اقتباس
إنَّ الأمَّة بحاجةٍ إلى المؤمن القويِّ في عقيدته، القويِّ في عبادته، القويِّ في تعلُّمه، القويِّ في دعوته، القويِّ في دفاعه، القويِّ في صَدْعه بالحقِّ ووقوفه أمام سَيْل الشُّبهات والشَّهوات، والفتن والمغريات، إذا تكلَّم كان قويَّاً واثقاً، وإن ناقش كان قويَّاً واضحاً، وإذا...
المتأمل في التاريخ يجدُ أنَّه ما من دينٍ ظهَر وانتشر -سواءً أكان حقَّاً أم باطلاً- إلاَّ كان وراءه فئة تؤمن به، وتعمل له، وتمتثله واقعاً في حياتها؛ ليقوم ذلك الدِّين على أكتافهم، وليكونوا أنموذجاً واضحاً لأتباعه، يسترشدون بهم، ويطمئنُّون من جهة تطبيق ذلك الدِّين وتحقيقه.
ولذلك عندما أنزل الله -عزَّ وجل- دينه في هذه الأرض بشرائعه المختلفة، جعل لكلِّ شريعة من الشرائع رسولاً كريماً يبلِّغ ويكون قدوة، وفئة تؤمن وتعمل وتمتثل؛ لتكون عاملةً على إظهار دينها شيئاً فشيئاً، دالَّةً على صحَّته، وإمكان تطبيقه، وتهيئة فئات تحمل همَّ هذا الدِّين، والعمل له.
ولكن عندما يدبُّ الضَّعف في تلك الفئة المؤمنة العاملة -على اختلاف أزمانها- سواءً من جهة العلم أو العمل؛ فإنَّ ذلك الضَّعف ينعكس تلقائياً على ظهور ذلك الدِّين وأتباعه، حتى يضمر أو يتلاشى.
وكان من حكمة الله -عزَّ وجل-: أنْ جعل في هذه الأمَّة المحمديَّة، والشريعة الخالدة الأبديَّة، فئة تؤمن بدينه، وتعمل له، وتمتثله واقعاً عملياً في حياتها ما دام هذا الدِّين في الأرض، لا يعتريهم الضَّعف، ولا يسيطر عليهم اليأس، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال من أمتي أمةٌ قائمةٌ بأمر الله لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"(1) وقد دلَّ الحديث على أنَّ هذه الطائفة القائمة بأمر الله -عزَّ وجل- قد تمَّ حفظها من ضرَرَيْن:
أولاً: حفظها من ضرر الخذلان.
وثانياً: حفظها من ضرر المخالفة.
والفرق بينهما: أنَّ الخذلان ما كان من داخل الصفِّ! والمخالفة ما كان من خارجه(2)، وهذان هما الخطران المحدقان بكلِّ دين أو مذهب يُراد له الظهور والانتشار.
وما كان لهذه الطائفة المؤمنة أن تبقى قائمةً بأمر الله -عزَّ وجل-، صامدةً في وجه طوفان المخاطر الداخليَّة والخارجيَّة سوى أنها كانت قويَّةً في دين الله -عزَّ وجل- أخذاً وعطاءً، تلقياً وأداءً، علماً وعملاً، شريعة ونَهْجاً.
هذا هو الأمر الذي حفظها من حَنَق المخالفين، وخَوَر المخذِّلين المرجفين.
ولولا تلك القوَّة الدينيَّة وما تُمْليه من وضوحٍ في التصوُّر والاعتقاد، وحزمٍ في التمسُّك والامتثال، وجديَّةٍ في السلوك والعمل، لانحلَّت تلك الطائفة عند أدنى مؤامرة أو اعتداء، ولكانت تعيش تشتُّتاً في الأمر، وهواناً في العزم، ولما بقيت تقوم لله -عزَّ وجل- بحجَّة.
ولذا لما كان مدار الصُّمود والبقاء على القوَّة في الدِّين، أَمَر الله -عزَّ وجل- بها أنبياءه وأقوامهم، فقال تعالى لموسى -عليه السلام-: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) [الأعراف: 145]، وقال لبني إسرائيل: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [الأعراف: 171]، وَوصَف الله -عزَّ وجل- بها نبيَّه داود -عليه السلام- فقال: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص: 17]؛ أي: ذا القوة في الدِّين، بل خاطب الله بها يحيى -عليه السلام- منذ أن كان في المهد صبياً: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم: 12]؛ لينشأ ذلك الصبي وهو ابن ثلاث سنين كما في قول ابن عباس -رضي الله عنه-(3) على معاني القوَّة والجدِّ والعزم في أخذ الدِّين والتمسُّك به.
