أ.د. راغب السرجاني
لم يكن بناء المسجد في حياة رسول الله لمجرد الصلاة، ولكن كان دور المسجد في حياة الأمة دور بناء وتفعيل وإيمان أيضا، فعلى هذا فإن للمسجد دور محوري في حياةالمسجد ودوره في حياة الأمة.
رسول الله وبناء المسجد
وصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مشارف المدينة المنوّرة، إلى قباء، فماذا فعل -صلى الله عليه وسلم-؟ وأريد منك الانتباه جيدًا للترتيبات النبويّة؛ لأنها مقصودة كلها، وكل شيء بحساب {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر: 49]، فهذا لترتيب مقصود بالفعل، وكذلك كل الإشارات في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحركاته وسكناته بوحي من رب العالمين، والاختيارات البشرية منه -صلى الله عليه وسلم- التي كانت لا تتوافق مع ما يريده الله -عز وجل- من الناس، كان جبريل -عليه السلام- ينزل مباشرة ليعدل المسار للمسلمين وليوضح مراد رب العالمين من هذه النقطة، وبذلك أصبحت السيرة النبويّة من أولها إلى آخرها بوحي وتأييد من رب العالمين. وما من شك أنه لا سعادة في الدنيا ولا الآخرة إلا باتباع خطوات النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبالترتيب الذي فعل -صلى الله عليه وسلم-.
كانت أولى خطوات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قباء هي بناء المسجد، وسوف نذهب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنوّرة ثم نعود لقصة المسجد.
رسول الله يصل المدينة المنورة
بعد أسبوعين من وصول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قباء انتقل منها إلى المدينة المنوّرة، واستُقبلَ الحبيب -صلى الله عليه وسلم- مرةً أخرى استقبالًاً رائعًا من أهل المدينة، بعد أن كان قد استُقبل -صلى الله عليه وسلم- في قباء أوّل وصوله إليها. وفي المدينة تسابق الأنصار جميعًا بشتى قبائلهم لاستقبال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والجميع يرتقب اللحظة التي ينزل فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- عنده، والكل يريد أن يأخذ بخطام ناقته -صلى الله عليه وسلم- ليحظى بشرف إقامة النبي -صلى الله عليه وسلم- عنده، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهم كلمة أصبحت بعد ذلك منهجًا لحياتهم وحياة المسلمين، قال -صلى الله عليه وسلم-: "دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"[1]. نَعَمْ مأمورة من رب العالمين، وأنا أيضًا مأمور، والمؤمنون مأمورون {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوضح لهم هذا الأمر جيدًا، فهو -صلى الله عليه وسلم- لن يختر أي أمر من الأمور ما دام الله سيختار له، ربما يكون هواي أن أكون عند فلان أو فلان أو عند أقاربي من بني النجار أو كذا أو كذا.
لكن إذا أمر الله -عز وجل- فلا مجال للاختيار ولا مجال للهوى، والذي يأمر الناقة هو الله -عز وجل-، وعلينا جميعًا أن نسمع ونطيع.
وهكذا علمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بوضوح كامل، وكان من الممكن أن ينزل الوحي ويقول: انزل في بيت فلان، أو أقم المسجد في هذا المكان الفلاني، أو كذا أو كذا، لكن هذا المشهد العلني -وجميع الناس يتسابقون لاستقباله وهو -صلى الله عليه وسلم- يُخْرِجُ نفسه من الاختيار، ويجعل الاختيار الكامل لرب العالمين- هو زرعٌ لمعنى مهم جدًّا سيظل معنا طوال العهد المدنيّ كله، وما أكثر التشريعات والأحكام التي ستنزل في المدينة المنوّرة! وقد لا يفقهها عامَّة الناس، قد لا يدركون الحكمة من وراء الأمر، ومع ذلك عليهم أن يسمعوا ويطيعوا لله رب العالمين.
وبركت ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكان معين بالمدينة، وفي هذا المكان قرّر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يبني المسجد النبوي.
البداية من المسجد
أول عمل قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قباء كان بناء المسجد، وأول عمل قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة كان بناء المسجد، وهذا الأمر لم يكن على سبيل المصادفة، ولم يكن مجرد إشارة عابرة، هذا منهج أصيل، فلا قيام لأمة إسلامية بغير المسجد، أو قل لا قيام لأمة إسلامية بغير تفعيل دور المسجد؛ لأن المساجد الآن كثيرة، لكنّ الكثير منها غير مفعّل، ولا يقوم بدوره المنوط به.
