محمد شلبي محمد
لسْنَا في حاجةٍ لأنْ ندافع عن رُموزنا، ومقدَّساتنا، ولا أَكتُب هذا المقال أدفع به البهتانَ عن عائشة - رضي الله عنها - فقد تولَّى اللهُ ذلك في سورة النور منذُ ألف وأربعمائة عام.
وإنَّما أكتب هذا المقال احترامًا لمَنْ يجبُ علينا احترامهم، ومَن حبُّهم إيمان، وكُرهُهم نِفاق.
فلقدْ هيَّج عليَّ لؤمُ اللئيم ذِكرى القرْن الأول، خيْر القرون إلى أن تقومَ الساعة.
تذكرتُ آثارَ رحمة الله وهي تنسكب على أهلِ الأرْض في هذا الزمان هُدًى وسكينة.
تذكرتُ النور الذي فاض مِن غار حراء على أرجاءِ مكَّة.
تذكرتُ اصطفاءَ الله أنقى قلوب الزمان، وأطهر رُوح حلَّتْ في أطهر جسد، محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
تذكرتُ أقدار الله تعالى، كيف كاد لدِينِه وأوليائه، ونصَرَهم على أعدائهم نَصرًا مُؤزَّرًا.
وظلَّتِ الكلابُ تنبح والقافلة تسير.
فلقدْ مات الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتَرَك مِن خَلْفه قادةَ الدنيا، ومصابيحَ الزمان.
لقدْ ورَّث ميراثًا عمَّتْ بركته أرجاءَ الأرض، وملأتْ نفوسَ العالمين، حتَّى بلغت دولة الإسلام مِن الصين شرقًا إلى الأندلس غربًا، ومِن فارس شمالاً إلى إفريقيَّة جنوبًا.
إنَّها قارَّة الإسلام!
ثم عُدتُ مِن ذِكرياتي تلك شديدَ العَجَب، لَكَمْ أضلَّ الشيطان جِبِلاًّ كثيرًا، أفلم يكونوا يعقلون؟!
كيف يَصْطفي الله تعالى نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم لا يصطفي له؟!
كيف لا يَصْطفي له أزواجَه اللاتي ينقلُنْ للأمم مِن بَعْدُ فِقهًا يعِزُّ نقلُه على كبار الصحابة، فمَن مِن الصحابة يبيتُ معه ويصبح، ويَرَى سِرَّه الذي لا يَراه غيرُهنَّ؟!
كيف لا يصطفي له أصحابَه الذين يحملون دِينَه؟! أيموت والصحابة آلافٌ وآلاف ثُمَّ لا يكون منهم مؤمن إلاَّ أفرادًا أربعة؟!
أكان الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبيًّا مخدوعًا في أتباعه وأهله؟!
أم لم يُميِّزِ الطيِّبَ من الخبيث، فوضَع الثِّقة في غير أهلها؟!
أمْ خَدَعه الله - وحاشَا لله - فجعَل أهلَه أعداءَه؟!
إنَّ هذا لا يفعله أبٌ بابنه العاق، فكيْف بالله مع رُسْله وأوليائه؟! تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
إنَّ ذلك علينا واجبٌ، أنْ نذكر أحبَّاءَ الله، وكلَّما صرَخ شيطانٌ بضلالِه، وجَب علينا أن نصدحَ بحقِّنا، ليس دفاعًا عنه، وإنَّما ليَزيد أهل الباطِل حسرةً على حسرتهم، كما يَحْثُو الشيطان على رأسه الترابَ إذا سجَد ابنُ آدم مخبِتًا لله ربِّ العالمين.
تقدير الله تعالى لعائشة - رضي الله عنها -:
كانتْ عائشةُ - رضي الله عنها - مُقدَّرةً ومُقدَّرًا لها، فكان أوَّل ذلك النَّسَب؛ فأبوها أبو بكر الصِّدِّيق يلتقي بالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جَدِّه مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر، وأمُّها أم رومان يَنتهي نسبها إلى كِنانة.
