لقد كان لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مكانتها الاجتماعية التي تميزها، وقد تحقَّقَت لها هذه المكانة للأسباب الآتية:
(أ) أنها ابنة الصديق، وقد كانت له مكانته بين قومه في الجاهلية والإسلام.
قال ابن إسحاق: "كان أبو بكر رجلًا تاجرًا، ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يألفونه، ويأتونه لغير واحد من الأمر؛ لعلمه وتجارته، وحسن مجلسه"[1].
(ب) أنها انتقلت بعد ذلك إلى بيت النبوَّة، ولا شك أنها اكتسبَت من ذلك موقعًا اجتماعيًّا بين الناس، فأضيف إليها مكانةٌ أعظم بعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لذلك تأثيرٌ في تكوين شخصيتها القوية، مما جعلها مرفوعةَ الرأس، فخورةً بمكانتها بين الناس، وقيمتها الاجتماعية، ووزنها في قومها، ودفعَها ذلك أن تحافظ على هذه المكانة الاجتماعية، وتتطلع إلى ما هو أرفع.
وسوف أذكر بعض ثناء الناس عليها في هذه الصفحات:
مكانة عائشة عند الصحابة:
ثناء أبي بكر رضي الله عنه: عن أبي اليقظان قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلَك عِقدٌ لعائشة رضي الله عنها، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الفجر، فتغيَّظ أبو بكر على عائشة، فنزلَت عليه رخصة المسح بالصعيد الطيب، فدخل أبو بكر فقال لها: إنَّك لمبارَكة؛ نزلَت فيك رخصة..."؛ الحديث.
ثناء عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عن ذَكوان مولى عائشة رضي الله عنها قال: قدم درج من العراق فيه جواهرُ إلى عمر بن الخطاب فقال لأصحابه: تدرون ما ثمنُه؟ قالوا: لا، ولم يدروا كيف يقسمونه، فقال: أتأذنون أن أرسل به إلى عائشة؛ لحبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها؟ قالوا: نعم، فبعث به إليها، فقالت: ماذا فُتح على ابن الخطاب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم! اللهم لا تُبقني لعطيته لقابل.
وكان رضي الله عنه يعظ ابنته حفصة فيقول لها: "لا يغُرنَّكِ أن كانت جارتُك هي أوضَأ منك وأحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ يعني: عائشة[2].
وعن مصعب بن سعد قال: فرض عمر بن الخطاب لأمهات المؤمنين عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين وقال: إنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم[3].
واستأذنها رضي الله عنه وعنها أن يُدفن مع صاحبيه، فقال لابنه عبد الله - وهو على فراش الموت -: "انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل لها: يقرأ عليك عمرُ بن الخطاب السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين؛ لستُ اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمرُ بن الخطاب أن يُدفن مع صاحبيه"، فسلَّم واستأذن، ثم دخل عليها فوجدها قاعدةً تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال - يعني عمر -: ارفعوني، فأسنده رجلٌ إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين؛ أذِنَت، قال: "الحمد لله! ما كان من شيء أهمَّ إليَّ من ذلك، فإذا قضيتُ فاحملوني، ثم سلِّم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنَت فأدخلوني، وإن ردَّتني ردوني إلى مقابر المسلمين"[4].
ثناء علي رضي الله عنه على عائشة:
عن عاصم بن كليب، عن أبيه قال: انتهينا إلى علي رضي الله عنه، فذكر عائشة رضي الله عنها فقال: "خليلة رسول الله صلى الله عليه وسلم[5].
وبعد معركة الجمل جاء علي إلى عائشة بعد وقوف القتال في معركة الجمل مسلِّمًا فقال: كيف أنت يا أماه؟ قالت: بخير، فقال: يغفر الله لك[6].
ولما أرادَت الخروج من البصرة بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك، واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات، وسيَّر معها أخاها محمد بن أبي بكر[7].
بل سار معها مودعًا أميالًاًً كثيرة، وسرح بنيه معها بقية اليوم.
وكان بينهما هذا الحوار اللطيف النقي حيث قالت رضي الله عنها: يا بني، لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما كان بين المرأة وأحمائها، وإنه - على مَعتبتي - لمن الأخيار.
فقال عليٌّ: صدقَت والله، ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجةُ نبيِّكم في الدنيا والآخرة، وأعطاها اثنا عشَر ألفًا من المال.
