عناصر الخطبة
1/ المعوذتان فيهما جماع الخير 2/ وقفات وتأملات مع المعوذتين 3/ الاستعاذة في سورة الفلق 4/ الاستعاذة من أربعة شرور في سورة الفلق 5/ الاستعاذة في سورة الناس 6/ اللجوء إلى الله ملك الناس إله الناس 7/ تخصيص الاستعاذة بالوسوسةاهداف الخطبة
اقتباس
ماذا قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حينما نزلت المعوذتان؟! وكيف استقبلها رسولك -صلى الله عليه وسلم-؟! روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط؟! (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)" ..
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد: سيبقى كلام الله ملاذنا، وسيبقى القرآن قبلتنا، وسيبقى مقصود القرآن هدايتنا ونفعنا؛ نعم، الأهم أن ننتفع بما نقرأ، أن ننتفع بما نحفظ من كلام ربنا سبحانه.
أيها الإخوة: سورتان نحفظهما جميعا، لكن نريد مقصودهما، تعلُّم معانيهما، الانتفاع بهما، هما: سورة الفلق والناس، هما: المعوذتان.
أيها الإخوة المؤمنون: ماذا قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حينما نزلت المعوذتان؟! وكيف استقبلها رسولك -صلى الله عليه وسلم-؟! روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط؟! (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)".
بمثل هذا استقبل النبي هاتين السورتين العظيمتين، وفي الحديث الحسن عن عقبة بن عامر قال: بينا أنا أقود برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نَقب من تلك النقاب، إذ قال لي: "يا عقبة: ألا تَركب؟!". قال: فَأجْلَلْتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أركب مركبه. ثم قال: "يا عُقيب: ألا تركب؟!". قال: فأشفقت أن تكون معصية، قال: فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وركبت هنيهة، ثم ركب، ثم قال: "يا عقيب: ألا أُعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟!". قلت: بلى يا رسول الله. فأقرأني: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، ثم أقيمت الصلاة، فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ بهما، ثم مرّ بي فقال: "كيف رأيت يا عقيب؟! اقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت". وفي رواية يقول عقبة بن عامر: كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا عقبة: قل". فقلت: ماذا أقول؟! فسكت عني، ثم قال: "قل". قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟! فسكت عني، فقلت: اللهم، اردده عليَّ. فقال: "يا عقبة: قل". قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟! فقال: "(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)"، فقرأتها حتى أتيت على آخرها، ثم قال: "قل". قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟! قال: "(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)"، فقرأتها حتى أتيت على آخرها، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما".
أيها الإخوة المؤمنون: من منا لا يريد السلامة في دنياه لنفسه ولأهل بيته؟! من منا لا يريد السلامة في دينه لنفسه ولأهل بيته؟! إن كنت تريد ذلك فعليك بالمعوذتين، فقد قال العلماء: في سورة الفلق سلامة النفس والبدن، وفي سورة الناس سلامة الدين.
وأمعن معي النظر في السورتين، واقرأهما معي، ستجد أنّ المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة وهي أنه رب الفلق، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات، وهي الغاسق والنفاثات والحاسد، وأما في سورة الناس فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة: وهي الرب والملك والإله، والمستعاذ منه آفة واحدة، وهي الوسوسة، فالمطلوب في سورة الفلق سلامة النفس والبدن، والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين، وهذا تنبيه على أن مضرة الدين -وإن قلت- أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت.
أيها الإخوة المؤمنون: ولابد من وقفات وتأملات، مع كلمات هاتين السورتين، نتدبر شيئًا من ألفاظهما، لعل الله ينفعنا بهما.
معنى (أَعُوذُ) ألتجئ وأعتصم وأنحرز، والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير.
مَن المستعاذ به؟! إنه الله رب الكائنات، اعرف جيدًا وافهم جيدًا أنت بمن تستعيذ، بربك القادر القوي الحفيظ: الله رب الفلق، نور الفجر الذي يطرد الظلام، ورب الناس الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به ولا يستعاذ بأحد من خلقه، وقد قال الله في كتابه عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته رهقًا: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) [الجن: 6]، قال السدي: "كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أُضَرّ أنا فيه أو مالي أو ولدي أو ماشيتي، قال: فإذا عاذ بهم من دون الله، زادوهم رهقًا". أي: طغيانًا خوفًا وإرهابًا وذعرًا.
أيها العبد المؤمن: أنت في سورة الفلق تستعيذ برب الفلق من أربعة شرور ضارة مضرة:
الشر الأول: الشر العام في قوله (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) [الفلق: 2]، وهذا يعم كل شر في الدنيا والآخرة، وشر الشياطين من الإنس والجن، وشر السباع والهوام، وشر النار، وشر الذنوب والهوى، وشر النفس، وشر العمل. وقوله: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)، أي من شر كل مخلوق فيه شر.
والشر الثاني: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) [الفلق: 3]، والغاسق: الليل إذا أقبل ودخل في كل شيء، والغسق الظلمة، والوقوب الدخول؛ والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل هو أن الليل محلّ سلطان الأرواح الشريرة وفيه تنشتر الشياطين، لذلك أمرنا عند دخول الغروب أن ندخل أولادنا إلى البيوت ولا نبقيهم في الخارج؛ لأنها ساعة فوعان الجن؛ جاء الحديث الصحيح: "كفّوا صبيانكم عند فحمة العشاء، وإياكم والسمر بعد هدأة الرجل، فإنكم لا تدرون ما يبث الله من خلقه، فأغلقوا الأبواب، وأطفئوا المصباح، وأكفئوا الإناء وأوكوا السقاء، واذكرو اسم الله على ذلك كله".