فهي تمتُّ للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بصِلة قرابة مِن الأب والأم.
وثاني ذلك أنَّ الله تعالى قدَّرها زوجًا للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تقديرًا؛ روى الطبرانيُّ في "المعجَم الكبير" عن ابن عبَّاس يفسِّر قوله - تعالى -: ﴿ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِين ﴾ [النور: 26]، أنَّ الله تعالى "يُريد بالطيباتِ عائشة؛ طيَّبها اللهُ لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أتاه بها جبريلُ - عليه السلام - في سَرَقةِ حرير قبل أن تُصوَّر في رَحِم أمِّها، فقال له: هذه عائشةُ بنت أبي بكر زَوجُك في الدنيا، وزوجُك في الآخرة..." الحديث.
فعائشةُ - رضي الله عنها - زوْج خيرِ الناس، محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وابنةُ خير الناس مِن بعده، أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان زواجُها بُشرى، نزَل بها إلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - جبريلُ - عليه السلام - الذي نزَل عليه بالقرآن.
وكان مِن تقديرِ الله لها أنْ كانت في جِيلها سريعةَ النمو، فارعة البنيان، وكان ذلك مِن إعداد الله تعالى لها؛ وهي تَحكي: "تزوَّجني رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لسِتِّ سِنين، وبني بي وأنا بِنتُ تِسع سنين، قالت: فقَدِمْنا المدينة فوُعكِتُ شهرًا فَوفَى شَعِري جُمَيْمَة،..."؛ الحديث [مسلم: 3544].
والبيئة العربيَّة تُنضِج الأجسادَ بأسرعَ ممَّا تفعله غيرُها من البيئات.
عائشة - رضي الله عنها - زوجةً:
كانتْ عائشة - رضي الله عنها - خيرَ زَوْجة، كان الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَغتسِل معها في إناءٍ واحدٍ، حتى يقول: ((دعي لي)) وتقول: "دَعْ لي"؛ [مسلم: 758]، وكان يُسابِقها وتُسابقه، فسبقتْه صغيرةً، وسبقَها كبيرةً، وقال: ((يا عائشةُ، هذه بتلك))؛ [الصحيحة: 131].
وقد استفاضتِ الأخبار بحُبِّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعائشة، حتى سُئِل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "مَن أحبُّ الناس إليك؟ قال: ((عائشة))، قيل: فمِن الرجال؟ قال: ((أبوها))؛ [صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 3890]، ولم يقل: أبو بكر.
وحتى حين أرْسل أزواجُه فاطمةَ إليه ينشدونه العَدْلَ في عائشة - وما رسولُ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، بعادلٍ عن الحقّ فيها - قال لها: ((أتُحبِّينني؟)) فقالتْ: نعَم، قال: ((فأَحبِّيها))؛ [صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي: 3946]، فلم يُصرِّح بحبِّها فقط، وإنَّما أمَر بأن نحبَّها كذلك.
وذكَر أنَّ فضْلَها على النساء كفضلِ الثَّريد على سائرِ الطعام؛ [البخاري: 3411].
ولذلك كان الناسُ يتَحرَّوْن بهداياهم يومَها؛ طلبًا لرِضا رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
خصائص عائشة - رضي الله عنها -:
أقرأها جبريلُ - عليه السلام - السلامَ؛ [البخاري: 3768]، فعليها السلام.
ولمْ يأته الوحيُ في ثوب امرأةٍ غيرها؛ [البخاري: 2581].