يخطئ من يظن أن دور المسجد يقتصر على أداء الصلوات الخمس فحسب، بل إنه في بعض الدول الإسلاميّة يتم غلق المسجد بعد أداء الصلاة مباشرة، وكأن دوره الوحيد هو الصلاة فقط. وفي الحقيقة دورُ المسجد في الأمة الإسلاميّة أعمق من ذلك بكثير، فليست قيمة المسجد في حجمه ولا في شكله ولا في زخرفته ولا من الذي افتتحه أو قصّ الشريط، فهذه كلها شكليات فارغة لا قيمة لها، بل على العكس من ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يَنْهَى عن هذه الشكليات، وكان ينهى عن المبالغة في تزيين المساجد، كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ بِالْمَسَاجِدِ"[2]. وهذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل رحمه الله، وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أنسٍ t؛ ولفظ ابن خزيمة: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتَبَاهَوْنَ فِيهِ بِالْمَسَاجِدِ ثُمَّ لاَ يَعْمُرُونَهَا إِلاَّ قَلِيلاً"[3]. فربما تجد إنسانًا يقوم ببناء مسجد كبير، ثم لا تجد المصلين إلا صفًّا أو صفين. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ"[4]، ومعنى التشييد الرفع فوق الحاجة. وقال ابن عباس: "لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى"[5]. أي نهتمّ بالشكليات من رخامٍ ومرمرٍ وحليٍّ ونجفٍ وما إلى ذلك، ولا نهتم بالتربية في داخل المسجد.
دور المسجد في حياة الأمة
المسجد في حياة الأمة له أدوار في غاية الأهمية:
وأهم دورٍ للمسجد هو الحفاظ على إيمان المسلمين، وهذا هو الأساس الرئيسي الذي اجتهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يغرسه في نفوس أصحابه في مكّة، وفي نفوس الأنصار في بيعتي العقبة، إنه الإيمان بالله -عز وجل-. والمسجد كما يظهر من اسمه أي مكان السجود لرب العالمين I، والرضوخ الكامل له والطاعة المطلقة لكل أوامره، فإذا لم تكن تربيتي داخل المسجد فقد ضاع مني دور كبير جدًّا من أدوار المسجد، ومن الصعب جدًّا أن يجلس المسلمون في بيت الله -عز وجل- كي يأخذوا قرارًا أو يعتمدوا رأيًا ثُمَّ هم يخالفون ما أراده الله تعالى منهم.
هذا المكان (المسجد) يحفظ على المسلمين دينهم؛ لأجل هذا كانت حياة المسلمين تدور في مجملها حول محور المسجد، الصلاة في المسجد، ولا تقبل الأعذار في التخلف عن هذه الصلاة إلا في ظروف ضيقة ومحدودة جدًّا.
- المسجد مكان التقاء المسلمين وتقوية الأواصر بينهم.
قل لي بالله عليك، لو لم تكن منتظمًا في صلاة الجماعة بالمسجد: كم تعرف ممن يصلون معك الجمعة؟!
إنك لا تكاد تراه إلا مرّة كل أسبوع أو كل شهر، وهذا الأمر لا يقوي إطلاقًا الأواصر أو الروابط بين المسلمين، ويختلف الأمر كثيرًا إذا كنت محافظًا على الصلوات خمس مرات في اليوم، وستكون -بلا شك- علاقاتك على أقوى مستوى بكل من حولك، كيف تكون علاقتك بأخيك الذي تراه خمس مرات في اليوم في كل صلاة؟ لا شك أنها ستكون قوية، وإذا حدثت له أي مشكلة أو مرض أو نحو ذلك، سوف تعرف بها سريعًا، في حين أنك إذا لم تكن تلتقي معه إلا كل أسبوع أو أسبوعين أو شهر فربما لا تعرف ما يحدث له إلا قَدَرًا.
المسجد إذن يقوي وينمي الروابط والأواصر بين المسلمين، ويذيب الفوارق بينهم، فالحاكم يصلي بجوار المحكوم، والوزير بجوار الغفير. المسجد يتعاون فيه المسلمون على البرّ والتقوى دون النظر إلى الفوارق الطبقية التي بينهم.
- المسجد يُعدّ مدرسة لتعليم المسلمين كل أمور حياتهم.
- المسجد مكان لقيادة الأمة، فزعماء الأمة الإسلاميّة كانوا دائمًا في زمان ازدهار الأمة الإسلاميّة، سواء أيام الرسول عليه الصلاة والسلام أو في أيام الخلفاء الراشدين، أو في أي عصر من عصور النهضة والحضارة الإسلاميّة كانوا دائمًا يرتبطون بالمسجد ارتباطًا قويًّا، إنها مأساة حقيقية ألا يدخل زعماءُ الأمة المساجد إلا في المناسبات.
صلاح الدين الأيوبي كان يصلي في المسجد.
