عناصر الخطبة
1/دين المرء ولغته أساسا الانتماء الحقيقي 2/اللغة العربية أفضل اللغات 3/تأثير الثورة التقنية على مكانة اللغة العربية 4/وجوب المحافظة على اللغة العربية مع تعلم غيرهااقتباس
ألا فاعلموا -رعاكم الله- أن المرء مهما قلَّب بصرَه وأرخى سمعَه فلن يجد أعذب من اللغة العربية، ولا أمتنَ منها ولا أعمقَ، ولن تستطيع لغة في الوجود مقاربتَها فضلا عن مجاراتها، بل إن كثيرا من لغات العالم تحوي كلمات ذات أصل عربي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، المبدئ المعيد، الغفور الودود، ذي العرش المجيد، الفعَّال لما يريد، خلق الخلق وقدَّر لهم أقدارا، وجعل لهم آجالا لا يستأخرون عنها ساعة ولا يستقدمون، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، من أوتي جوامع الكلم، وأفصح من نطق بالضاد، الرسول العربي الأمين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بما أوصى الله به الأولين والآخرين؛ ألا فاتقوا الله حق التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النِّسَاءِ: 131].
عباد الله: إن رُقِيَّ المجتمع المسلم العربي وجلاء هويته يكمنان في اعتزازه بدينه، وتمسكه بلغته، فإن دين المرء ولغته هما أُسَّانِ للانتماء الحقيقي وقُطْبَانِ، فالدين قلبه، واللغة لسانه، ولما كان اللسان غشاء القلب وبريده، فإن اللغة فرع عن الدين، المبني على الكتاب العربي المبين، وسُنَّة أفصح مَنْ نطق بالضاد سيد المرسلين -صلوات الله وسلامه عليه-، ومن المقرَّر بداهةً أنه لا توجد أُمَّة دون لغة، ولا لغة دون أمة، وإن شرف اللغة العربية؛ لغة الكتاب العربي المبين بين اللغات كشرف دين الإسلام بين الأديان، وإذا كان نور فؤاد الأمة دينها، فإن نور لسانها لغتها العربية؛ لأن اللغة العربية لغة قرآن وسُنَّة، لغة عبادة وعلم، وفِكْر وأدب وثقافة وحضارة وسياسة، وهي لسان مشترك يجمع أكثر من مليار مسلم ونصف المليار على وجه الأرض، لا يقرأون القرآن إلا بها مهما نطقوا بغيرها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون".
ألا فاعلموا -رعاكم الله- أن المرء مهما قلَّب بصرَه وأرخى سمعه فلن يجد أعذب من اللغة العربية، ولا أمتنَ منها ولا أعمقَ، ولن تستطيع لغة في الوجود مقاربتَها فضلا عن مجاراتها، بل إن كثيرا من لغات العالم تحوي كلمات ذات أصل عربي، كيف لا وقد تميزت بحروف متكاملة مصنَّفة على مخارج نقطها من الحلق إلى الشفتين، يُضاف إلى ذلكم تميُّزُها بسبعة أحرف لا توجد في لغة أخرى غيرها، وهي: الضاد والظاء والعين والغين والحاء والطاء والقاف، ولا غرابة في ذلك؛ فإن اللغة العربية تركة ماضٍ أصيل، وغنى حاضرٍ مشرقٍ، وميراث مستقبل مشرئب.
وهذه الأزمنة الثلاثة ليست إلا أعمار الأمم المُسَطَّرة عبر التاريخ؛ لذلك شرف بها كثيرون ممن ليسوا من أهلها أصلا، ممن كان لهم السبق في بناء صرحها البديع، بعد تأسيس قواعده وصف لَبِناته، فمنهم مَنْ وضع دستورا لها، ومنهم من رَسَمَ نواةً لفقهها، ومنهم مؤسس لبلاغتها، ومنهم راصف لقاموسها المحيط، كل هؤلاء وأمثالهم نالوا شرف النطق بها وهم ليسوا من أهلها؛ لأنها لغة الكِتَاب المبين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وليس أثر اعتياد اللغة الفصحى مقصورا على اللسان، بل يتعمق حتى يؤثر في العقل والخُلُق والدين تأثيرا قويًّا بيِّنًا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتُهم تزيد العقلَ والدينَ والخُلُقَ".
