عناصر الخطبة
1/ المال زينةُ الحياةِ الدُّنيا 2/ الإسلام لا يدعو إلى الْمَسْكَنَةِ والافْتِقَارِ 3/ التحذير من حُبِّ الدُّنيا والركونِ إليها والتَّفاني في جمعِ المالِ 4/خطورة التكالب على الدنيا وجمع المال من الحرام 5/ ميزان شرعي للتعامل مع المال 6/ الحث على الصدقة وإكرام الأقارب الفقراء 7/ وجوب العدْل بينَ أولادِنا في العَطيَّةِ والهدِيَّةِ.اهداف الخطبة
اقتباس
أكلُ الحرامِ يُعمي البصيرةَ، ويُوهنُ الدِّينَ، ويُقَسِّي القَلبَ، ويُقعدُ عن الطَّاعاتِ، ويوقعُ في حبائِلِ الدُّنيا وغَوَائِلِها، و إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ . فاتقوا الله يا من تَستَدِينُونَ ولا تُوفُونَ! يا من تَسْرِقُونَ وتَغُشُّونَ! يا من تكتمونَ العيوبَ! وتَطْفِّفُون في الكيل والميزانِ! يا من تستعملونَ الأيمانَ الفَاجِرَةَ! يا من أعطاكم اللهُ فصاحةَ اللِّسانِ وقوةَ البيانِ، فَخَدَعتُمُ القُضَاةَ والْمَسئولِينَ، اتقوا اللهَ في أنفسِكم فقد قالَ –صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على النَّاسِ زمانٌ لا يُبَالِي المرءُ ما أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الحَلالِ أمْ مِنْ الحَرامِ"....
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله أنعَمَ علينا بالأموالِ، ووفَّق من شاءَ لِكَسْبِها بالحلالِ، نشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له ذو العظمةِ والجلالِ، ونشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه المبعوثُ بأكملِ الشَّرائعِ وأفضلِ الْخِصَالِ, صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليه وعلى آلهِ وأصحابِهِ ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومٍ الْمآل.
أمَّا بعدُ: فاتَّقوا الله عباد الله، اتقوه في أنفسِكم وأهلِيكم، اتقوه في أعمالكم وأموالِكم، اتقوه فيما تأكلون وما تدَّخِرُونَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة: 168].
عباد اللهِ: من مُسَلَّماتِ الدِّينِ الإسلاميِّ، أنَّ المالَ زينةُ الحياةِ الدُّنيا، وأنَّه مَطْلُوبٌ مَحبُوبٌ للنُّفوسِ، والإسلامُ لا يمنعُ طَلَبَهُ عن طريقِ طِيبِهِ وحِلِّهِ, بل يُحَرِّضُ على كَسْبِهِ، وحسنِ التَّصرُّفِ فيهِ، لِتُقْضَى به الْحُقوقُ، وتُؤدَّى بهِ الواجباتُ، وتُصانُ بهِ النُّفوسُ والْحُرمَاتُ.
فالمالُ حَقِيقَةً لا يطلبُ لذاتِهِ وإنَّما يُطلبُ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ من مَصَالِحَ ومنافِعَ، فهو وسيلةٌ لا غايةٌ، فالمالُ كالسِّلاحِ! وقد قال تعالى عن المالِ, وما يسوقُهُ من خيرٍ أو شَرٍّ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) [الليل: 5- 11].
فما أسعدَ المسلمَ، حين يعملُ طيِّباً ويكسِبُ طيِّباً! فإنَّ اللهَ تعالى طيبٌ لا يقبلُ إلا طيِّباً، وقد قال عزَّ شأنُه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172]. فَبِالكسبِ الطَّيِّبِ يَدَّخِرُ لِنَفْسِهِ، ما يحتاجُ إليه في غَدِه. وقد قال رسولُ الله : "إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ".
عباد اللهِ : ومن المُسَلَّماتِ أيضا أنَّ الإسلامَ لا يدعو إلى الْمَسْكَنَةِ والافْتِقَارِ والاتِّكالِ في القُوتِ على الغَيرِ، فَرسولُ الله يقولُ: "تَعَوَّذُوا باللهِ من الفَقْرِ والقِلَّةِ، والذِّلَّةِ". (رواهُ الإمامُ أحمدُ وغيرُهُ).
فَدِينُنا يريدُ منَّا أنْ نكونَ أغنياءَ أقوياءَ، لا مَهَازِيلَ ضُعَفَاءَ. ومعَ ذالِكَ فقد حذَّرنا دينُنَا من حُبِّ الدُّنيا والركونِ إليها والتَّفاني في جمعِ المالِ من غيرِ نظرٍ أَمِنْ حَلالٍ أو حرامٍ! لأنَّ البحثَ عن المالِ بالطُّرقِ الْمُحرَّمَةِ هو رأسُ كلِّ إثْمٍ وخَطِيئَةٍ، فَلَيسَ الغِنى مَالاً وَفِيرًا, وقَصْرًا كَبيرًا، وَثَرْوَةً ضَخْمَةً.
