عناصر الخطبة
1/ الدَّين هَمّ بالليل وذل بالنهار 2/ وصايا للمدينين 3/ نصائح للدائنين والأغنياء 4/ الديون بسبب تكاليف الزواج المرهقة 5/ التحذير من فجأة الموت قبل سداد الديناهداف الخطبة
اقتباس
المدين مهموم مغموم، ولو رآه الناس فرحًا مسرورًا، المدين ذليل حسير، كسيرٌ أسيرٌ، ولو رآه الناس حرًّا طليقًا، كيف يرتاح قلبه وكيف يطمئن فؤاده وهموم الناس أحاطت به من كل جانب؟! كيف يرتاح في بيته وقد طرقت عليه الأبواب من أصحاب الديون وأصحاب الحقوق. كيف يرتاح نومه، كيف تنام عينه وهمُّ الدين يقلقها؟! وكيف يطمئن جسده ومصائب الحقوق تزعجه؟!
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.
عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه وأرضاه- قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد ذات يوم فرأى رجلاً من الأنصار يقال له: أبا أمامة جالسًا فيه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا أمامة: ما الذي أجلسك في المسجد في غير وقت صلاة؟!"، قال: يا رسول الله: هموم لزمتني وديون غلبتني. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أولا أدلك على كلمات إذا قلتهن أذهب الله عنك همّك وقضى عنك دينك؟!"، قال: بلى يا رسول الله. قال: "قل إذا أمسيت وأصبحت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال".
عباد الله: إنه الدَّين، هَمّ الليل، وذل النهار، إنه الدين الذي يزعج القلوب ويشتت الأفكار.
المدين مهموم مغموم، ولو رآه الناس فرحًا مسرورًا، المدين ذليل حسير، كسيرٌ أسيرٌ، ولو رآه الناس حرًّا طليقًا، كيف يرتاح قلبه وكيف يطمئن فؤاده وهموم الناس أحاطت به من كل جانب؟! كيف يرتاح في بيته وقد طرقت عليه الأبواب من أصحاب الديون وأصحاب الحقوق.
كيف يرتاح نومه، كيف تنام عينه وهمُّ الدين يقلقها؟! وكيف يطمئن جسده ومصائب الحقوق تزعجه؟! لذلك -عباد الله- استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من الدَّين وقهر الرجال.
المدين مهموم مغموم، فما أحوجه إلى الرحمة والعطف والإحسان! الله أعلم كم في قلوب المدينين من هموم وغموم لا يعلمها إلا الله رب العالمين؛ لذلك -عباد الله- وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي وأمي، على هذا المهموم والمغموم، وقد كان أرحم بأصحابه من الوالد بولده، وقف عليه فرأى آثار الأحزان والأشجان على وجهه، فنزل الوحي عليه من السماء بهذا الدعاء؛ لكي يكون سلوانًا للمدينين، وعزاءً للمعسرين والمنكوبين.
معاشر المدينين: أنزلوا الحوائج بأرحم الراحمين، وقفوا بباب أكرم الأكرمين.
الوصية الأولى: أن يكون فقركم إلى الله، وغناكم بالله، توكلوا على الحي الذي لا يموت، توكلوا على من بيده خزائن السماوات والأرض، توكلوا على الحليم الكريم، وفوضوا الأمور إليه، وأذعنوا له بالذلة والتسليم.
أستودع ربي أموري كلها *** إن لم يكن ربي لها فمن لها
أنزلوا الحوائج بالله، وتوكلوا على الله، وأحسنوا الظنون بالله، وإن ضاقت عليكم قلوبكم فوسعوها باليقين بالله -سبحانه وتعالى-، فكم من هموم وغموم أحاطت بأصحابها فرّجها الله عنهم من حيث لا يحتسبون.
الوصية الثانية: خذوا بالأسباب واطلبوا الرزق كما جعله رب الأرباب: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الملك:15]. إن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، خذوا بأسباب الرزق، وسددوا ولو بالقليل؛ قال –صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله". أي: من أخذ الدَّين وفي نيته أن يسدد أعانه الله وفتح له أبواب الرزق، ومن أخذ وهو يريد أن يضيِّع أموال الناس ويتلفها أتلفه الله -عز وجل-. خذوا بالأسباب، وسددوا ولو بالقليل؛ فإن الله يجعل القليل بالبركة كثيرًا.
