراجع المقال:
آثار ابن باديس.
التفسير المنير للزحيلي.
الفتاوى الكبرى لابن تيمية.
القرآن وعلم النفس لمحمد عثمان نجاتي.
اللباب في تفسير الكتاب.
المخصص لابن سيده.
تجريد التوحيد المفيد لتقي الدين المقريزي.
تفسير الشعراوي.
شرح أسماء الله الحسنى للرازي.
طريق الهجرتين لابن القيم.
علم النفس التربويل أحمد زكي صالح.
قاعدة في المحبة لابن تيمية.
مجموع الفتاوى لابن تيمية.
مذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب.
مفتاح دار السعادة لابن القيم.
مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها لعلي أحمد مدكور.
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي.
[1] الفتاوى الكبرى لابن تيمية 5/ 154 - 155.
[2] آثار ابن باديس 1/ 456.
[3] مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها لعلي أحمد مدكور 1/ 136.
[4] مذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب ص 395.
[5] انظر شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص 125.
[6] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي 7/ 359.
[7] تجريد التوحيد المفيد لتقي الدين المقريزي ص 27.
[8] مفتاح دار السعادة لابن القيم 2/ 89.
[9] المخصص لابن سيده 13/ 96.
[10] شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص 125.
[11] التفسير المنير للزحيلي 8/ 126.
[12] مجموع الفتاوى لابن تيمية 1/ 35.
[13] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي 6/ 366.
[14] تفسير الشعراوي 13/ 8083.
[15] مجموع الفتاوى لابن تيمية 1/ 37.
[16] مفتاح دار السعادة لابن القيم 2/ 89.
[17] انظر الفتاوى الكبرى لابن تيمية 5/ 160.
[18] قاعدة في المحبة لابن تيمية ص 255.
[19] طريق الهجرتين لابن القيم ص 321.
[20] القرآن وعلم النفس لمحمد عثمان نجاتي ص 27.
[21] علم النفس التربويلأحمد زكي صالحص 798.
[22] اللباب في تفسير الكتاب 16/ 477.
التعليقات