إن الأمَّة اليوم بحاجةٍ شديدةٍ إلى استجماع معاني القوَّة في أفرادها؛ ليسعدوا بدينهم، ويُؤدوا حقَّ الله -عزَّ وجل- فيهم.
والناظر في كلام ربِّه -سبحانه وتعالى- لا تكاد تخطئُ عينه صورتان اثنتان من صور القوَّة في الدِّين لا تتحقق القوَّة إلا بهما:
الأولى: القوَّة في الأخذ والتمسُّك والعمل: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [الأعراف: 171] .
والثانية: القوَّة في الإعداد والمواجهة والمدافعة: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال: 60].
إنَّ الأمَّة بحاجةٍ إلى المؤمن القويِّ في عقيدته، القويِّ في عبادته، القويِّ في تعلُّمه، القويِّ في دعوته، القويِّ في دفاعه، القويِّ في صَدْعه بالحقِّ ووقوفه أمام سَيْل الشُّبهات والشَّهوات، والفتن والمغريات، إذا تكلَّم كان قويَّاً واثقاً، وإن ناقش كان قويَّاً واضحاً، وإذا عَمِل كان قويَّاً ثابتاً، يأخذ تعاليم دينه بقوَّة، وينقلها إلى غيره بقوَّة، ويتحرَّك ويدعو في مجتمعه بقوَّة، لا وَهَن ولا تميُّع، ولا ضعْف ولا تصنُّع، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن القويُّ خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز"(4).
ولكي تتحصَّل هاتان القوَّتان بكل صُوَرها وأشكالها، وتُصْبح واقعاً عملياً نعيشه في حياتنا، لابدَّ من استجماع عدِّة أمور هي بمثابة الأُسُس التي يقوم عليها هذا المبدأ الشرعيِّ، (والمقام مقام إشارةٍ لا استفاضة، وهي محاولة استقرائية للآيات الواردة في القوَّة، وحال المأمورين والموصوفين بها):
الأساس الأول: قوَّة الصِّلة بالله -تعالى-:
إنَّ من أهمِّ أُسُس القوَّة في دين الله -عزَّ وجل- أن يكون المؤمن قويَّ الصلة بالله -عزَّ وجل-، كثير العبادة له سبحانه، لما ذَكَر الله -عزَّ وجل- نبيَّه داود -عليه السلام- وَصَفه بالقوَّة في الدِّين، وعلَّل ذلك بأنه أوَّاب كثير الرجوع إلى ربِّه -عزَّ وجل- فقال تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص: 17]، وكان عليه السلام حَسَن التعبُّد لربِّه -عزَّ وجل-، ففي الحديث: "إن أحبَّ الصيام إلى الله صيام داود، وأحبَّ الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام"(5). ولما أمر نبيُّ الله هود -عليه السلام- قومه بالاستغفار والرجوع إليه سبحانه بيَّن لهم أنَّ هذه الصلة الحسنة بالله -تعالى- تزيدهم قوَّة في أمر دينهم ودنياهم: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) [هود: 52].
الأساس الثاني: الاستجابة الكاملة لله -تعالى-:
ففي قوله تعالى لبني إسرائيل: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) [البقرة: 93] أَتْبعَ الله -عزَّ وجل- أمْرَه بأخذ ما آتاهم بقوَّة بأمرٍ آخر وهو السماع المطلق والاستجابة الكاملة له سبحانه، ليدُلَّنا ذلك بطريق الإشارة على أن ممِّا تتحقق به القوَّة في الدِّين سماع أمر الله -عزَّ وجل-، والإنصات له، والعمل بموجبه، ليتمَّ تحقيق العبودية الشاملة له بعد ذلك. وإذا أعرض الإنسان عن سماع أمر ربِّه -تعالى-، أو سمع ولم يجب الاستجابة الكاملة التي تُغيِّر محتواه ظاهراً وباطناً كان عُرضة؛ لأن يقع فيما وقع فيه بنو إسرائيل من الذمِّ وسوء العاقبة: (قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة: 93].