يا معاشر الأغنياء والأثرياء: ارحموا الفقراء والضعفاء، وتفقدوا المحتاجين والبؤساء، رجل يريد الدَّين فأعينوه وأعطوه، وإياكم وسوء الظن بالناس، وإن ذهبت أموالكم بالدنيا فلن تذهب عند ذي العزة والجلال، إن كانت تفنى أموالها فالآخرة ستصلح أحوالها.
يا معاشر الأغنياء والأثرياء: ارحموا الفقراء والضعفاء، وتفقدوا المحتاجين والبؤساء، يسّروا ولا تعسّروا، واستمعوا إلى ذي العزة والجلال حيث يقول في كتابه أصدق مقال: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) [البقرة: 280].
يا معاشر الأغنياء: الله امتحنكم بالغنى والثراء، فاحمدوا نعمة الله عليكم، فإن جاءكم المدين يشكي دينه فساعدوه، إن جاءكم رجل يريد الدين فأعينوه وأعطوه، وإياكم وسوء الظن بالناس، وإن ذهبت أموالكم في الدنيا فلن تذهب عند ذي العزة والجلال، إن كانت الدنيا تفنى أموالها فالآخرة ستصلح بأحوالها.
يا معاشر الأغنياء: وسّعوا على الفقراء والضعفاء وردوهم إلى بيوتهم وقد جبرت نفوسهم، وجبرت خواطرهم المكسورة، فأي نعمة من الله -عز وجل- يُنعم بها على العبد يوم يجعله مفتاحًا للخير والرحمة، فينقلب الناس من عنده وقد فرجت همومهم وغمومهم، تصوروا رب العائلة، تصوروا شيخًا كبيرًا له أسرة إذا وقف بالغني فسأله حاجته ورده إلى أهله فرحًا مسرورًا، كم من أناس طوتهم القبور، وكم من أناس توسدوا اللحود إلى البعث والنشور، لا زالت تغشاهم إلى اليوم الدعوات، وتفيض عليهم في مساكن لحودهم الرحمات بما أسدوا من الجميل وتفريج الكربات.
يا معاشر الأغنياء والأثرياء: الدنيا فانية وزائلة حائلة، ووراءكم يوم لا يغني فيه مال ولا بنون، فادَّخروا من صالح الأعمال، وفرجوا لوجه ذي العزة والجلال.
عباد الله: في هذه الأيام تكثر الديون وتعظم الهموم على شاب يريد الفرح فتنقلب أفراحه أتراحًا، على شاب يريد أن يبني بيته ويرتاح مع أهله فإذا به يدخل إلى بيت الزواج مرهقًا بالديون مأسورًا بحقوق الناس.
اليوم تقام الأفراح، وتقام الولائم هنا وهناك، وهناك قلوب كسيرة أسيرة بالديون، نعم أناس يُهنَّون بأفراحهم وزواجهم، ولكن تمضي أيام قليلة فيكتوون بنار الديون، ويعيشون هموم الحقوق، حقوق الناس التي استعاذ النبي –صلى الله عليه وسلم- من بلائها.
الزواج نعمة من نعم الله، ومنة من أجلِّ منن الله، ولكنه ينقلب عذابًا على عباد الله، على الشباب الضعفاء الذين يخدعون بزهرة الدنيا ومتاعها، فارفقوا -عباد الله- بإخوانكم.
يا معاشر أولياء الأمور من الآباء والأمهات: يسّروا ولا تعسّروا، لا تشددوا على أبنائكم وبناتكم، ولا تضيقوا عليهم، وخذوا الأمور بالتيسير ييسر الله عليكم، لا تضيقوا عليهم في تكاليف الزواج، ولا تحمّلوهم ما لا يطيقون، ولا تجعلوهم في هم وغم الديون، ارحموهم يرحمكم الله، فكم من شاب دخل إلى بيت الزوجية وهو في العذاب يصلى بنار الديون، كيف يرتاح الزوج وقد تحمل الهموم والغموم؟! كيف يرتاح في بيت الزوجية وهو يدخل مشتت الذهن والبال؟! كيف يرتاح في عَيْشه ونصف راتبه أو ثلاثة أرباعه ذهبت طعامًا لضيوفه أو خرقًا لإخوانه وأخواته في لباسهم.
عباد الله: اتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، الدنيا فانية، ومظاهر زائلة حائلة، ومع هذا كله فإن علاج هذه المشكلة أن نعلم علم اليقين أن الله سائلنا عما ننفقه من الأموال، وأن الله سائلنا عما يكون من البذخ في الأحوال.