إنَّما الغِنى حَقِيقَةً هو غِنَى النَّفسِ وقَنَاعَتُهَا، والثَّروةُ حَقِيقَيةً في طاعةِ الله والرِّضا بما قَسَمَ لك! عن أَبي هريرةَ -رضي الله عنه- عن النَّبيِّ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيْسَ الغِنَى عَن كَثرَةِ العَرَض، وَلكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ". وقَالَ –صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ أفْلَحَ مَنْ أسْلَمَ ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وقَنَّعَهُ الله بِمَا آتَاهُ" وقَالَ –صلى الله عليه وسلم-: "يَا حَكِيمُ، إنَّ هَذَا المَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أخَذَهُ بإشرافِ نَفسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَاليَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى".
ولِذا أيُّها الكرامُ: حذَّر النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- أتبَاعَهُ من الْمَسأَلَةِ من غيرِ حاجةٍ! ففي المتفق عَلَيْهِ قَالَ –صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَزَالُ الْمَسْأَلةُ بأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى الله تَعَالَى وَلَيْسَ في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ".
عبادَ اللهِ: تَأمَّلوا تلكَ الوَاقِعَةَ التي حَدَثت من أفضلِ صحبٍ وأكرمِ رِفقَةٍ فَحينَ بَعَثَ رسولُ اللهِ أَبَا عبيدةَ بنَ الجَرَّاح -رضي الله عنه- إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأتِي بِجِزْيَتِهَا، فَقَدِمَ بمَالٍ وَفِيرٍ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بقُدُومِهِ، فَوَافَوْا صَلاَةَ الفَجْرِ مَعَ رسولِ الله فَلَمَّا صَلَّى رسولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم-، انْصَرفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رسولُ الله حِيْنَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: "أظُنُّكُمْ سَمعتُمْ أنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ؟" فقالوا: أجل، يَا رسولَ الله، فقالَ –صلى الله عليه وسلم-: "أبْشِرُوا وَأَمِّلْوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَو الله مَا الفَقْرَ أخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَط الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ".
عباد الله: إنَّ مَنْ يتَأمَّلُ هذا الحديثَ ويَنظُرُ في سُوقِ الأَسهُمِ, والمُدَايناتِ, والتَّوَرُّقاتِ. وكيفَ يَتَهافَتُ كثيرٌ من إخوانِنَا عليها, ويَتَقَحَّمُونَ الحَرَامَ ويجْترؤنَ على المُتَشَابِهِ ويُقَصِّرُونَ في السؤالِ عن الواجبِ يُدركُ يقيناً أنَّ رَسُولَنا لا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى! ففي قولِهِ–صلى الله عليه وسلم-: "وتُهلِكَكُم كَمَا أهْلَكَتْهُمْ".
فهو يَتَضَمَّنُ أنواعًا مِن الهَلاكِ رأَينَاها بِأُمِّ أَعيُنِنَا وَسَمعنَاها بِآذَانِنَا, لِعَددِ كبيرٍ من ضحايا الأسهُمِ والاكتِتاباتِ غير الشَّرعِيَّةِ! والدُّيُونِ والقُروضِ المُلتَوِيَةِ! فكم من أناسٍ هَلَكوا حينَ سَاهَمُوا بِشَرِكَاتٍ مُحَرَّمَةٍ, أو بُنوكٍ رِبَويَّةٍ؟ أو تَحايلوا على قروضٍ لِبِضَاعَاتٍ وَهمِيَّةٍ! كفاهُم خِزيا وعارا, وعذاباً ونكالا, أنَّهم أعلنوا حَرْبَهم على اللهِ ورِسُولِهِ! وأنَّهم يَقُومُونَ يومَ القِيامَةِ كالمَصرُوعِ الذي بِه مَسٌّ مِن الجنِّ، ذالِكَ أنَّهم في الدُّنيا كالمَجَانِينِ في جمعِ المَالِ من غيرِ حِلِّهِ فكانَ لهم جزاءً وِفَاقا!
