عناصر الخطبة
1/فوائد الحديث عن الله -سبحانه وتعالى- 2/الغفور من أسماء الله الثابتة بالكتاب والسنة 3/مغفرة الله لذنوب عباده التائبين المستغفرين 4/من رحمة الله بعباده أن جعل أعمالا كثيرة لنيل مغفرته 5/آثار اسم الله الغفور على العبداقتباس
من آثار الإيمان باسم الله "الغفور": كثرة سؤال العبد ربه المغفرة لنفسه ولوالديه ولإخوانه المسلمين، واللهج بالاستغفار؛ فالاستغفار دواء للقلب، وسبب لمحو الذنب، والدعاء بالمغفرة يستفيد منه حتى من غفرت ذنوبه رفعة في درجاته. ومن الآثار أيضا: مجاهدة النفس على...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الواسعِ المجيدِ النصير، الكافيِ المتينِ القدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغفورُ الودودُ الكبير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خُلُقُه القرآن، أكُرم بالشفاعة وأعلى الجنان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلما تسليما كثيرا.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[الحديد: 28].
عباد الرحمن: الحديث عن الله -سبحانه- يرقق قلوبنا، ويزيد إيماننا؛ وإذا قوي الإيمان زاد إقبال المؤمن على الطاعة، ونفر من المعصية، وقد صح في فضائل مجالس الذكر أنها: تحفها الملائكة، وتغشاها الرحمة، وتتنزل عليها السكينة، ويذكرهم الله فيمن عنده، ويغفر لهم، فنسأل الله الكريم من فضله، وحديثنا اليوم عن اسم الله الغفور.
إخوة الإيمان: مغفرة الله -سبحانه- تتضمن محو السيئة، وتتضمن السَتْر على العبد، ومن مرادفات اسم الغفور: "غافر الذنب"، وقد جاء في موضع واحد في قوله سبحانه: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[غافر: 3].
ومن مرادفات الغفور: اسم "الغفّار"، وقد جاء في خمسة مواضع في القرآن منها قوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى)[طه: 82]، قال السعدي في قوله: (لَغَفَّارٌ) "أي: كثير المغفرة والرحمة".
أما اسم "الغفور" فقد ورد كثيرا في القرآن؛ فقد جاء في واحدٍ وتسعين موضعاً اقترن في اثنين وسبعين منها باسم "الرحيم"، وكأنه من باب اقتران النتيجة بالسبب؛ فمغفرته سبحانه لعباده بسبب رحمته جل وعز.
كما جاء الغفور مقترنا بـ "العزيز": (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ)[الزمر: 5]؛ لأن مغفرته عن عزة وقدرة لا عن ضعف وعجز، ولذا فالناس تجّل وتُكْبِرُ من عفا عن مقدرة.
كما جاء اسم الغفور مقترنا بـ "الودود"، قال سبحانه: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ)[البروج: 14].
وفيها بشارة للعبد فالله يغفر لعبده ويحبه، كما أخبر عن نفسه سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[البقرة: 222].
أما الإنسان فقد يعفو مع كونه لا يحبه، وقد يغفر وتبقى وحشة وجفوة، أما الغفور الكريم فلا.
وجاء الغفور مقترنا بـ "العفو": (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً)[النساء: 43]، وهما مترادفان يتضمنان: عدم المؤاخذة، ويزيد الغفور معنى: السَتْر، ومنه سُمّي: المِغْفَر الذي يلبسه المقاتل في السابق ليحميه وهو في نفس الوقت يغطيه.
عباد الرحمن: سمّى الله نفسه غفورا؛ لأنه خلق عبادا علم أن من شأنهم أن يذنبوا ويستغفروا؛ وقد جاء في الحديث الصحيح: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لهمْ"(رواه مسلم).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- يقول: "إنَّ عَبْدًا أصابَ ذَنْبًا -ورُبَّما قالَ أذْنَبَ ذَنْبًا- فقالَ: رَبِّ أذْنَبْتُ -ورُبَّما قالَ: أصَبْتُ- فاغْفِرْ لِي، فقالَ رَبُّهُ: أعَلِمَ عَبْدِي أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ويَأْخُذُ بهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ ما شاءَ اللَّهُ ثُمَّ أصابَ ذَنْبًا، أوْ أذْنَبَ ذَنْبًا، فقالَ: رَبِّ أذْنَبْتُ -أوْ أصَبْتُ- آخَرَ، فاغْفِرْهُ؟ فقالَ: أعَلِمَ عَبْدِي أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ويَأْخُذُ بهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ ما شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أذْنَبَ ذَنْبًا، ورُبَّما قالَ: أصابَ ذَنْبًا، قالَ: قالَ: رَبِّ أصَبْتُ -أو قالَ أذْنَبْتُ- آخَرَ، فاغْفِرْهُ لِي، فقالَ: أعَلِمَ عَبْدِي أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ويَأْخُذُ بهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلاثًا، فَلْيَعْمَلْ ما شاءَ"(أخرجه الشيخان)
وإن جاءك الشيطان يهون عليك الذنوب فقل: يا خبيث: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)[التوبة: 7]، وقل له: يا مدحور: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[الملك: 12]، وإن زللت وأذنبت فاستغفر، كما جاء في الأحاديث ولا تيأس ولا تقنط.