نور الدين محمود كان يصلي في المسجد.
عبد الرحمن الداخل كان يصلي في المسجد.
عبد الرحمن الناصر كان يصلي في المسجد.
يوسف بن تاشفين كان يصلي في المسجد.
قلج أرسلان كان يصلي في المسجد.
أيُّ بطل من أبطال الإسلام والمسلمين، وأيّ قائد رفع رأس الأمة فترة من الزمن كان مرتبطًا بالمسجد.
وأَبَى الله إلا أن يخزي كل من تخلّى عن المسجد يخزيه في الدنيا، وعذاب الآخرة -لا شك- كبير عند الله -عز وجل- لمن حرم الناس من المساجد.
إن سياسة الأمة الإسلاميّة كلها من عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبعد ذلك كانت تُدار من داخل المسجد، فتسير الجيوش من داخل المسجد، وقرارات الحرب من المسجد، والمعاهدات من داخل المسجد، واستقبال الوفود في داخل المسجد، والقضاء في المسجد، مقرّ الحكم في الإسلام وبيت الحكم هو بيت الله -عز وجل-.
ولم يكن المسجد مقرًّا للحكم والسياسة والقضاء فحسب، بل كان المسجد أيضًا مكانًا لإعلان أفراح المسلمين.
ومكانًا لتربية الأطفال، ومكان للترفيه أيضًا بأدب.
كان المسجد مأوى للفقراء وعابري السبيل، وكان مكانًا لمداواة المرضى.
وكل ما سبق له أدلته ومواقفه في السيرة النبويّة، لكن المجال لا يتسع لذكرها، فالأمر يحتاج إلى أبحاث لتفسير دور المسجد في حياة المسلمين، فالمسجد له دور في كل جزئية من جزئيات الحياة.
ليس معنى هذا أني أقصد أن نحوّل المسجد الآن إلى مستشفى ودار ضيافة ومحكمة ووزارة، ليس هذا هو المقصود، ولكن المعنى الذي يجب ألا يغيب عن العقل والذهن هو أن تربية المسجد تربية أساسية في إدارة كل هذه الهيئات، لأن الذي لا يعرف لله حقه لن يعرف للخلق حقوقهم، الذي ليس له ضوابط من الشرع لن تكون هناك حدود لظلمه وفساده وضلاله في الأرض، الذي لا يعرف طريق المسجد لا يعرف طريق الحق والعدل والأمانة والشرف.
هذه المعاني السابقة تعرّفنا بوضوح المعنى العميق الذي ذكره ربنا في الآية القرآنية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].
هذا الذي منع الناس من تفعيل دور المسجد لم يؤثر فقط على المصلين في المسجد، بل أثَّر في المجتمع بكامله؛ لذلك عظّم الله -عز وجل- من شأن هذه الجريمة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].
فهذا أول شيء فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بناء دولته، بَنَى مسجد قباء في قباء، وبنى المسجد النبوي في المدينة المنوّرة..
الملامح العامة لبناء المسجد
تعالوا بنا نرى كيف كان بناء هذا المسجد، فقد وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع صحابته جميعًا يبنون هذا المسجد، وفي بنائه من الدروس والعبر الكثير والكثير.
أولاً: البساطة في البناء، وكان الاهتمام الكامل بالجوهر لا بالشكل، وكان المسجد مبنيًّا بالطوب اللبن والجريد، ومع هذا أخرج هذا المسجد عمالقة حكموا العالم كله بعد ذلك.
ثانيًا: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزعيم والقائد لهذه الأمة، والذي يتمنى الجميع أن يفديه بالنفس والمال، ويحميه بروحه ويتمنى ألا يصيبه أي تعب أو نصب، نزل بنفسه مع شعبه يبني المسجد، يحمل -صلى الله عليه وسلم- معهم التراب وينقل معهم الحجارة، ويقيم الأعمدة ويخطط للبناء، كل هذا مع شعبه، وهذا الأمر من أبلغ الوسائل لتربية الشعوب، وهذه هي المشاركة الحقيقية، والمعاناة الكاملة مع الشعب، وهذه النقطة مستمرة معنا في كل السيرة النبويّة، ففي غزوة بدر كان -صلى الله عليه وسلم- يقاتل معهم بنفسه، وفي أُحُد كذلك، وفي الخندق، وفي كل سفر وحضر، معهم -صلى الله عليه وسلم- في مشاكلهم وفي أفراحهم وأتراحهم، وهو معهم -صلى الله عليه وسلم- حتى عند موتهم، وحتى إيصالهم إلى قبورهم، فهو مع كل واحد منهم يحرص على تربيته من اللحظة الأولى وحتى النهاية، ومع كل إنسان منهم مهما كان هذا الإنسان بسيطًا أو فقيرًا أو من قبيلة أخرى، أو من لون آخر أو من جنس آخر أو من بلد آخر، كل المسلمين سواء والرسول عليه الصلاة والسلام واحدٌ منهم، وكذلك كان زعماء الأمَّة أيضًا في زمن قوة المسلمين.