ثناء ابن عباس رضي الله عنهما عليها
جاء ابن عباس رضي الله عنهما يستأذن على عائشة وهي في الموت، قال ذكوان: فجئتُ وعند رأسها عبدُ الله ابن أخيها عبد الرحمن، فقلتُ: هذا ابن عبَّاس يستأذن، قالت: دعني من ابن عباس لا حاجة لي به، ولا بتزكيتِه، فقال عبد الله: يا أمَّه إنَّ ابن عباس رضي الله عنهما من صالحي بَنيكِ يودِّعك ويسلِّم عليك، قالت: فائذن له إن شئت، قال: فجاء ابن عباس، فلما قعد قال: أبشري؛ فوالله ما بينكِ وبين أن تُفارقي كل نصَب وتلقَي محمدًا صلى الله عليه وسلم والأحبَّة إلا أن تفارق روحُكِ جسدك قالت: إيهًا يا ابن عباس! قال: كنتِ أحبَّ نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني إليه - ولم يكن يحب إلا طيبًا، سقطَت قلادتك ليلة الأبواء، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلقطها، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله: ﴿ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]، فكان ذلك من سببك وما أنزل الله بهذه الأمَّة من الرخصة، ثم أنزل الله تعالى براءتك من فوق سبع سماوات، فأصبح ليس مسجدٌ من مساجدَ يُذكر فيها اسم الله إلا براءتُك تُتلى فيه آناءَ الليل والنهار، قالت: دعني بك يا ابن عباس، فوالله لوددتُ أني كنت نسيًا مَنسيًّا[8]!
مكانتها عند عبد الرحمن بن عوف:
عن أم بكر أن عبدالرحمن بن عوف باع أرضًا له من عثمان بن عفَّان بأربعين ألف دينار، فقسمه في فقراء بني زهرة، وفي ذي الحاجة من الناس، وفي أمهات المؤمنين، قال المسور: فدخلت على عائشة بنصيبها من ذلك، فقالت: من أرسل بهذا؟ قلت: عبد الرحمن بن عوف، فقالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحن عليكم بعدي إلا الصابرون))، سقى الله ابنَ عوف من سلسبيل الجنة"[9].
منزلة عائشة عند عمار، رضي الله عنه:
كان يُثني عليها، ولما نال رجلٌ من عائشة، قال له عمار: "اغرب مقبوحًا منبوحًا، تؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم!"[10].
ومعنى "اغرب": ابعَد، "مقبوحًا" الذي يردُّ ويُطرد، "منبوحًا": الذي يُضرب مثل الكلب.
منزلتها عند معاوية رضي الله عنه:
كان معاوية يرسل إليها لتكتب له من مواعظها ووصاياها، وقد أرسل إليها معاويةُ بقلادة قوِّمت مائة ألف درهم فقسَمَتها بين أمهات المؤمنين، لا أدري دنانيرَ أو دراهم[11].
ثناء أسيد بن حضير رضي الله عنه عليها:
لما نزلت آية التيمم، وكان ذلك بسبب قلادة عائشة رضي الله عنها، قال أسيد بن حضير: "ما هي بأولى بركتكم يا آل أبي بكر"، وفي رواية قال: جزاك الله خيرًا؛ فوالله ما نزل منك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجًا، وجعل لنا منه بركة[12].
[1]انظر سيرة ابن هشام (1 /268)، ط نشر رئاسة البحوث العلمية.
[2] رواه الحاكم (4 /9) وقال: صحيح على شرط الشيخين إن صحَّ سماع ذكوان أبي عمرو، ولم يخرجاه، وقال الذهبي: فيه إرسال، ورواه أحمد بن حنبل في "فضائل الصحابة". ويَشهد له ثناء أسيد بن حضير عليها، وسيأتي.
[3] رواه أحمد في فضائل الصحابة (1642)، وعزَاه ابن حجر في "المطالب العالية" (4495).
[4] صحيح البخاري.
[5] صحيح البخاري.
[6] صحيح البخاري.
[7] صحيح البخاري.
[8] أبو يعلى في مسنده (6721)، والحاكم في المستدرك (4 /9) وقال: صحيح الإسناد، وأحمد في فضائل الصحابة (2 /873).
[9] أحمد (6 /135)، وقال شعيب: حسن، ورواه الحاكم (3 /310)، وابن سعد في "الطبقات" (3 /132)، والطبراني في الأوسط (10 /52)، وابن عساكر في التاريخ (10 /131)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الحاكم: ليس بمتصل، وناقشه الألباني في الصحيحة (901)، ومال إلى تصحيحه دون الدعاء المذكور في آخره.
[10] رواه الترمذي (3832)، وقال حسن صحيح.
[11] رواه ابن أبي شيبة في الآحاد والمثاني (1 /418).
[12] تقدم الحديث بتمامه؛ انظر ص9.
التعليقات