معشر الأحبة: إن الله -سبحانه- لما ذكر قول النصارى: (إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ)[المائدة: 73]، قال عقبها: (أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[المائدة: 74].
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخّرنا وما أسررنا، وما أعلنّا وما أسرفنا، وما أنت أعلم به منّا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
(رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)[المؤمنون: 118].
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ)[الحجر: 49، 50]، وصلى الله وسلم على نبيه المخبر عن ربه أنه ينادى كل ليلة في الثلث الأخير: "هل من مستغفرٍ فأغفر له؟"، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن الغفور من رحمته جعل لنا في أعمالٍ كثيرة مغفرة للذنوب؛ فجعلها في التوحيد، والصلوات الخمس، والمشي إليها، والجلوس في المصلى بعدها، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وجعلها في الجمعة وصوم رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر، وفي الصدقة والحج، وجملةٍ من الأذكار والأعمال الصالحة، وقد يغفر للعبد بعمل لم يحسب له حسابا.
عباد الرحمن: للإيمان باسم الله الغفور آثار على العبد؛ فمنها: محبة الله وشكره على رحمته لعباده وغفرانه لذنوبهم.
ومنها: فتح باب الرجاء للشاردين عن الله؛ فقد قال الغفور الرحيم: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].
ومن الآثار: الإكثار من الأعمال الصالحة؛ كما قال سبحانه: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ)[هود: 114]، وفي الحديث: "غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ، مَرَّتْ بكَلْبٍ علَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ، كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا، فأوْثَقَتْهُ بخِمَارِهَا، فَنَزَعَتْ له مِنَ المَاءِ، فَغُفِرَ لَهَا بذلكَ"(أخرجه الشيخان).
ومن آثار الإيمان باسم الله الغفور: كثرة سؤال العبد ربه المغفرة لنفسه ولوالديه ولإخوانه المسلمين، واللهج بالاستغفار؛ فالاستغفار دواء للقلب، وسبب لمحو الذنب، والدعاء بالمغفرة يستفيد منه حتى من غفرت ذنوبه رفعة في درجاته، ففي الحديث: "إنَّ الرَّجلَ لتُرفَعُ درجتُه في الجنةِ، فيقولُ: أنَّى هذا؟ فيقالُ: باستغفارِ ولدِك لكَ"(رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
ومن آثار الإيمان باسم الغفور: حسن الظن بالله ورجاءه والإنابة إليه والحياء منه سبحانه.
ومن الآثار أيضا: مجاهدة النفس على التخلق بخلق الصفح عن الناس، وستر أخطائهم، قال سبحانه عن المتقين: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)[آل عمران134]، وقال: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غفور رَّحِيمٌ)[النور: 22]، وفي الحديث: "كانَ رَجُلٌ يُدايِنُ النَّاسَ، فَكانَ يقولُ لِفَتاهُ: إذا أتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجاوَزْ عنْه، لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجاوَزُ عَنَّا، فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجاوَزَ عنْه"(رواه مسلم).
فما أجمل أن نتسامح فيما بيننا القريب مع قريبه، والزميل مع زميله، والأستاذ مع طالبه، والزوج مع زوجته.
أسـيرُ الخـطايا رهـيـنُ البـلايـا *** كـثـيرُ الشكـايا قـليـلُ الحـيل
يُرَجّيْـك عـفـوًا وأنـتَ الـذي *** تجـودُ علـى من عصـى أو غفـل
إلـهـي أثِـبْنـي إلهــي أجبني *** ووفِّـقْ إلـهـي لـخيـرِ العـمـل
ثم صلوا وسلموا...
التعليقات