حل هذه المشكلة أن نتقي الله -عز وجل- بترك السرف والخيلاء والبعد عن المظاهر ومطالب النساء التي أصبحت تقلق الصغير والكبير دون فائدة أو عائدة، فاتقوا الله -يا معاشر الآباء-، واتقوا الله -يا معاشر الأمهات-، وارفقوا بالأبناء والبنات، واعلموا أن الله سائلكم ومجازيكم ومحاسبكم: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
لا يزال الأخيار بالخير، لا يزال في هذا المجتمع أناس لهم الفضل ولهم الخير قدوة للناس، نعم تجد الرجل منهم في قمة الحال علمًا وفضلاً، ولكنه يقيم زواجه باليسر والسماحة، يقيم زواجه باليسير وترك المبالغة والسرف والتبذير.
فخذوا من أمثال هؤلاء قدوة تُرضي اللهَ عنكم، وإياكم والتشبه بالسفهاء، وإياكم والمبالغة في الخيلاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
اللهم إنا نعوذ بك من همّ الدين وقلقه، اللهم صن ماء وجوهنا عن ذل سؤال غيرك.
اللهم احفظنا من الوقوف بغير بابك، اللهم اجعل فقرنا إليك وغنانا بك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى جميع أصحابه الغر الميامين، وعلى من سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الحساب والدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.
عباد الله: إن النبي –صلى الله عليه وسلم- عظّم أمر الدين، وكان من حكم الإسلام في أول الأمر أن من مات وعليه دين كان النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يصلي عليه حتى يقضى دينه، كل ذلك لكي يخوف الناس من الدين، كل ذلك لكي يرهبهم من الدين ويجعلهم في عافية من هذا البلاء العظيم.
الدين همّ بالليل وذل بالنهار، يمنع الإنسان من الخشوع في عبادته والطمأنينة في جسده، والراحة بين أهله وولده، ولذلك ينبغي على المسلم أن يبتعد عن أسباب الدين.
ومن أحكام الإسلام أن من ابتلي بالدين أنه مطالب بالسداد؛ حتى يبرئ ذمته، ويخلص نفسه، حتى إن الميت ثبت في الحديث عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه لو مات أحب ميتة إلى الله -جل وعلا- وهي ميتة الشهادة، لو مات شهيدًا غفرت ذنوبه ولم يغفر دينه؛ قال –صلى الله عليه وسلم-: "يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين". هذا الشهيد الذي يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويؤمن من عذاب القبر وفتنة القبر، ويشفع في سبعين من أهله، وروحه في حواصل طير خضر في الجنة تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، يغفر له كل شيء إلا الدين.
حقوق الناس -يا عباد الله-، ووصية للأبناء والبنات عند موت الآباء والأمهات: أن يبادروا بسداد الحقوق.
التأخّر في سداد دين الميت يعتبر بلاءً عليه، ثبت في الحديث عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه أُتي برجل ليصلي عليه فقال: "هل عليه دين؟!"، قال: نعم. قال: "صلوا على صاحبكم". فقال أبو قتادة: هما عليّ يا رسول الله -أي الديناران اللذان هما دين هذا الرجل عليّ أنا أقوم بالسداد- فصلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال أبو قتادة: فلم يزل يلقني في طرق المدينة -أي النبي صلى الله عليه وسلم- ويقول: "هل أديتهما؟! هل قضيتهما؟!"، فيقول: لا بعد. حتى لقيني ذات يوم فقال: "هل أديتهما؟!"، قلت: نعم. فقال: "الآن بردت جلدته"، الآن بردت جلد ذلك الميت بسبب كونه مرهونًا بالدين.
وعلى المدين أن يبادر بالسداد إذا كان عنده مال، فإذا تأخرت عن سداد الدين وعندك القدرة فأنت ظالم وعليك الإثم، وهذا من الجور وأذية العباد، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يماطل أصحاب الحقوق، فأنت مدين -ولو كنت غنيًّا ثريًّا- إذا أخرت حقوق العمال عن وقتها، أنت مدين ومأسور بدينك وظالم في فعلك إذا منعت الضعفاء والأجراء ومضت عليهم الشهور وأجسادهم تتصبب العرق لا ينالون حقوقهم، أنت ظالم لهم ومسؤول بين يدي الله عما فعلت بهم وعمَّا حصل من الضرر لهم ولعوائلهم، فاتقوا الله عباد الله.
وصلوا وسلموا على خير خلق الله فقد أمركم الله بذلك...
التعليقات