عناصر الخطبة
1/كثرة انتشار اللغو في زماننا 2/البعد عن اللغو 3/الأعراض عن الجاهلين 4/ضوابط تتبع الجهلاء والرد عليهم.اقتباس
في كل يوم؛ بل في كل لحظة تأتيك الأقوالُ الجاهلة، واللَّغْوُ الساقِطُ، دون أن تَبْحَثَ عنها، فلستَ مَن يَمُرُّ عليها، بل هي مِمَّا يَمُرُّ عليك، فنحتاج إلى رَفْعِ راية هذا الأصل، وهو البُعْدُ عنِ اللَّغْو، والإعراضُ عن الجاهلين، والاشتغالُ بعبادة رب العالمين...
الخُطْبة الأُولَى:
إنَّ الحمدَ لله؛ نَحْمَدُه ونستعينه ونستغفره، ونَعُوذ بالله مِن شُرُور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِهِ الله فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صَلَّى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنْ سَارَ على نَهْجِه واقْتَفَى أَثَرَه إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ -أيُّها المسلمون- حَقَّ تُقَاتِه، ولا تموتُنَّ إلَّا وأنتم مسلمون.
مَعْشَرَ المُصَلِّين: من خلال وسائل الإعلام المتنوعة، ووسائل التواصل الاجتماعي أَصْبَحَ يَصِلُك كلُّ شيء، ويُقال كلُّ شيء، وتَرَى كلَّ شيء، لم يَعُدْ هناك ما لا يُمْكِن أن تسمعه أو تراه، وأصبح أهْلُ الضلال يكتبون ما لا يُرْضَى من القول، بل تكاد السمواتُ أن تَنْفَطِرَ وتَنْشَق الأرضُ مِن فُحْشِ القَوْل الذي نقرأه أو نسمعه كل يوم، فيُسْتَنْفَر كثيرٌ من الأخيار، وبقصد الخير يبدؤون بنشر الضلال والجَهْل على العامَّة والناس جميعًا دون أن يشعروا، فيخالفون المنهج الشرعي.
ولذا كان لِزامًا أن نتذَكَّر أصلاً شرعيًّا، هو علاج ناجِع وبَلْسَم شافٍ لهذه الجهالات، إنه قول الله -تعالى-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان:63]، هذا وَصْفٌ لهم بالوقار والسَّكِينة المُشْعِر بالثقة بالله، وبما يَحْمِله المَرْء من الحق وجَمِيل القِيَم، ثم إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، فمَنْ هم الجاهلون؟ ليسوا المجانين ومَنْ لا يَعْقِل، والعُرْف القرآني للفظ (الجَاهِل) يأتي لِمَن يترُك الحقَّ على بصيرة، ويَسْتَخِفُّ بأوامر الله وشَرْعِه كما قال موسى -عليه السلام-: (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)[البقرة:67]، وكما قال الله لنوح -عليه السلام-: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)[هود:46].
وكما قال الله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)[النساء:17]، فَهُمْ كل مَنْ يقول الجهلَ والفُحْشَ واللَّغْوَ والهَذَر الذي لا طائل تحته، فيقولون لهم أهلُ الإيمان والصلاح سلامًا، أي: خَاطَبُوهم خِطابًا يَسْلَمُون فيه من الإِثْم، ويَسْلَمُون من مقابَلَة الجاهل بجَهْله. وهذا مدح لهم بِرَزَانَةِ العَقْلِ الذي أَوْصَلَهُم إلى هذه الحال، فلو تعامَلْنا مع مَنْ يُخاطِبنا بجَهْل وإسفاف بالإعْرَاض لأُجِرْنا على ذلك ولَحَصَلَ لنا الخيرُ الكثير باتباع الشرع.
قال الطاهر بن عاشور: "لفظ التحية مستعمل في لازمه، وهو المُتَارَكَة؛ لأن أصْلَ اسْتِعْمَال لَفْظ السلام في التَّحِيَّةِ أنَّه يُؤْذِن بالتأمين، أي عَدَمِ الإِهاجَةِ"(التحرير والتنوير 19/69).
وهذه الآية السابقة فيما إذا خاطبك الجاهل، فكيف إذا كان قد مَرَّ وعُرِضَ عليك كما في وسائل الإعلام؟! تأَمَّل قول الله -تعالى-: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)[القصص:55]، وهذا أدب عظيم، فهؤلاء سَمِعُوا اللَّغْوَ والباطلَ، فأول عَمَلٍ عَمِلُوه هو الإعراض، وهذا أَصْل عظيم في الشريعة، الإعراض عن الباطل، وعَدَمُ سماعه؛ لأنه يُؤَثِّر على النَّفْس، وقد يشرب المرءُ حُبَّه.
ثم تَأَمَّلْ هذه الثقة التي تتكرر بالاعتزاز بقِيَمك ودِينِك: (وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)، قال السعدي: "كُلٌّ سَيُجازَى بعَمَلِه الذي عَمِلَه وحْدَه، ليس عليه من وِزْرِ غَيْرِه شيءٌ، ولَزِمَ من ذلك، أنهم يتبرؤون مما عليه الجاهلون، من اللَّغْو والباطل، والكلامِ الذي لا فائدة فيه... ولن تَسْمَعُوا منا إلَّا الخيرَ، ولا نخاطبكم بمُقْتَضَى جَهْلِكم، فإنكم -وإن رَضِيتُم لأنفسكم هذا المَرْتَعَ اللئيمَ- فإننا نُنَزِّه أنفُسَنا عنه، ونَصُونُها عن الخَوْضِ فيه"(تفسير السعدي: ص620).