الأساس الثالث: اليقين بنصرة الله عزَّ وجل لدينه:
إن استحضار نصرة الله -عز وجل- لدينه، وامتلاء القلب يقيناً وصِدْقاً بوعد ربِّه -تعالى- لابدَّ أن يكون مصاحباً لكل مريد للقوَّة في الدِّين -لاسيَّما زمن الفتن والمحن-، ولذلك عندما أحسَّ أصحاب موسى -عليه السلام- بخُسران المعركة أمام فرعون وملائه، وظنُّوا انتصار الباطل على الحقِّ؛ أظهر الله -عزَّ وجل- على لسان موسى -عليه السلام- (المأمور بالقوَّة في الدِّين) ما كان يحمل في قلبه من يقينٍ وثقةٍ بنصر الله -تعالى- لدينه وعباده المؤمنين، فقال الله -عزَّ وجل- حاكياً حاله وحالهم: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيم) [الشعراء: 61 - 63].
كما أن على القويِّ في دين الله -عز وجل- ألاَّ يستبطئ وَعْد الله -تعالى- في نُصْرة دينه، وأن يسعى في مؤازرة إخوانه وتذكيرهم بهذا الوعد، اقتداء بفعل موسى -عليه السلام- لما استبطأ قومه النَّصْر واستطالوا عَهْد الله فعبدوا العِجْل: (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) [طه: 86].
الأساس الرابع: الحرص على مذاكرة ما في الكتاب والسنة:
فكيف لمؤمنٍ يريد أن يكون قويَّاً في دين الله -عزَّ وجل-، حاملاً همَّ تبليغه وتبيينه للناس، إذا فتَّشت عن قراءته -فضلاً عن مذاكرته- لكتاب الله -عزَّ وجل- وسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم- وجدتها تبلغ من الضَّعف قدْراً كبيراً، لما أمر الله بني إسرائيل بأخذ ما آتاهم من التوراة بقوَّة أشار سبحانه إلى ما يُعينهم على هذا الأمر، فقال تعالى: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 63] أي خذوا التوراة بقوَّة واتلوها وادرسوها واعملوا بما فيها لتكونوا من أهل التقوى(6)، فكذلك كل من أراد القوَّة في دين الله -عز وجل- عليه أن يكون حريصاً على ذِكْر ما وَرَد في الكتاب والسنة، وعلى العمل بموجبه؛ ليَقْوَى في دينه، وليوصله بعد ذلك بإذن الله إلى العلَّة المذكورة في الآية: (لعلكم تتقون). وعندما وَصَف الله -عزَّ وجل- نبيَّه داود -عليه السلام- بكونه قويَّا في دين الله أخبر سبحانه عن طَرَف من مظاهر هذه القوَّة وأسبابها، فقال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا) [النمل: 15]، وقال: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) [الأنبياء: 79].
الأساس الخامس: عدم الانسياق لرغبات النفس وشهواتها:
إنِّ المؤمن إذا اشتغل قلبه بالدُّنيا، وتعلَّقت نفسه بشهواتها، صَعُب عليه التقوِّي في دين الله -تعالى-، والاجتهاد في طاعته، ولذلك لما وَصَف الله -عزَّ وجل- نبيَّه يحيى -عليه السلام-المأمور بالقوة في الدِّين وَصَفَه مُثنياً عليه بأنه يَحصُر نفسه ويحبسها عن الشهوات والملذَّات المباحة فضلاً عن المحرَّمة، فقال تعالى مخاطباً زكريا -عليه السلام-: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 39](7).
الأساس السادس: الارتباط بالصالحين والتقوِّي بهم:
إنَّ على القويِّ في دين الله -عزَّ وجل- أن يكون على ارتباطٍ وثيقٍ، واتصالٍ متينٍ، بإخوانه الصالحين المصلحين؛ ليشدُّوا من عزمه، وليصدِّقوه في دعوته، وليزداد بهم رسوخاً وثباتاً على أمره، ولذلك سأل موسى -عليه السلام- وهو المأمور بالقوَّة في الدين ربَّه -سبحانه وتعالى- أن يُرسل معه أخاه هارون -عليه السلام- ليزداد به قوَّةً على قوَّته، فقال تعالى على لسان موسى: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) [القصص: 34 - 35].
هذه سته أسس، أَحْسبُ أنها كفيلة بإذن الله -تعالى- في أنْ تُحيي فينا معاني القوَّة في الدِّين أخذاً ومدافعة، وتصنع لنا جيلاً يتربَّى على مثل هذا الأمر، والشواهد على هذه الأسس كثيرة مستفيضة، ولكنِّي رغبت الاقتصار على الاستشهاد بالآيات الواردة في القوَّة والمتعلِّقة بها؛ ليظهر لنا مدى الاتصال بين هذه الأسس وموضوع القوَّة في الدِّين، ولك أن تتأمل معي ما وَرَد في هذه الآية العظيمة وتُقارن بين المأمور به، وشدَّة العقاب المترتِّب على عدم الامتثال، يقول الله -عز وجل- عن بني إسرائيل: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأعراف: 171]، قال قتادة -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "جبل نزعه الله من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم، فقال: لتأخذُنّ أمري، أو لأرمينَّكم به!"، وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "لما نظروا إلى الجبل خرَّ كلُّ رجل ساجدًا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليُمْنَى إلى الجبلِ، فَرَقًا من أن يَسْقُط عليه"(8).
