عناصر الخطبة
1/الشريعة وحفظها للنفس 2/التعريف بالمعاهدين والمستأمنين والذميين 3/ أحكام التعامل مع غير المسلميناقتباس
الإسْلامُ دِينُ العَدْلِ والْقِسْطِ والرَّحْمَةِ؛ فَقَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ حَقِّ كُلِّ مَن عَاشَ بَينَ الْمُسلِمِينَ، حيثُ يَتَمَتَّعُونَ بِالِحمَايَةِ وَالعَدْلِ، مَا التَزَمُوا بِمَا عاهَدُوا اللهَ عَليهِ والْمُؤمِنُونَ, بَل وَيَجِدُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الأَمْنَ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك:2] ، أحمده وأشكره، (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وأشـهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادقُ الوعد الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله تعالى، فما أوصى موص بخير منها، وما عمل عامل بأفضل منها، إنها أعظمُ وصية، وأفخرُ لباس وحِلية، (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)[الأعراف:26].
عباد الله: لقد كرم الله تعالى بني آدم، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، وشرع لهم من الشرائع والأحكام ما يكفل لهم حياة طيبة وسعادة دائمة في الدنيا والآخرة: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل:97].
ولقد جاءت شريعة الإسلام بما يحقق الأمن والاطمئنان لبني الإنسان، ومن ذلك حفظ الضروريات الخمس؛ التي جاءت الشرائع السماوية برعايتها، وهي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وإنَّ في طليعة هذه الضروريات حفظَ النفس الإنسانية، وصيانتها عن كل بغي وعدوان قد يودي بها إلى التلف والهلاك، قال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[الأنعام:151].
إنه الحق المشروع الذي أوضحه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي الصحيحين أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة"، وقد عدَّ الإسلام إزهاق روح المعصوم مسلماً كان أو غير مسلم عمداً وقصداً، جريمةً من أعظم الجرائم، وكبيرةً من أكبر الكبائر، تلي الشرك بالله تعالى في الإثم والعقوبة؛ كما في آية الفرقان: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا)[الفرقان:68].
وفي صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من قَتَلَ مُعَاهَدًا لم يَرَحْ رَائحَةَ الجنة، وإن رِيْحَهَا تُوجَدُ من مَسِيرَة أربعين عامًا".
والمعاهد: هو الكافر الذي له عهدٌ شرعي مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم.
والمستأمَنون: هم الكفّار الذين يؤذَن لهم بدخول بلاد المسلمين والإقامة فيها لمدّة محدّدة؛ كالسفراء والتجار والعُمال والزوار ونحوهم.
وأهلُ الذِّمَّة: هم الكفّارُ مِن أهل الدّيار الإسلاميّة، وقام بينهم وبين المسلمين عقدٌ يستوجب عصمةَ دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ووجوبَ حمايتهم، مقابلَ خضوعِهم لسُلطان الدّولة، ودفعِ الجزية.
وشريعة الإسلام تأمر بالوفاء بالعهود والمواثيق، وليس من دين الإسلام ولا من خصال أهله إيذاء المستأمنين والمعاهدين بأي صورة من صور الإيذاء، قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)[التوبة: 6]؛ أي اجعله في حماية منك حتى يبلغ المكان الآمن في بلده، وفي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل"، قال النووي: "المراد بالذمة هنا الأمان. معناه: أنَّ أمان المسلمين للكافر صحيح، فإذا أمَّنه به أحد المسلمين، حرُم على غيره التعرُّض له، ما دام في أمان المسلم "، وقد أجاز النبي -صلى الله عليه وسلم- أمان المرأة وجعل أمانها عاصما لدم المشرك فقال "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"(رواه البخاري).
فيجب على المسلمين أن يُعامِلوا أهلَ الذِّمّة بالعدل، وحفظ الحقوق، والإحسان إليهم، والوفاءُ لهم بعهدهم، وعدمُ نقضه إلا إذا وُجد منهم ما ينقضه قال عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "أُوصي الخليفةَ مِن بعدي بالمهاجرين الأوّلين خيراً..، وأوصيه بذمّة الله وذمّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يُوفى لهم بعهدهم، وأنْ يُقاتلَ مِن ورائهم، وأنْ لا يُكلّفوا فوقَ طاقتِهم"(رواه البخاري).