هذه أسسٌ رئيسية لبناء الأمة الإسلاميّة، وما نتحدث عنه الآن في إيجاز يحتاج إلى تفصيلات كبيرة جدًّا، وتأصيل في داخل الأمة الإسلاميّة لترفع رأسها من جديد.
موقف لطيفٌ حدث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد قرار بناء المسجد في هذا المكان، وكما نعرف فإن ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بركت، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"[6].
وبذلك حُدِّد المسجد النبويّ في أي مكان يكون، وفي ذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- -وهو إلى هذه اللحظة ليس له بيت، ولم يحدد بعدُ أين يسكن في المدينة-: "أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟" فهو -صلى الله عليه وسلم- لم يبحث عن أفخم دور المدينة، ولا عن أعز بيوت المدينة، ولا عن أقرب بيوت المدينة إلى قلبه سواء من ناحية قرابة بني النجار، أو من أصحابه أصحاب بيعة العقبة الأولى أو بيعة العقبة الثانية، لكنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟" في منتهى البساطة أيًّا كانت هذه الدار، فكل دور المسلمين داره -صلى الله عليه وسلم- وأهله، أهل المسلم هم المسلمون بصرف النظر عن أصولهم أو عرقياتهم أو قبائلهم أو ما إلى ذلك.
قد يكون المسلم الباكستانيّ أو السوريّ أو الإندونيسيّ أو الأمريكيّ، أقرب إلى المسلم من أخيه إذا كان هذا الأخ الذي يرتبط به في النسب لا يشترك معه في العقيدة، وما أبلغ ما قاله رب العالمين لنوح -عليه السلام-: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]. سبحان الله! ابنه وليس من أهله، لماذا؟! لأنهما مختلفان في العقيدة. والآن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبحث عن أقرب بيوت أهله مع أنه -صلى الله عليه وسلم- من قريش، وهؤلاء من الأوس والخزرج، فروع أخرى بعيدة تمامًا عن فروع قريش، وأول بيت وأقرب بيت كان بيت أبي أيوب الأنصاريّ t، وفيه استقرّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- فترة من الزمن، وحدثت فيه مواقف لطيفة ليس المجال لتفصيلها الآن.
وبعد ذلك بُني لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت، وعندما نقول (بيت) هذا على سبيل المجاز؛ لأن ما بُني إنما هي حجرة بسيطة وصغيرة جدًّا تفتح على المسجد، وبعد ذلك كان لكل زوجة من زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- حجرة، ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- في هذا الوقت متزوجًا إلا من السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها وأرضاها، فكانت حجرة واحدة، وكان عاقدًا على السيدة عائشة رضي الله عنها، لكن لم يكن قد بَنَى بها بعدُ.
ويبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بناء دولة لا تحكم المدينة فقط بل دولة مؤهلة لقيادة الأرض بكاملها ولِهَزّ عروش ضخمة جدًّا وممالك عظمى، من هذا البناء البسيط الصغير المسجد النبويّ البسيط الذي بُني في ذلك الوقت، وما من شك أنه مجهود هائل، ولا شك أنه في ظنّ كثير من النّاس حلم بعيد المدى بل مستحيل، لكن -سبحان الله- هذا الحُلم تحقق وبخطواتٍ معروفةٍ وثابتة.
ونحن هنا نتعرف على خطوات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانت الخطوة الأولى -والتي سبق أن ذكرناها- هي خطوة الإيمان الحقيقي اليقيني بالله -عز وجل-، وهذه بُنيت في مكّة، وعندما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة حرص -صلى الله عليه وسلم- على التأكيد عليها وزرع هذا المعنى من جديد من خلال المسجد النبوي ومسجد قباء.
[1] ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 273. ابن القيم: زاد المعاد 3/ 50.
[2] رواه أبو داود (449)، والنسائي (689)، وابن ماجه (739)، وأحمد (12402). قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (7421) في صحيح الجامع.
[3] رواه ابن خزيمة (1321). وقال الشيخ الألباني: ضعيف.
[4] رواه أبو داود (448). قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (5550) في صحيح الجامع.
[5] البخاري في صحيحه 1/ 171، وأبو داود في سننه 1/ 176.
[6] ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 273. ابن القيم: زاد المعاد 3/ 50.
التعليقات