عناصر الخطبة
1/ الله أكبر وأجلّ وأحبّ من كل شيء 2/بعض مظاهر إجلال الله وتعظيمه في قلوب المؤمنين 3/بشائر انتصار المؤمنين 4/واجبنا نحو المستضعفين.اقتباس
وهم مع محبتهم لربهم هم من خشيته مشفقون، تقشعر جلودهم إذا تليت عليهم آياته، وتضطرب قلوبهم إذا سمعوا وعيده ووصف عذابه، يخافون يوماً عبوساً قمطريراً، يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، يوماً تذهل فيه المرضعة عن رضيعها، وتضع الحامل حملها، يوماً من هوله يشيب الولدان...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فالله حقيق أن يُتّقى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يعبد وحده فلا يشرك، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
الله أكبر وأجلّ وأحبّ في قلوب عباده المؤمنين من كلّ شيء، فمحبة الله -تعالى- ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- في قلوبهم أعظم من محبتهم لأنفسهم وأموالهم وأهليهم، (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ)[البقرة:165]، وهم مع محبتهم لربهم هم من خشيته مشفقون، تقشعر جلودهم إذا تليت عليهم آياته، وتضطرب قلوبهم إذا سمعوا وعيده ووصف عذابه، يخافون يوماً عبوساً قمطريراً، يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، يوماً تذهل فيه المرضعة عن رضيعها، وتضع الحامل حملها، يوماً من هوله يشيب الولدان، يوماً يفر المرء فيه من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وأخته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، يوماً يُرى الناس فيه كأنهم سكارى وما هم بسكارى، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)[الحج:1].
الله أكبر وأجلّ وأحبّ في قلوب عباده المؤمنين من كل شيء، وهم يخافونه أكثر من أي شيء، وهم مع خوفهم من ربهم يرجون رحمته وعفوه، وفضله وإحسانه، فرحمته سبقت غضبه، فهو الربُّ الرحمن الرحيم، التواب الغفور، الذي يغفر الذنوب جميعاً، ويستر العيوب كلها، ويجازي بالحسنة عشر أمثالها، ويزيد ما يشاء إلى سبعمائة ضعف، ويبدل سيئات الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلى حسنات.
إنهم يحبونه حبّاً شديداً، ويخافونه خوفاً أكيداً، ويرجونه رجاءً بعيداً، حبّ وخوفٌ ورجاءٌ، يقودهم لتعظيمه وطاعته، وتأليهه وعبادته، وامتثال أمره واجتناب نهيه، فما قضاه الله ورسوله يأتونه بلا أدنى تردد، وليس لهم أن يختاروا مع اختيار الله شيء، وإذا دعوا إلى الله ورسوله قالوا: سمعنا وأطعنا، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)[الأحزاب:36].
وهم على صلاتهم يحافظون، وهم فيها خاشعون، وهم عن اللغو والكذب والنميمة والغيبة معرضون، وهم للزكاة والصدقة والإحسان يبذلون ويتسابقون، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم، وللفقير والمسكين، والأرملة واليتيم، وهم لفروجهم حافظون، فلا يبتغون إلا أزواجهم وما أحل الله لهم، يغضون أبصارهم، ولا يقربون الزنا ودواعيه، لعلمهم أنه ساء سبيلا، وهم يصبرون عن كل شهوة حرام، ابتغاء الفوز برضوان الله، وما أعده لهم من النعيم المقيم.
الله أكبر وأجلّ وأحبّ في قلوب عباده المؤمنين المجاهدين، الله أكبر عندهم من أنفسهم وأولادهم، وإذا قال لهم الشيطان والإعلام: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، زادهم هذا التخويف عزيمةً وإيماناً ومضاءً، وبذلاً وتضحيةً وعطاءً، فالله في قلوبهم هو الرقيب الحسيب، والله في قلوبهم على شيء وكيل، آمنوا أنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم، فما وهنوا ولا ضعفوا، وما استكانوا ولا تراجعوا؛ لأنهم على يقين من إحدى الحسنيين، إمّا نصرٌ من الله، أو شهادة في سبيل الله، قد باعوا أنفسهم من الله، باعوها راضين، فرحين مستبشرين، وقد اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فما أربح تجارتهم!، وما أعظم فوزهم!؛ غُفرت ذنوبهم، وتَبَوَّؤُوا القصور العالية والمساكن الطيبة في جنات عدن، ذلك وربي هو الفوز العظيم.
الله أكبر وأجلّ وأحبّ في قلوب عباده المؤمنين، الله أكبر عندهم من الأموال والثروات، فلا يأكلون الربا ولا يُؤكلونه، ولا يغشون في البيع والشراء، ولا يرشون ولا يرتشون، ولا يسرقون ولا يخونون، كسبهم طيب، ونفقتهم في ما أحل الله، قِوامٌ معتدلين، لا مُقتِّرين ولا مُسرفين.
الله أكبر وأجلّ وأحبّ في قلوب عباده المؤمنين، الله أكبر عندهم من الدنيا وزينتها، الله أكبر من شهواتها وزخرفها، وما ذاك إلا لأنهم عرفوا حقيقة الدنيا وقيمتها، وحقيقة الآخرة ومقدارها، فأعطوا كلا منهما حقه، عملوا للدنيا بقدر بقائهم فيها، وعملوا للآخرة بقدر بقائهم، وقدموا ما يبقي على ما يفنى، والآخرة خير وأبقى، يَرضَون بقضاء الله، ويتقبلون ما اختاره الله لهم بنفوس مطمئنة وقلوب صابرة محتسبة.