قال ابن تيمية: "جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود، والشروط والمواثيق والعقود، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغدر، ونقض العهود، والخيانة، والتشديد على من يفعل ذلك".
فالإسلام عادل بتشريعاته، منصف مع أعدائه: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)[المائدة:2]، ويظهر ذلك جلياً في معاملة المسلمين رعاة ورعية على مدارِ التاريخ لأهل الذمة وغيرهم ممن استئمنوا في بلاد الإسلام من غير المسلمين معاملةً عادلةً.
إن غير المسلمين إذا جاوروا المسلمين، ولم يظهر منهم اعتداء أو إيذاء؛ فالواجبُ في حقِّ المسلمين، أنْ يُحسنوا جوارَهم، وأن يُبرزوا محاسنَ الإسلام؛ كما قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الممتحنة:8].
فالإحسانُ إلى غيرِ المسلمين أمرٌ جائِز شرعًا، وفي حدود ما شرَعه الله ورسولُه -صلى الله عليه وسلم-، ولا يعني هذا أن نُحبَّهم بقلوبنا ونودهم، فالإحسان هو عملُ المعروف وبذله، لاحب الكُفر ومودة الشرك، فعن أسماء -رضي الله عنهما- قالت: قَدِمتْ أمي وهي مشرِكة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسولَ الله، إنَّ أمي قَدِمتْ وهي راغِبة، أفَأَصِلها؟ قال: "نَعَمْ، صِلِي أمَّك".
وكم يكون بينننا من معاهد ومستأمن من عامل وخادمة ونحوهم، وإن من أعظم الإحسان إليهم دعوتهم إلى الإسلام؛ لنيل أجرهم وأجر من أسلم عن طريقهم، ففي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي يوم خيبر: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم".
عباد الله: إن الجهل بأحكام التعامل مع غير المسلمين، من أهم الأسباب التي تؤدي إلى نقض العهد وخفر الذمة، واستحلال الدماء المعصومة، ناهيكم عن فكر تكفير المسلمين ثمَّ استحلال قتلهم، وإبطال عهد الحكام بعد تكفيرهم، ومن ثَّم استحلال دماء المعاهدين والمستأمنين.
إن مما ابتلي به الإسلام تصرفات جماعات وتنظيمات تنتهج التكفير والخروج عن جماعة المسلمين وإمامهم، يغدرون ويخونون باسم الإسلام، وهو منهم براء، وهم من الذين قال الله فيهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ)[البقرة:11-12]. وسلف هؤلاء من الخوارج كفّروا الصحابة وقتلوا عثمان وعليّا -رضي الله عنهم- وغيرهم من المسلمين، وسموا عدوانهم جهادًا في سبيل الله، وإنما هو جهاد في سبيل الشيطان.
فاتقوا الله -عباد الله-، واحذروا مما حذركم الله منه، واجتنبوا ما نهاكم عنه، وتعاونوا على كف البغي والعدوان، فلن يكون البغي والعدوان طريقاً إلى الحق، أو سبيلاً إلى العدل، فتبينوا الحق، وميزوه عن الباطل، ولا تأخذكم العزة بالإثم، (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[المائدة:2].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وسمع الله لمن دعا، وبعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واطووا مرحلة الحياة بخطى ثابتة، لا تُحَوِّلها عن الإيمان وتعاليم الدين عواصفُ الفتن، ولا تزحزحها عن الرضا بقضاء الله وقدره الشدائد والمحن، ولا يخرجها عن الرشاد إلى الضلال استفزاز الشيطان وتسويله (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[فاطر:6].
وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيِّكم محمد رسول الله، فقد أمرَكم بذلك ربُّكم فقال في محكم تنزيله، وهو الصادق في قيله، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدك، محمد الرسول المصطفى، والنبي المجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة، وأصحاب الشجرة، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفِّق وليَّ أمرنا ونائبه لما تحب وترضى، اللهم أعذنا من الفتن، ما ظهَر منها وما بطَن.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفِّسْ كروبنا، وعافِ مبتلانا، واشفِ مرضانا، وارحم موتانا.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف:23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة:201].
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى المُرسَلَينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات:180-182].
التعليقات