إن الإعراضَ عنِ اللَّغْوِ وأماكنه، وعَدَم مُجادَلَة الجاهلين أَصْلٌ تَاهَ وضَاعَ في خِضَمِّ المُسَاجَلات والردود في إفْرَاطٍ تَجَاوَزَ حَدَّهُ عند كثير من أهل الخير، ونَسُوا وَصْفَ الله -جَلَّ وعَلَا- لهم بقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)[الفرقان:72]، وكلُّ باطل زُورٌ وزُخْرُفٌ، وأَعْظَمُه الشِّرْك وتَعْظِيمُ الأنْدَادِ، وأعياد المشركين وأَهْل البِدَع. وتَأَمَّلْ وَصْفَ مُرُورِهم بقوله: (كِرَامًا)، أي: مُعْرِضِينَ مُنْكِرِينَ لا يَرْضَوْنَهُ، ولا يُمَالِئُون عليه، ولا يُجَالِسُون أهْلَه.
وانْظُرْ إلى تطبيق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه المؤمنين -فَضْلاً عن المنافقين وأَهْلِ الأهواء- في الحديث الذي رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ"، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "قُومُوا"(أخرجه البخاري: 4432، ومسلم: 1637).
وهذا هو معنى قول الله -تعالى-: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)[المؤمنون:1-3].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْرِ الحَكِيم، أقُولُ ما سَمِعْتُم، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذِنْبٍ وخطيئة، فاسْتَغْفِرُوه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخُطْبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشُّكْر على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله الداعي إلى جنته ورِضوانِه، صَلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه.
أمَّا بَعْدُ: مَعْشَرَ المُصَلِّين: إن زمننا هذا بخاصة يُحَتِّم علينا استشعار هذا الأصل، لا أقول في كل يوم؛ بل في كل لحظة تأتيك الأقوالُ الجاهلة، واللَّغْوُ الساقِطُ، دون أن تَبْحَثَ عنها، فلستَ مَن يَمُرُّ عليها، بل هي مِمَّا يَمُرُّ عليك، فنحتاج إلى رَفْعِ راية هذا الأصل، وهو البُعْدُ عنِ اللَّغْو، والإعراضُ عن الجاهلين، والاشتغالُ بعبادة رب العالمين.
ومِنَ الخَطَأِ تَصُوُّرُ أن تَتَبُّع هذا اللغوِ وهذا الجهلِ من باب الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنكر، فليس كل لَغْوٍ يجب رَدُّه، ولا كل جَهْلٍ هو مُلْتَبِس على الناس، وإنما يحتسب الناس فيما خَفِيَ على الناس ويحتاج إلى بيانه، وكثير من الباطل قَتْلُه وإماتَتُه بتَرْكه، وهذا هو مَعْنَى الإعراضِ عن اللغو، فإن اللَّغْوَ الذي أُمِرْنا بالإعراض عنه هو مِن القول المُحَرَّم، ومع ذلك أُمِرْنا بتَرْكه وهَجْرِه.
قال البيهقي: "باب في الإعراض عن اللغو، قال الله -تعالى-: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)[القصص:55]، واللغو: الباطل الذي لا يَتَّصِل بقَيْدٍ صحيح، ولا يكون لقائله فيه فائدة، وربما يكون وبالاً عليه، ويكون منه الخوض فيما لا يَحِلُّ من ذِكْر الفُجَّار والفجور والملاهي... وكل ما كان لَغْوًا فينبغي ألَّا يُشْتَغَل به، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ"(سنن الترمذي: 2317)" انتهى (شعب الإيمان للبيهقي: 13/267).
نَعَمْ، كُلُّ ما كان لَغْوًا يجب أَلَّا يُشْتَغَلَ به.
كَمْ أَخَذَ مِنَّا متابعةُ الجاهلين من الجُهْد ومِنْ تَرْك ما ينفع دون فائدة! بل أدى ذلك إلى نَشْرِ الشَّرِّ وأَهْله دون أن نشعر، بل لم نَسْلَمْ من غُبار هذا الجهل على قلوبنا.
كثيرًا ما يكون باعِثُ تَرْك الإعراض عن الجاهلين هو الانتصار للنفس، ومحاولة إسقاط الجاهل، وإظهار عيبته، وهذا ليس لصاحبه في الآخرة من خَلَاقٍ، بل الواجب هو الإعراض.
وابن تيمية لما رَدَّ على مَنْ أجازَ بعضَ الشِّرْكِيَّات المُجْمَع عليها قال: "ليس المقصودُ العدوانَ على أحد، ولا بَخْسَ حَقِّه، ولا ذَمَّ شَخْصٍ مُعَيَّن؛ بل المقصودُ الكلامُ بِمُوجَب العِلْم والعدل والدين... ويَحْذَر مِنَ الخطأ والضلال"(الرد على الإخنائي:1/19).
وما يُوجَد في زماننا هذا أكثره من اللغو والزُّور الذي نحتاج فيه إلى أَصْل الإعراض، وأَعْظَم ما يُعْطَى المرءُ -كما قال أنسٌ رضي الله عنه- حِلْمٌ يَرُدُّ به جَهْلَ الجاهل(أخرجه البزار: 6443)، ورُوِيَ مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. فجِهَادُنا مع أنفسنا في الإعراض، وقَوْلِ: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)[القصص:55].
وصلوا وسلموا...
التعليقات