فيا أيُّها المؤمنُ باللهِ وَرَسُولِهِ: إنَّ طلبَ الحلالِ وتَحَرِّيهِ أمرٌ واجبٌ وحتمٌ لازمٌ، فلن تزولَ قَدَمَا عبدٍ يومَ القِيامةِ حتى يُسألَ عن مالِهِ من أينَ اكتَسَبَهُ وفِيمَ أنْفَقَهُ. وأكلُ الحرامِ يُعمي البصيرةَ، ويُوهنُ الدِّينَ، ويُقَسِّي القَلبَ، ويُقعدُ عن الطَّاعاتِ، ويوقعُ في حبائِلِ الدُّنيا وغَوَائِلِها، و إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ . فاتقوا الله يا من تَستَدِينُونَ ولا تُوفُونَ! يا من تَسْرِقُونَ وتَغُشُّونَ! يا من تكتمونَ العيوبَ! وتَطْفِّفُون في الكيل والميزانِ! يا من تستعملونَ الأيمانَ الفَاجِرَةَ! يا من أعطاكم اللهُ فصاحةَ اللِّسانِ وقوةَ البيانِ، فَخَدَعتُمُ القُضَاةَ والْمَسئولِينَ، اتقوا اللهَ في أنفسِكم فقد قالَ –صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على النَّاسِ زمانٌ لا يُبَالِي المرءُ ما أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الحَلالِ أمْ مِنْ الحَرامِ".
فاللهم أغننا جميعاً بحلالك عن حرامِك، وبفضلِكَ عمَّن سِواكَ، اللهم لا تجعل الدُّنيا أكبرَ هَمِّنا، ولا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، ولا إلى النَّار مَصِيرَنَا، وَقَنِّعنا بما آتيتناَ, وبارك لنا فيما رَزَقْتَنَا, وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍّ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ لله أنعَمَ علينا بعظِيمِ آلائِه، نشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لهَ ونشكرهُ على واسعِ فضلِهِ وعطائِهِ، ونشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أفضلُ رُسُلِهِ وخَاتَمُ أنبيائِهِ، الَّلهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأوليائه.
أمَّا بعد: فأوصيكم عبادَ الله: ونفسي بتقوى اللهِ وكثرةِ حَمْدِهِ وشُكرهِ، فكم خَصَّكم بِنِعمَةٍ؟! وأَزَالَ عنكُم مِنْ نِقْمَةٍ؟! وَتَدَارَكَكُم بِرَحْمَةٍ؟! فالحمدُ للهِ أولاً وآخِراً وظاهراً وباطناً.
ثمَّ اعلموا عباد اللهِ: أنَّ قيمةَ المسلمِ ليست بأموالِهِ وأرزاقِهِ! "فإِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ". ولن يَبقَى للإنسانِ من عَمَلِهِ إلا ما كان خَالِصًا صَالحًا، وليسَ له من مالِه إلا ما أكلَ فَأَفنَى، أو لَبِسَ فَأبلَى، أو تَصَدَّقَ فأمضى وأبقى!
أيُّها الكرامُ: لقد أنعم اللهُ علينا هذه الأيامَ بشيءٍ من الأموالِ فللهِ الحمدُ أولاً وآخِراً (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النحل: 53]، وجَعَلَ هذا المالَ فتنةً لنا وامتحانًا فقالَ: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [التغابن: 15- 16].
والمالُ حَقِيقَةً هو ما نُقَدِّمُهُ لأنفسِنا ذُخْرًا عِندَ ربِّنا -جلَّ وعلا-، وفي الحديث قَالَ رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم-: "أيُّكُم مَالُ وَارِثِهِ أحبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟" قالوا: يَا رسولَ اللهِ، مَا مِنَّا أحَدٌ إِلاَّ مَالُهُ أحَبُّ إِلَيْهِ. قَالَ –صلى الله عليه وسلم-: "فإنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالَ وَارِثِهِ مَا أخَّرَ".
فيا من أنعمَ الله عليهم بالأموال، (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]، هذا هو ميزانُ التَّعاملِ مع المالِ يُفَسِّرُها ويَجْمَعُها قولُ النَّبيِّ –صلى الله عليه وسلم- : "كلْ واشربْ وتصدقْ والبسْ فإنَّ الله يحبُّ أنْ تُرى نِعمَتَهُ على عَبْدِهِ".
واعلموا يا كرامُ: أنَّ من أحقِّ النَّاس بالصَّدقةِ والهديةِ هم أقارِبُكُم؛ فإن الصَّدقَةَ والهديةَ عليهم يُضَاعَفُ أجرُها مَرَّتَينِ؛ وهكذا النَّفقاتُ يبدأُ الإنسانُ بِنَفْسِهِ، ثمَّ بِمَنْ يَعُولُ، قالَ –صلى الله عليه وسلم-: "ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ". وقَالَ رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً يَحْتَسِبُهَا فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ".
ولا تَحرِمُوا -إخوةَ الإيمانِ- أنفُسَكُم من المساهمةِ في المشروعاتِ الخيريَّةِ المتنوعةِ, فالحياةُ فُرَصٌ! (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون: 11].
