عناصر الخطبة
1/حكم المزح ومقداره2/من محاذير المزحاقتباس
المُزاحُ هو أنيسُ المَجالسِ وجَليسُ المُؤَانِسِ، المُزاحُ هو مُفتاحُ القُلوبِ والنُّفوسِ، وهو بابُ البَهجةِ للوجهِ العبوسِ، بالمُزاحِ يَتَحوَّلُ جَو المَجالسِ من الكآبةِ إلى الفَرحِ، وبالمُزاحِ يتَجدَّدُ نَشاطُ العَاملِ بشيءٍ مِن المَرحِ...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
الحمدُ للهِ خَلقَ فَسوَّى، وقَدَّرَ فَهَدَى، أَضحَكَ وأَبكَى، وأَسعَدَ وأَشقَى، هو اللهُ الكبيرُ المُتَعالُ، المَتفرِّدُ بالجلالِ، والمَنعوتُ بصِفاتِ الكَمالِ، سُبحانَه .. العزُّ إزارُه، والكِبرياءُ رِداؤُه، مَلَكَ الرِّقابَ بالفَضْلِ الجَميلِ، وأَفَاضَ عَلى خَلقِه مِن عَطائهِ الجَزيلِ؛ فَلَهُ الحَمدُ على آلائه ولُطْفِهِ، ولَهُ الشُّكْرُ عَلى برِّهِ ورَحمتِهِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، المَلِكُ الحَقُّ المبينُ، وأَشهدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورسولُه، وصَفِيُّه من خَلْقِه وحَبيبِهِ، خَيْرُ الخَلْقِ دِينًا، وأَحسنُهم أَخْلاقًا، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبَاركْ عليه، وعَلى آلِه وصَحْبِهِ أَجمعينَ، وعلى التَّابعينَ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أما بعدُ: المُزاحُ هو أنيسُ المَجالسِ وجَليسُ المُؤَانِسِ، المُزاحُ هو مُفتاحُ القُلوبِ والنُّفوسِ، وهو بابُ البَهجةِ للوجهِ العبوسِ، بالمُزاحِ يَتَحوَّلُ جَو المَجالسِ من الكآبةِ إلى الفَرحِ، وبالمُزاحِ يتَجدَّدُ نَشاطُ العَاملِ بشيءٍ مِن المَرحِ؛ كَيفَ لا نَمزحُ وقَد مَزَحَ سيِّدُ المُرسلينَ، وإمامُ المُتَّقينَ، عليهِ أفضلُ صلاةٍ وسلامٍ إلى يومِ الدِّينِ؛ فقد أَتتْ عَجوزٌ إلى النَّبيِّ -صلى اللهُ عَليهِ وسلمَ-، فَقَالتْ: يَا رَسولَ اللهِ، اُدعُ اللهَ أن يُدخلَني الجَنَّةَ، فَقَالَ: يَا أُمَّ فُلانٍ، إنَّ الجَنةَ لا تَدخُلُها عَجوزٌ، فَوَلَّتْ تَبكي، فَقَالَ: أَخبروها أَنَّها لا تَدخُلُها وهي عَجوزٌ، إنَّ اللهَ تَعالى يَقولُ: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا)[الواقعة:36-37]، وقد مَزحَ الصَّحابةُ -رَضيَ اللهُ عَنهم- وضَحَكوا والإيمانُ في قُلوبِهم كالجبالِ، وعِندَ الحقائقِ كَانوا هُم الرِّجالَ.
وهَكَذا سَلفُ هَذهِ الأمَّةِ مِن العُلماءِ والأخيارِ، وكَانَ إمامُ الحَديثِ عَامرُ بنُ شُراحيلَ الشَّعبيُّ -رَحمَه اللهُ- ممن اشتهرَ بالمُزاحِ في إجاباتِه على الأسئلةِ الثَّقيلةِ؛ فقد جَاءَه رجلٌ فَسَألَهُ: ما اسمُ امرأةِ إبليسَ؟، فَقَالَ الشَّعبيُّ: إنَّ ذَاكَ لَعِرسٌ مَا شَهدتُه، وسُئلَ مَرةً في الحَجِّ: هَل يَجوزُ للمُحرمٍ أَن يَحُكَّ بَدنَه؟، قَالَ: نعم، قَالَ السَّائلُ: مِقدارَ كم؟، قَالَ: حَتى يَبدو العَظمُ.