وختاماً: إنَّ على القويِّ في دين الله -عزَّ وجل- أن يتحمَّل كل التَّبِعات التي قد تنشأ من أخذه للدِّين بقوَّة، فمن طبيعة هذا الدِّين أن المستمسك به يلاقي ما لا يلاقيه غيره من الضعفاء المتنازلين، وذلك من حكمة الله -عزَّ وجل-، وهي فتنة يمحِّص الله -عزَّ وجل- بها عباده وأولياءه، والله -تعالى- قادرٌ على نَصْر دينه وإعزاز كلمته دون أدنى جُهْد من البشر، ولكنَّ الأمر وُكِل إليهم للابتلاء والتمحيص، قال الله -تعالى-: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) [محمد: 4].
وعلينا أن نسأل أنفسنا سؤالاً: هل نحن ممن يَصْلح أن يكون من هذه الطائفة القويَّة التي تنصر دينها، وتصبر على ما تُبتلى به؟
إذا كنَّا نغشى بعض المخالفات الشرعيَّة، ولا نستطيع قيام الليل أو الوتر على الأقل(9)، وكلَّما هبَّت ريحُ شبهةٍ أمالتنا! أو شهوةٍ أناختنا! فإن إحياء معاني القوَّة في أنفسنا قبل الآخرين ظاهرُ العُسْر والصعوبة.
ولا تخش على هذا الدِّين، فإنَّ الأقوياء في حَمْله والأخذ به والدفاع عنه لابدَّ من وجودهم في كل زَمَن، وهذه الأمَّة أمَّة ولود، فما يضعف قويٌّ إلا ويقوى ضعيف، وما يزلُّ عالم إلا ويرسخ آخر، وما يتساهل داعية إلا ويثبت غيره، فإمَّا أن تتحقق فينا معاني القوَّة في الدِّين أخذاً ومدافعة، وإمَّا أن تجري علينا سنَّة الاستبدال في قيادة هذا الدِّين والتأثير في الناس.
ومن نافلة القول: الإشارة إلى أن القوَّة في الدِّين لا تتطلَّب عبوساً في الوجه، وضيقاً في الصَّدر، وغلظةً في التعامل، فإنَّ هذا مما يخالف قوَّة الأخلاق عند الطائفة المنصورة، ولنا في سِيَر الأقوياء الأتقياء أسوة حسنة.
رزقنا الله وإيَّاكم القوَّة في دينه، وثبَّتنا على شرعه وهدي نبيِّه.
وصلَّى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________________
(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب المناقب، باب "سؤال المشركين أن يريهم النبي -صلى الله عليه وسلم- آية فأراهم انشقاق القمر"، (ح: 3369).
(2) انظر: فتاوى شيخ الإسلام -رحمه الله- (28/416).
(3) انظر: تفسير البغوي (5/121).
(4) رواه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب في "الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وترك المقادير لله" (ح: 4816).
(5) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب "النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقاً.." (ح: 1969).
(6) انظر: تفسير الطبري (2/161).
(7) انظر: تفسير البغوي (2/35).
(8) انظر: تفسير الطبري (13/218 - 219).
(9) ذكرت هذا الأمر لكون صلاة الوتر من آكد التطوعات، وقد اختُلف في وجوبها، ولأن لها علاقة مباشرة بموضوع القوَّة في الدين، فقد رُويَ عن عقبة بن عامر وفي سند الحديث مقال أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأل أبا بكر متى توتر؟ قال: أصلي مثنى مثنى ثم أوتر قبل أن أنام، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مؤمن حذر"، وقال لعمر بن الخطاب: كيف توتر؟ قال: أصلي مثنى مثنى ثم أنام حتى أوتر من آخر الليل، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "مؤمن قوي" أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (17/304)، (ح: 838).
التعليقات
الشيخ الشحات ابوعريضه
25-08-2017بارك الله فيك اخى الكريمونفعنا بعلمكورزقنا واياك القوة فى الدين