وهي تَحْكي خصائصها في غيْر فخْر، تقول: "خِلالٌ فيَّ سبْع، لم يكن في أحدٍ من النِّساء إلاَّ ما آتى الله مريمَ بنتَ عمران، والله ما أقول هذا فخرًا على أحدٍ مِن صواحبي، فقال لها عبدُالله بن صفوان: وما هُنَّ يا أمَّ المؤمنين؟ قالت : نزَل المَلَكُ بصورتي، وتزوَّجني رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لسبعِ سِنين، وأُهديتُ إليه لتِسع سنين، وتزوَّجَني بِكرًا لم يَشْرَكه فيَّ أحدٌ من الناس، وكان الوحي يأتيه وأنا وهو في لِحافٍ واحد، وكنتُ أَحبَّ الناس إليه، وبنت أحبِّ الناس إليه، وقد نَزَل فيَّ آياتٌ من القرآن، وقد كادتِ الأمَّةُ تَهلِك فيَّ، ورأيتُ جبريل ولم يَرَه أحدٌ مِن نسائه غيري، وقُبِض في بيْتي لم يَلِهِ أحدٌ غيري والمَلَك"؛ [المعجم الكبير: 19031].
عِلم عائشة - رضي الله عنها -:
علمها بالفرائض:
رَوى ابنُ سعْد في طبقاته عن مسروقٍ أنَّه قيل له: هل كانتْ عائشةُ تُحسِن الفرائض، قال: إي والذي نفْسي بيده، لقد رأيتُ مشيخةَ أصحاب رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأكابر يسألونها عنِ الفرائض.
عِلْمها بالسنن:
ورُوي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بسُنن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا أَفْقَه في رأيٍ إنِ احتيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نزَلتْ ولا فريضة مِن عائشة.
وذكَر ابنُ عبدِالبرِّ في "الاستيعاب" عن عطاء بن أبي ربَاح، قال: "كانتْ عائشةُ أفْقهَ الناس، وأعلمَ الناس، وأحسنَ الناس رأيًا في العامَّة".
وقد رَدَّتْ وهمًا فقهيًّا لمائتين مِن الصحابة.
علمها بالشعر:
لَمَّا قيل لعروة: ما أرواكَ يا أبا عبدالله! قال: وما رِوايتي من رواية عائِشة؟! ما كان ينزل بها شيء إلاَّ أنشدتْ فيه شِعرًا.
عبادتها وتقواها - رضي الله عنها -:
عن عُروةَ بن الزبير قال: "كان عبدالله بن الزبير أحب البشر إلى عائشة بعد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – وأبي بكر، وكان أبرَّ الناس بها، وكانتْ لا تُمسِك شيئًا ممَّا جاءَها مِن رزق الله إلاَّ تصدَّقت، فقال ابنُ الزبير: يَنبغي أن يُؤخَذَ على يديها، فقالت: أيُؤخَذ على يدي؟ عليَّ نذر إنْ كلمتُه، فاستشَفَع إليها برِجالٍ من قريش، وبأخوالِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خاصة، فامتنعَتْ، فقال له الزهريُّون - أخوال النبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، منهم عبدالرحمن بن الأسْوَد بن عبدِ يغوث، والمِسْوَر بن مخرَمة -: إذا استأذنَّا فاقْتَحم الحِجاب، ففَعل، فأرسل إليها بعَشْر رِقاب فأعْتَقتهم، ثم لم تزَلْ تُعتقهم حتى بلغَتْ أربعين، فقالتْ: وددتُ أني جعلتُ حين حلفتُ عملاً أعمله فأفرغ منه"؛ [البخاري: 3505].
وحين وافتْها المنيَّة، طلبتْ إلى عبدالله بن الزبير ألاَّ يَدفنَها بالبيت معهم، وإنَّما بالبقيع؛ خوفًا من أن تُزَكَّى؛ [المعجم الكبير: 18565].
والكلام عن حُسْنِها يطول حسنه.
غير أنِّي أريد أن أُنبِّه على أمْرٍ هام:
إنَّ أحدًا يحبُّه الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا الحب، ثم يتعمَّده قومٌ بالذم والسوء، فإنَّ ذلك كافٍ في بيانِ سوء النيَّة، وخُبْث الطوية، والله المستعان على ما يَصفون، وإنَّ غدًا لناظره قريب.
وتظلُّ الكلابُ تنبح، والقافلة تسير.
التعليقات