وقد أحسن ابن القيم -رحمه الله- في بيان فضلها حيث قال: "وإنما يَعرف فضلَ القرآن مَنْ عرف كلامَ العرب، فعرف علم اللغة، وعلم العربية، وعلم البيان، ونَظَرَ في أشعار العرب وخُطَبِها ومقاولاتها في مواطن افتخارها ورسائلها".
عباد الله: لقد كان للمشارَكة الحضارية والثورة التقنية دور رئيس في انكماش اللغة العربية وتهميشها حتى تحوَّل مَنْحَاها فانحرفت عن مسارها وسياقها الصحيح، وظهر على إثر ذلك سلبياتٌ في التواصل اللغوي للمجتمع العربي الواحد، والأمة العربية برمتها، مع أن لغتها هي المكوِّن الرئيس في تشكيل هويتها، وإذا ما وقع ذلكم فحدِّثوا حينذاك ولا حرج؛ عن شرخ الهوية وهجين اللغة المفرزين اختلالا ثقافيا وضَعْفا علميا؛ لأن المجتمعات كالوعاء، تصب فيه كل الثقافات غير أن إيجابيات تلك الثقافات وسلبياتها مرهونة بموقع اللغة العربية من ذلك التفاعل صعودا ونزولا؛ لأن اللغة العربية تقوم على ثلاث وظائف في تكوين المجتمع، تتجلى في كونها أداة للتفكير ووسيلة للتفاهم والتواصل الاجتماعي، وعنوانا لهوية الفرد والمجتمع، بيدَ أن غفلة كثير من الناس عن استحضار هذا الأساس بلغت بهم إلى تهميش ظاهر، وتسطيح مُقلِق؛ فأحلوا غيرَها محلَّها في كثير من استعمالاتهم؛ فإن ذا البصيرة يشاهد ويسمع طغيان الحديث بغير العربية بين أهلها أنفسهم؛ يظهر ذلك جليًّا في تسمياتٍ غيرِ عربيةٍ، ومحادَثات بغيرها دون حاجة، في الدُّور والسُّوق وبتسميات لأعلام ومؤسسات ومصطلحات ومَحالِّ تجارةٍ وغير ذلكم، حتى أصيب محبوها بهاجس من الغربة والانكسار أدى ببعض المحافظين منهم عليها إلى أن يلوكوا ألسنتَهم بالعربية على استحياء خشيةَ التعيير أو التندر أو الاستهجان، هذا إن سَلِمُوا من سهام اللمز بهم، والتقليل من شأنهم، ووصفهم بالجامدين الذي لا يُحسنون الرطانةَ الوافدةَ، ولم يتَّشحوا بوشاحها البراق على حد وهمهم.
وإن تعجبوا -عباد الله- فعجب أن كثيرا ممن ينتسبون إلى لغة القرآن لا يقدرون ما حباهم الله به من لسان بديع، ونُطق فصيح حقَّ قَدْره، فقللوا من شأنها وزهدوا فيها، ولو نظروا ببصيرة الرامق إلى إكرام بقية الأمم للغاتهم وحمياتهم لها عمَّا يخالطها فضلا عما يُزَاحِمُها لَأدركوا أنهم يعدون غزو لغتهم بلغة أجنبية عنهم أشدَّ خطرًا على انتمائهم من الجيوش المجيَّشَة؛ فإن غزو اللغة يغير في عام ما لا تغيره الجيوش في عقود.
