عناصر الخطبة
1/مقارنة بين إفلاس الدنيا وإفلاس الآخرة 2/من المواقف الصعبة في عرصات القيامة 3/أسباب الإفلاس الأخروي 4/ فما أعظم حسرة المفلسين 5/درس نبوي في التحلل من مظالم العباد.اقتباس
إفلاسُ الدُّنيا مُؤْلِمٌ وَمَرِيْرٌ، وَمُؤَثِّرٌ على العَقْلِ والصِّحَّةِ خَطِيْر، بَيْدَ أنَّ هذا الإفْلاسَ يَظَلُّ محدوداً يمكن تَعْوِيْضُه. وهو إفلاسٌ يَتَصَاغَرُ أمامَ الإفلاس الحقيقي الأخروي الذي لا يعوَّض. إنه إفلاسُ ضياعِ العملِ والحسنات، وضلالِ السَّعْيِّ والقربات.
الخطبة الأولى:
إخوة الإيمان: السَّعْيُ وراءَ الكَسْبِ وَجَمْعُ المدَّخَرِ، خُلُقٌ مَرْكُوزٌ عِنْدَ بَنِي البَشَرِ، فالكلُّ يَهْرُبُ مِنَ الإفْلاسِ، والجميعُ يحْذَرُ عَيْشَ الإِبْلَاسِ.
إفلاسُ الدُّنيا مُؤْلِمٌ وَمَرِيْرٌ، وَمُؤَثِّرٌ على العَقْلِ والصِّحَّةِ خَطِيْر، بَيْدَ أنَّ هذا الإفْلاسَ يَظَلُّ محدوداً يمكن تَعْوِيْضُه. وهو إفلاسٌ يَتَصَاغَرُ أمامَ الإفلاس الحقيقي الأخروي الذي لا يعوَّض. إنه إفلاسُ ضياعِ العملِ والحسنات، وضلالِ السَّعْيِّ والقربات.
لا تَسَلْ عَنْ حَسْرَةِ مَنْ أَتَى يومَ القيامةِ بحسناتٍ كأمثالِ الجبال، فَفَرِحَ بها واسْتَبْشَرَ، لكنَّه يراها تَذْهَبُ في دِيوان هذا وهذا، لا يَمْلك قوة ولا حولاً، حتى أضحى من المفلسين الخاسرين. إليكم هذا النَّص النبوي الذي يَرْتَجفُ له الوجدان:
يُحدِّثُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- صحابتَه الكرامَ؛ فيقول: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" فَقَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".
هذا الإفلاسُ الأُخْرَويُّ له أسبابٌ عَدِيْدَةٌ، يَجْمَعُها لفظُ الاعْتِدَاء؛ الاعتداءُ على الآخرينَ باللسان، والبغيُّ عليهم بالظُّلمِ والعُدْوان، وأخذُ أموالِهم بالباطلِ بلا حقٍّ ولا بُرْهان. فمسكين ذلك الكائنُ المفْلِسُ الذي جعل بِضَاعَتَهُ في يومه وليلِه، بلسانِهِ وأنَامِلِه، الكلامَ في الناس، إساءة وخسفاً، وتخويناً ونسفاً.
أحكامٌ عِظَامٌ ثِقَالٌ، مَصْدَرُها قِيْلَ وَقَال، تُوْغِرُ الصُّدوَر، وَتُفْسِدُ الأُخُوَّةَ، وتُبنى الأحكامُ فيها بالظنِّ الكاذب، والتَّخْمينِ الفاجر؛ فتذكر يا هذا، أنك لم تُخلق لهذا، ولم تُؤمر بهذا، ولن تُسأل عن هذا.
روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما بسند صحيح أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال في مؤمنٍ ما ليس فيه أسكنَه الله رَدْغَة الخَبال حتى يخرج مما قال"؛ ورَدْغَة الخَبال جاء تفسيرها في روايات أخرى بأنها عصارة عرق أهل النار وصدُيدهم.
مِسْكِيْنٌ ذلك اللذَّاعُ بالشَّتِيْمَةِ واللَّعنِ، اللدَّاغُ بالفُحْشِ والطَّعْنِ، أما عَلِمَ أنَّه تقلَّدَ منزلةً بَغِيضةً عند الله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ"(رواه مسلم).
مِسْكينٌ أمْرَ ذلك المفلسِ الظّلوم، الذي جَعَلَ أهونَ ما عليه ظُلْمَ الناس، فلا يعبأُ بِحُرْقَتِهِمْ، وَلَا يَلْتَفِتُ لِقَهْرِهِمْ وآهاتِهِمْ، زَيَّنَ له الشيطانُ سوءَ عمله، حتى رأى البغيَ دهاءً، وقوةً وَحُسْنَ أداء.