والشر الثالث: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) [الفلق: 4]، وهذا الشر هو شر السحر؛ فإن النفاثات هنّ السواحر اللاتي يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر، ولما كان تأثير السحر من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة قال سبحانه: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ)، بالتأنيث دون التذكير، وقد دلّ قوله تعالى: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) على تأثير السحر وأن له حقيقة، والسحر يؤثر مرضًا وثقلاً وحلاً وقتلاً وحبًا وبغضًا وغير ذلك من الآثار، وقوله: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ)، دليل على أن النفث يضر المسحور في حال غيبته عنه.
الشر الرابع: (مِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد) [الفلق: 5]، وقد دلّ القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود، فإن لم يستعِذْ بالله ويتحصن به ويكون له أوراد في الأذكار والدعوات، والتوجه إلى الله والإقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله، وإلا ناله شر الحاسد ولا بدّ، وفي الحديث الصحيح في رقية جبريل -عليه السلام- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسدٍ، الله يشفيك".
وقيل للحسن البصري: "أيحسد المؤمن؟! قال: ما أنساك إخوة يوسف".
لذلك تعد سورة الفلق من أكبر أدوية المحسود والمسحور والمعيون؛ فإنها تتضمن التوكل على الله، والالتجاء إليه، والاستعاذة به.
أيها العبد المؤمن: أنت في سورة الناس تستعيذ بمن؟! بالله رب الناس، ملك الناس، إله الناس: (قلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) [الناس: 1]، فذكر ربوبيته للناس وملكه إياهم وإلهيته لهم، ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان، فأضافهم في الكلمة الأولى إلى ربوبيته المتضمنة لخلقهم وتربيتهم وتدبيرهم وإصلاحهم مما يفسدهم، وذلك يتضمن قدرته التامة ورحمته الواسعة، وعلمه بتفاصيل أحوالهم وبإجابة دعواتهم وكشف كرباتهم.
(مَلِكِ النَّاسِ): فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم في الشدائد والنوائب، فلا صلاح ولا قيام إلا به.
(إِلَهِ النَّاسِ): فهو إلههم الحق ومعبودهم الذي لا إله سواه، ولا معبود لهم غيره، فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشاركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم، فإذا كان هو ربنا ومليكنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره، فينبغي أن لا يُدعى ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب سواه، ولا يذل لغيره ولا يخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه.
أيها المؤمن: بعد هذا اللجوء الحار إلى العزيز الجبار، وهذا التوسل الصادق بصفات الخالق، ما الذي تطلبه؟! مم تستعيذ؟! (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ)، والوسواس الإلقاء الخفي في النفس، والوسواس الخناس: وصفان لموصوف محذوف، وهو الشيطان، فالوسواس الشيطان؛ لأنه كثير الوسوسة، وأما الخناس: فهو فعّال من خنس يخنس إذا توارى واختفى.
وتأمل كيف جاء بناء الوسواس مكررًا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارًا، حتى يعزم عليها العبد.
وجاء بناء الخناس على وزن الفعّال الذي يتكرر منه نوع الفعل؛ لأنه كلما ذكر الله انخنس، فإذا غفل العبد عاد بالوسوسة.
وقوله: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ)، صفة ثالثة للشيطان، فذكر وسوسته أولاً، ثم ذكر محلها ثانيًا وأنها في صدور الناس.
(مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ): بيان للذي يوسوس، وأنه نوعان: إنس وجن: فالجني يوسوس في صدر الإنسي، والإنسي يوسوس إلى الإنسي. فالموسوس نوعان: إنسي وجني، فإنّ الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب، وهذا مشترك بين الجن والإنس، وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى الواسطة؛ لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم.
أيها الإخوة: ولماذا خص الوسوسة؟! لأن الوسوسة تعم كل شر، وقد وصفه بأعظم صفاته وأشدها شرًا، وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة؛ فإن القلب يكون فارغًا من الشر فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويشهيه، فيصير شهوة، ويزينها ويحسنها له، فتصير إرادة، ثم لا يزال يمثل ويشهي وينسي ضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها، فلا يرى إلا التذاذه بالمعصية فقط وينسي ما وراء ذلك، فتصير الإرادة جازمة، فيشتد الحرص من القلب، فلا يزال الشيطان بالعبد يقوده إلى الذنب وينظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة.
فيا عباد الله: إن أصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة؛ فلهذا وصفه بها؛ ليكون الاستعاذة من شرها أهم، وفي أثر عن بعض السلف: "أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر"؛ لأنه كلما اعترضه صبَّ عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد، وأما شيطان الفاجر فهو معه في راحة ودعة، ولهذا يكون قويًا عاتيًا شديدًا، فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله وتوحيده وطاعته، عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار، فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يُعذبه شيطانه. وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي، وهو الشر الداخل في الإنسان، الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها المؤمن: اقرأ هاتين السورتين، وتعوذ بهما؛ فإنّ لهما تأثيرًا عجيبًا في دينك ودنياك، فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من ظلم الغير بالسحر والحسد، وهو شر من خارج الإنسان، وسورة الناس تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه، وهو شر من داخل الإنسان.
التعوذ بهاتين السورتين وقراءتهما والتحصن بهما من سنّة سلفنا الصالح؛ ففي النسائي قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الناس لم يتعوذوا بمثل هاتين: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)". وكان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وروى الإمام مالك عن عائشة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح بيده عليه، رجاء بركتها، وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر أصحابه بالتعوذ بهما، فالتعوذ بهما من هدي سلفنا الصالح، فلنقتدي بهم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
التعليقات