واحذروا الحسدَ فإنَّهُ يأكُلُ الحسَنَاتِ, ويُمرِضُ القُلُوبَ, فكَم من حاسِدٍ صارَ هَمُّهُ كم نَزَلَ في حسابِ فلانٍ وكم؟! فيا مُؤمنونَ أريحوا قُلُوبَكم واحمَدوا ربَّكم واقنعوا بما أمَدَّكم. ولا يُلقَّاها إلاَّ ذُو حظٍّ عَظِيمٍ.
إخوةَ الإسلامِ: مِمَّا يجبُ العَمَلُ به العدْلُ بينَ أولادِنا في العَطيَّةِ والهدِيَّةِ، وتحريمُ تَفضيلِ بَعضِهم على بعضٍ على وجهِ المُحابَاةِ والتَّميِيزِ. ولو كانَ بعضُهم أبَرَّ وأَقرَبَ وأَوفَى مِن بَعضٍ! تَنفِيذاً لأمرِ اللهِ تعالى القَائِلِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) [النحل: 90].
واتِّباعَاً لِتَوجيهاتِ نبيِّنا القائِلِ: «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلاَدِكُمْ». فلا يجوز للأبِ ولا للأُمِّ أن يُفَضِّلا بعضَ أولادِهما على بعضٍ في العطيَّةِ والهَدِيَّةِ، فهذا نَبيُّ الرَّحمَةِ –صلى الله عليه وسلم- أرشدَ الآباءَ والأمَّهاتِ إلى الطَّريقِ السَّويِّ في التَّعامُلاتِ المَالِيَّةِ مع أولادِهم، فقد أَتاهُ بَشيرُ بنُ سَعدٍ أبو النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ -رضي اللهُ عنهما- يقولُ: يا رسولَ الله، إنَّ أمَّ هذا طلبَت مِنِّي أنْ أنحَلَ ابنَها نِحلَةً يعني عطِيَّةً وأُشهِدُكَ عَليها، فَوجَّهَ السُّؤالَ إلى الأَبِ قَائِلاً لَهُ: "أَكُلَّ ولَدِكَ أَعطيتَهم مِثلَهُ؟" هل هذهِ العَطيَّةُ شَمِلَت كُلَّ أولادِكَ؟قال: لا، وفي لفظٍ: قال: "فاردُده"، "أُتحِبُّ أنْ يَكونُوا لَكَ فِي البِرِّ سَواءٌ؟!" ، قال: نعم، قال: "فَلا إذًا"، "فاسترجِعها"، "لا تُشهِدني على جَور" ، "إنِّي لا أشهَدُ إلاَّ على حَقٍّ"، "أَشهِد على هَذا غَيرِي"، "سَوِّ بَينَهم"، "اتَّقوا اللهَ واعدِلُوا بَينَ أولادِكُم".
كُلُّ هذهِ الرِّواياتِ والألفاظِ صحيحَةٌ ثابِتَةٌ! فإذا كانَ الرَّسُولُ امتَنَعَ عن هذهِ الشَّهادَةِ فهوَ دليلٌ على قُبحِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وقُبحِ ذَلِكَ العَطَاءِ. قالَ الفَقُهاءُ: وهذا دَليلٌ على التَّحريمِ؛ لأنَّهُ سَمَّاهُ جَورًا، وأمَرَ برَدِّهِ، والجَورُ حرام، والأمرُ يَقتَضِي الوُجُوبَ.
أيُّها المُسلِمونَ: والرَّاجِحُ في العَطيَّةِ والهدِيَّةِ بينَ الأَولادِ أنْ تَكونَ القِسمَةُ بَينَهم على قَدْرِ مِيراثِهم؛ لِلذَّكرِ مِثلُ حَظِّ الأنثَيَين. فاللهُ -جَلَّ وعلا- أَعدَلُ العَادِلِينَ, وأحكَمُ الحاكِمِينَ.
فاللهم لا تجعل الدُّنيا أكبرَ هَمِّنا، ولا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، ولا إلى النَّار مَصِيرَنَا، وَقَنِّعنا بما آتيتناَ, وبارك لنا فيما رَزَقْتَنَا.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبَلُّغنا به جنَّتَكَ اللهم ألبسنا لباسَ التَّقوى، وألزمنا كلمة التقوى, وأدخلنا جنَّة المأوى, واجعلنا مِمَّن بَرَّ واتَّقى، وصدَّق بالحسنى فَيَسَّرتَهُ لليُسرى، وجَنَّبتَهُ العُسْرَى.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدكَ ونبيِّك محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينَ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].
التعليقات