إنه ينبغي للناس أن يوطئوا أنفسهم على حُبِّ اللغة العربية حتى يروا فيها عزتهم بعزتها من لغة كتاب ربهم وسُنَّة رسولهم -صلى الله عليه وسلم-، إن هم فعلوا ذلك فسيرون فيها مسكنهم وموطنهم ومستقرَّهم، يرونها حدود عالمهم الرحب الواسع، وإن خذلها أهلوها، يشرفون بالانتماء إليها ويفخرون بالنطق بها ويأنسون لسماعها، ويأسون لجعلها لغة راكدة أمام سيلان اللغات الوافدة، فلا جرم -عباد الله- أن الأمة إذا أضاعت لغتها أو غفلت عنها فبأي لسان ستشرف به، وتفخر على كل لسان سواها؟
إنه لَيُخشى على لسان كثير من أهل الأمة العربية من العُجْمة، وإن الأمة إن لم تعطِ لغتَها أولويةً ظاهرةً لتعيدها إلى كونها لغة سائدة فإنها عرضة -دون ريب- لأن تكون لغة متوارية، أو شبه متوارية، وإن لم يفلح الناطقون بها ومعلموها في إحسان عرضها وبيان أثرها وقدرتها على المواكبة والاستيعاب وتجديد وسائل الترغيب إليها ورفع ما نالها من التشويه بأنها لغة التقعر والتكلف والتمطيط وهي بريئة من ذلكم كله، بل هي لغة الدرج، والاجتياز السهل، كما قال الإمام أبو عمرو بن العلاء إمام القراء النحوي المشهور.
إن أهل العربية إن لم يقوموا بذلك كله فإنها ستتحول من لغة جاذبة إلى لغة طاردة، وإذا كان ضياع اللغة العربية في الأمة يرجع إلى سببين اثنين؛ داخليّ وخارجيّ فإن علاج السبب الداخلي المتمثِّل في أهلها وذويها كفيل -بإذن الله- في قطع مسافات علاج السبب الخارجي؛ فإن مَنْ قَدَرَ على إصلاح ما بداخله استطاع دفع ما يحل به من خارجه.
والله الموفِّق وهو الهادي إلى سواء السبيل، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفورا رحيما.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، ثم اعلموا -يا رعاكم الله- أن الذين يستبدلون العجمة بالعربية ظنًّا منهم أنها علامة الرقي ومكمن الافتخار، فظنُّهم -لَعَمْرِ اللهِ ظن مقلوب، واستسمان لذي ورم، نعم قد يبلغ التعامل بغير العربية مبلغ الضرورة أو الحاجة أو التحسين، ولا حرج في ذلكم؛ كما فعل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا احتاج إلى مثل هذا؛ حيث أمر زيد بن ثابت -رضي الله تعالى عنه- أن يتعلم اللغة السريانية. (رواه أحمد).
لكن الحرج كل الحرج في أن تحل تلك اللغات محل اللغة العربية، أو تتقدم عليها أو تساويها، كما أنه ليس من الفهم السليم التشددُ في منع تعلُّم غير العربية، والأمة بحاجة ماسَّة إلى أن تكون في الصفوف الأولى دينيًّا وعلميًّا وحضاريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا؛ فإنه لا يمكن أن يتحقق ذلك دون تعلُّم غير العربية، ولا يقف ضد ذلك مَنْ أَدْرَكَ الضرورةَ إليه والحاجةَ، وفي المقولة المشهورة: "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم".
والواقع -عباد الله- أن التعلم لا يقف على علة أمن المكر فحسب، بل إنه يتجاوزها إلى ما هو أبعد من أمن المكر بمراحل، وإنما الحاصل وجماع الأمر في ذلكم كله: ألا يزاحم اللغة الأمّ، لغة القرآن والسنة، لغة الأمة التي جعلها الله وسطا ليكون ذووها شهداء على الناس، وإنه لمما يُحمد في هذه اللغة أنها قديمة حاضرة متجددة، لم يخل عصرٌ ولا مِصْرٌ إلا ويجد أهلُه فيها ما يواكب به حاجاتهم ومستجداتهم؛ مِنْ وضع أسماء وبدائل للمسميات الحديثة التي لم تكن لها أسماء في سابق العهد؛ وذلك بما يُعرف في اللغة بالاشتقاق والنحت والتعريب تارةً والارتجال والقلب والإبدال تارة أخرى، ونحو ذلكم من خصائصها التي جعلت اللغات الأخرى عالة عليها مقتَبِسة منها.
ولغة القرآن تعلو ولا يعلى عليها، (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[الزُّمَرِ: 28].
هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيَّه بكم -أيها المؤمنون- فقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفِّسْ كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْنَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانتَه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنتَ وليها ومولاها.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التعليقات