ولذلكَ قِيلَ لسُفيانَ بِنِ عُيَينةَ -رَحِمَه اللهُ-: المُزَاحُ هُجنةٌ -يَعني مُستَنكَرٌ-؟، فَقَالَ: بل سُنَّةٌ، ولَكنْ الشَّأنُ فِيمنْ يُحسِنُه، ويَضعُه مَواضعَه؛ فالمُزاحُ سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ، ولكنْ فَعَلَهُ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أحياناً ليُقتدى بهِ؛ فيَنبغي أن يكونَ مِقدارُ المَزحِ في الكَلامِ كَمِقدارِ المِلحِ في الطَّعامِ، فإذا نَقَصَ لم يَكن للمَجالسِ حَلاوةٌ، وإذا زَادَ كَانَ سَبباً للضَّغينةِ والعَداوةِ، وَصَدقَ القائلُ:
أفدْ طَبـعَـكَ المَكدودَ بالجِدِّ رَاحَةً *** يَجُمُّ وَعَـلِّلهُ بِشَيءٍ مِن المَزحِ
ولكِنْ إذا أَعطـيْتُهُ المَـزحَ فَلْيَكُنْ *** بِمقدَارِ مَا تُعطي الطَّعامَ مِنَ المِلحِ
وكَذلكَ يَنبغي عَدمُ الكَذبِ في المُزاحِ، قَالَ الصَّحابةُ -رَضيَ اللهُ عَنهم-: إنَّك تُداعِبُنا يَا رسولَ اللهِ، قَالَ: "إنِّي لأمزَحُ، ولا أقولُ إلَّا حقًّا"، وللأسفِ عِندما أصبحتْ غَالبُ المَجالسِ مَجالسَ ضَحِكٍ ولهوٍّ، وأصبحَ المُقَدَّمُ فيها هُم أصحابَ الكَذبِ واللغوِ، أَصبحَ هُناكَ مَن يَكذبُ لِيَلفتَ إليهِ الأنظارُ، فَيضحَكُ النَّاسُ ويَبوءُ هو بعظيمِ الأوزارِ، واَينَ هذا مِن قولِ رَسولِ اللهِ -صلى اللهُ عَليهِ وسلمَ-: "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ"، واللهِ إنَّه لوعيدٌ شَديدٌ، لِمنْ كَانَ لَهُ قَلبٌ أو ألقى السَّمعَ وهو شَهيدٌ.
لا يَكذبُ المَرءُ إِلا مِنْ مَهانتِه *** أَو عَادةِ السُّوءِ أَو مِنْ قِلةِ الأَدَبِ
لَبَعضُ جِيفةِ كَلبٍ خَيرُ رَائحةٍ *** مِنْ كَذْبةِ المَرءِ في جِدٍّ وفي لَعِبِ
وإيَّاكَ والمَزحَ الذي فيهِ استهزاءٌ بالآخَرينَ، واستَشعِر -أيُّها المُؤمنُ- نِداءَ ربِّ العالمينَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11]؛ فَكَم مِن كَلمةٍ هَدَمَتْ حُصونَ الإخاءِ، وأورَثَتْ بَعدَ المَحبةِ جَفَاءً، وقَطَعتْ مَا لمْ يَستَطعْ وَصلُه العُقلاءُ.
فَلَرُبَما مَزَحَ الصَّديقُ بِمَزحَةٍ *** كَانَتْ لِبَدءِ عَدَاوةٍ مُفتَاحَاً
أقولُ ما تَسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الرحمنِ الرحيمِ، مَالكِ يومِ الدينِ، وصلى اللهُ وسلم على عبدِ اللهِ ورسولِه نبينا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أما بعد: ومِن المَحاذيرِ في المُزاحِ: تَرويعُ المُسلمِ بأيِّ نَوعٍ مِن أنواعِ التَّخويفِ، كَانَ الصَّحابةُ -رَضيَ اللهُ عَنهم- يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عَليهِ وسلمَ-، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ -بِقَصدِ المُزاحِ-، فَفَزِعَ، فَقَالَ -صلى اللهُ عَليهِ وسلمَ-: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا"، فإذا كَانَ لا يَحلُّ تَرويعُه في حَبلٍ؛ فَكيفَ ما يَحدثُ اليومَ بما يُسمى بالمَقالبِ التي تَشيبُ مِنها الرؤوسُ، والتي لا يُرادُ منها إلا التَّصويرُ والضَّحِكُ المَشينُ، وإيذاءُ عِبادِ اللهِ المُؤمنينَ: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المؤْمِنِينَ وَالمؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الأحزاب:58].
وأما قَاصمةُ الظَّهرِ، فَهو أن يَكونَ المُزاحُ في عِبادةٍ من العباداتِ، أو شَعيرةٍ مِن شَعائرِ ربِّ الأرضِ والسَّماواتِ، فإذا كَانَ مَن يَمزحُ بالكلامِ ويَقطعُ عَناءَ الطَّريقِ، فَقالَ: ما رأينا مِثلَ قُرائنا هَؤلاءِ؛ أَرغبُ بَطوناً، ولا أَكذبُ أَلسناً، ولا أَجبنُ عندَ اللقاءِ؛ فنزلَ قولُ اللهِ فِيهم: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة:65-66]؛ فَكيفَ اليومَ بمن يستهزئُ بالصَّلاةِ، ويَجعلونَها مُزاحَ مَجالسِهم، وتَمثيلَ مَقَالبِهم، ثُمَّ يأتي مَن يَضحَكُ ويَنشرُ، وقد قَالَ اللهُ: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)[النساء:140]؛ فإيَّاكَ ثُمَّ إيَّاكَ أن تَجعلَ دِينَكَ مَضحكَّةً للآخَرينَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
التعليقات