الله أكبر وأجل وأحب في قلوب المؤمنين من كل كبير، فلا يمدحون من يستحق الذم، ولا يجاملون على حساب دينهم، ولا يوالون أعداء الله، ولا يُرضون من أسخط الله.
الله أكبر وأجلّ وأحبّ في قلوب عباده المؤمنين من المناصب والرئاسات، ومن الشهرة والوجاهات، فهم لا يطمحون لها ولا يطلبونها، وإن ابتلوا بها تحملوها بحق، وقاموا بها بصدق، لعلمهم أنها في الدنيا أمانة، وهي يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أدى حقها بالتمام.
الله أكبر وأجلّ وأحبّ في قلوب المؤمنين من الثناء والمدح، والتبجيل والتصدير، فلا رياء ولا نفاق، بل صدق وإخلاص، العمل كله لله -تعالى-، صلاتهم لله، وزكاتهم وصدقاتهم لله، جهادهم لله، تعلُّمهم وتعليمهم لله، لا ليراهم فلان، ولا ليمدحهم علان، نعم يستبشرون بالثناء الصادق، لكنهم لا يسعون له، فثناء المسلمين عاجل البشرى لهم من الله، ولأنهم في أعمالهم لله مخلصين، فهم عليها محافظون مواظبون، لا ينتظرون من أحدٍ شكرًا ليحسنوا إليه، ولا يتطلعون من مسئول أو مديراً ثناءً ليتقنوا ما يعملوه، ولا يسألون من قريب أجراً ليصلوه ويبروه، ولأن عملهم لله ولا يرجون إلا ما عند الله، فلا شيء يثبطهم عن الإحسان والصالحات، يحرصون على أن لا يفوتهم نصيبهم منها.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى.
أما بعد: فالمنهج الرشيد السديد أن يجمع المؤمن بين حسن الظن بالله وبين العمل بما أمر الله، حسب القدرة والطاقة، مع اصطحاب العقل والحكمة، وتقديم ما حقه التقديم، وتأخير ما يلزم التأخير.
وإذا اشتد الظلم واحلولك الظلام فليس للمؤمن إلا القيام بما أمر الله من الأسباب الممكنة والطاعات المقربة، مترقباً موعود الله، متسلحاً بحسن الظن الله وجميل العاقبة، وفي كتاب الله وأحاديث رسول الله من البشائر، ما يطيّب النفوس المؤمنة، ويثبت القلوب الواجفة.
وأول تلك البشائر الرائعة ما يُشعر المؤمن أنه على الطريق الصحيح، وأن الفرج قريب، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)[البقرة:214].
وتأملوا يا عباد الله قول الله: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[يوسف:110]. فنصر المؤمنين وإنزال البأس الشديد بالمجرمين إنما يأتي عندما يتسرب اليأس إلى نفوس أفضل المؤمنين يقينا وهم الرسل عليهم السلام.
والبشارة الثانية: في قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)[الأنفال:36]، تأمل (فسينفقونها) تحقيقاً، وقد حدث، وبقي الوعد الذي لا يتخلف (ثم يُغلبون)، وأكَّد -سبحانه- هذا الوعد في موضع آخر فقال: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)[آل عمران:12].
والبشارة الثالثة: الوعد المؤكد للمؤمنين بالنصر والغلبة، قال -تعالى-: (فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[الروم:47]. وقال -تعالى-: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[المجادلة:21].
والبشارة الرابعة: أن طغيان الظالمين وكثرة فسادهم علامةٌ على قرب هلاكهم، قال -تعالى-: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)[الفجر:11-14].
البشارة الخامسة: تأملوا يا عباد الله قول الله: (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)[فاطر:43]. قال محمد بن كعب: "ثلاث من كنَّ فيه كنَّ عليه، البغي والمكر والنُكث، وتصديقها في كتاب الله -تعالى-: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ)، (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ)، (فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ)". وترون كيف اجتمع في هؤلاء الطغاة من المكر أسوأه، ومن النُكث أغدره، ومن البغي أبشعه.
البشارة السادسة: أن الله لم يجعل النصر بيد أحدٍ غيره، فليس لقوة غير قوة الله أن تدَّعي ذلك بالغة ما بلغت، قال الله -تعالى-: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال:10]. ويقول -جل وعلا-: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران:160].
وانظروا يا عباد الله كيف يصحح الله نظرة المنبهرين بقوة غير الله؛ يقول الله -جل وعلا-: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)[الملك:20]. فالمغرور حقاً هو من يثق بأن النصر يأتي من قوى دولية أو تحالفات شرقية أو غربية، أكثر من ثقته بقوله -تعالى-، (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)[آل عمران:126].
البشارة السابعة: عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب المقدس وما حوله ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة"، وجاء في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عز وجل- قد تكفل لي بالشام وأهله".
هذه بعض بشائر النصر ذكرتها على عجالة، ومن المهم أن نذكّرَ أيضاً بواجبنا الشرعي المتحتم علينا في قوله -تعالى-: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ)[الأنفال:72]. فانصروا إخوانكم بما تستطيعون، انصروهم بالمال والدعاء، فبذل المال جهاد، والدعاء سلاح المؤمن.
وصلوا يا عباد الله وسلموا...
التعليقات