يَمْنَعُ هذا من عَرَقِهِ وَمُسْتَحَقِّهِ، ويَعْتدي على هذا في معاملَتِهِ وحقِّهِ، يَجورُ على زوجتِه، ولا يعْدِلُ بين أولادِه في هبَتِه، ويَعْتدي على من تحتَ سُلْطتِه وسطوتِه.
وما عَلِمَ أنَّ الظُلمَ عارٌ وَشَنارٌ، وخُلُقٌ للمستكبرينَ والفجَّار، وما عَرَفَ المفلسُ وما دَرَى، أنَّ المظلومَ بيدِه دعاءٌ ودَعْوَى، ولسان حاله:
سَتَعْلَمُ يا نَؤُومُ إذا الْتَقيْنَا ** غداً عندَ الإلهِ مَن الظَّلُوْمُ
أَمَا واللهِ إنَّ الظُّلْمَ لُؤْمٌ ** وما زالَ الظَّلُومُ هو الملومُ
إلى ديَّانِ يومِ الدِّيْنِ نَمْضِي ** وَعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الخُصُومُ
مِسكين ذلك المفلس الذي امْتَهَنَ التَّكسبَ بالحرام، يُسَوِّق بضائِعَه بالأيمان الكاذبة، لا يَتورَّعُ عن الغش، ولا يَفْرَقُ قلْبُه من الرِّبا، فالحلال ما دخل في جيبه بأيّ وسيلةٍ، طغى عليه الجشع، فأكل وأكل من الحرام وما شبع، أسكره وأطغاه حب المال، ونسي سنة الإمهال، وأن المال عارية مستردَّة، من أخذه بالكسب الحلال فهو مسئول عنه وله حساب، وإن أخذه بالحرام فهو شؤم عليه وعذاب، ومن ذلك العذاب النفسي الأخروي الذي يراه بذهاب حسناته لغيره، أو باطِّراح سيئاتِ الغَيْر عليه (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)[فصلت:46].
مِسكين ذلك المفلس المعتدي، يقدم على ربه ويمينه ملطَّخة بالآثام، قد سفك دم هذا، وبصق على هذا، ولطم هذا، وتعدى على هذا، فالحسابُ عسير، والاستيفاءُ بالقطمير، فما أعظم حسرة المفلسين! وما أشد لوعتهم في ذلك اليوم، (اليوم تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[غافر:17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد، ففي غداة غزوة بدر جعل رسول الله يُعَدَلُ صُفُوفَ أَصْحَابِهِ، وَبيَدِهِ سهمٌ، فَمَرَّ بِسَوَادِ بْنِ غَزِيَّةَ -رضي الله عنه-، فرآه متقدم على الصَّفِّ، فَطَعَنَ رَسُولُ اللهِ فِي بَطْنِهِ، وَقَالَ: "اسْتَوِ يَا سَوَادُ"، فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْجَعْتَنِي، وَقَدْ بَعَثَكَ اللهُ بِالْعَدْلِ؛ فَأَقِدْنِي، فَقال لَهُ رَسُولُ اللهِ: "استقد"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ طَعَنْتَنِي وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ، فَكَشَفَ رَسُولُ اللهِ عَنْ بَطْنِهِ، وقال: "استقد"، فَاعْتَنَقَهُ سواد وَجعل يقبِّل بَطْنَهُ، وقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقال: "ما حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ؟"؛ فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ، حَضَرَ مَا تَرَى، فَلَمْ آمَنِ الْقَتْلَ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَهْدِ بِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ بِخَيْرٍ.
هكذا هم العُظَماءُ لا يَأْنَفُونَ مِن الاقتصاص، بل يسعون لسلامة أنفسهم، والتحلل من خصومهم، يتسامحون هنا، قبل أن يقولَ القضاء كلمته هناك.
فتحلل أخي من كلِّ كلمةٍ جارحة قيلت، حتى ولو صغرت في عينك وندَّت، وانزع من نفسك غرورها، قبل تُنْزَعَ منك حسناتك وأنت تراها.
فأعراضَ المسلمين حفرةٌ من حُفر النار، فإياك أن تقف على شفيرها، بالطعن الجائر، والتصنيف المائل، فهذا وأيم الله نفوق في دركات الإفلاس.
وأخيراً -يا عبد الله- لا تأسف على مظلمة تجرعتها، ولا تأسى على كلمات قِيلت عنك تلوَّعتها، فلربما كان هذا الألم هو سبب سرور الدائم، ولربما هذا الابتلاء هو سبب رفعتك عند الله، ونبيك -صلى الله عليه وسلم- قد أقسم فقال: "وما ظُلِمَ عبدٌ مَظْلمةً فصبر عليها إلا زاده الله بها عزاً".
صلوا بعد ذلك على رسول الهدى..
التعليقات