عناصر الخطبة
تفسير سورة القارعة

اقتباس

وَشَبَّهَ اللهُ الخَلْقَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِالفَرَاش؛ لِكَثْرَتِهِمْ وَانْتِشَارِهِمْ وَذِلَّتِهِمْ، أَوْ لِتَسَاقُطِهِمْ في جَهَنَّم؛ كما يَتَسَاقَطُ الفَرَاشُ في المِصْبَاح!...

الْخُطْبَةُ الأُوْلَى:

 

عِبَادَ الله: إِنَّهُ افْتِتَاحٌ مَهَوْلٌ مُرَوِّع! وَبِدَايَةٌ مُدَوِّيَةٌ رَهِيْبَة، وتَشْوِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا سَيُخْبَرُ بِهِ؛ إِنَّهُ الِافْتِتَاحُ بِلَفْظِ الْقارِعَةُ، في سُوْرَةِ القَارِعَة!

 

و(الْقَارِعَةُ) مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ القِيَامَة، وَسُمِّيَتْ بِذَلِك؛ لِأَنَّهَا تَقْرَعُ القُلُوْبَ بِهَوْلِهَا؛ وَلِهَذَا عَظَّمَ أَمْرَهَا وَفَخَّمَهُ بِقَوْلِه: (الْقَارِعَةُ).

 

ثُمَّ هَوَّلَ أَمْرَهَا، مُسْتَفْهِمًا عَنْهَا بِقَوْلِه: (مَا الْقَارِعَةُ): أَيْ مَا أَعْظَمَهَا وَأَفْظَعَهَا وَأَهْوَلَهَا!

 

ثُمَّ زَادَ في التَّهْويِلِ والتَّرْوِيعِ فَقَال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ): وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِهَا! فَهِيَ تَقْرَعُ القُلُوْبَ بَعْدَ قَرْعِ الأَسْمَاع! قال تعالى: (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ)، (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ) مِنْ شِدَّةِ الفَزَعِ والهَوْلِ (كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث): أَيْ كالجَرَادِ المُنْتَشِرِ المُتَفَرِّقِ، الَّذِي يَمُوْجُ بَعْضُهُ في بَعْض!

 

وَشَبَّهَ اللهُ الخَلْقَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِالفَرَاش؛ لِكَثْرَتِهِمْ وَانْتِشَارِهِمْ وَذِلَّتِهِمْ، أَوْ لِتَسَاقُطِهِمْ في جَهَنَّم؛ كما يَتَسَاقَطُ الفَرَاشُ في المِصْبَاح!

 

قال بَعْضُ العُلَمَاء: "النَّاسُ في أَوَّلِ قِيَامِهِمْ مِنَ القُبُورِ كالفَرَاشِ المَبْثُوث، لأَنَّهُمْ يَجِيْئُونَ وَيَذْهَبُونَ على غَيرِ نِظَام، ثُمَّ يَدْعُوْهُم الدَّاعِي فَيَتَوَجَّهُونَ إلى نَاحِيَةِ المَحْشَر؛ فَيَكُوْنُونَ حِيْنَئِذٍ كالجَرَادِ المُنْتَشِر؛ لِأَنَّ الجَرَادَ يَقْصِدُ إلى جِهَةٍ وَاحِدَة". قال ابنُ عُثَيْمِيْن: "لَوْ تَصَوَّرْتَ هَذَا المَشْهَد؛ لَتَصَوَّرْتَ أَمْرًا عَظِيمًا لا نَظِيرَ لَه، هَؤُلَاءِ العَالَم: مِنْ آدَمَ إلى أَنْ تَقُوْمَ السَّاعَة؛ كُلُّهُم يَخْرُجُونَ في آنٍ واحِد، في مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِها!".

 

فَهَذِهِ حَالُ النَّاسِ يومَ القِيَامَة، وَأَمَّا حَالُ الجِبَالِ الصُّمِّ الصِّلَاب؛ فَتَكُونُ (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ): أَيْ كَالصُّوفِ أَوْ القُطْنِ المَنْفُوش، الَّذِي تَطِيرُ بِهِ أَدْنَى رَيِح! قال تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)، ثُمَّ تَكُونُ هَبَاءً مَنْثُوْرًا، فَتَضْمَحِلّ وَلَا يَبْقَى مِنْهَا شَيءٌ! فَحِيْنَئِذٍ تُنْصَبُ المَوَازِيْن، وَيَنْقَسِمُ النَّاسُ إلى سُعَدَاء وَأَشْقِيَاء: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ): أَيْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ على سَيّئَاتِهِ (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) مَرَضِيَّة يَرْضَاهَا صَاحِبُهُا؛ فَهِيَ عِيْشَةٌ طَيّبَةٌ كَامِلَة، وَحَالَةٌ دَائِمَةٌ مِنَ الصَّفَاءِ وَاللَّذَّة! (لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ).

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:

 

عِبَادَ الله: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ): بَأَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ تُقَاوِمُ سَيّئَاتِه. (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) أَيْ: مَسْكَنُهُ النَّار، الَّتِي مِنْ أَسْمَائِهَا الهَاوِيَة، وَسَمَّاهَا أُمًّا؛ لأَنَّهُ يَأْوِي إِلَيْهَا كَمَا يَأْوِي الوَلَدُ إِلَى أُمِّهِ؛ فالأُمُّ هِيَ مَأْوَى الوَلَدِ وَمَلَاذُه، وَلَكِنْ النَّارَ هِيَ الأُمُّ الَّتِي فِيْهَا هَلَاكُهُ وعَذَابُه!

 

وَأَيْضًا؛ سُمِّيَتِ النَّارُ بالهَاوِيَة؛ لِأَنَّهُ يَهْوِي فِيهَا عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، وَيُنْبَذُ فِي هَاوِيَةٍ بَعِيدَةِ! وَفِي الْحَدِيث: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ، أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ!"(رواه مسلم).

 

(وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ) وهَذَا الاسْتِفْهَامُ لِلْتَّهْوِيلِ والتَّفْظِيعِ لِهَذِهِ النَّار! وَبَيَانِ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمَعْهُودِ، فَلَا تُحِيطُ بِهَا عُلُومُ الْبَشَرِ! ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِه: (نَارٌ حَامِيَةٌ): أَيْ بَلَغَتِ النِّهَايَةَ والشِّدَّةَ في الحَرَارَة! وَزَادَتْ على حَرَارَةِ نَارِ الدُّنْيَا سَبْعِيْنَ ضِعْفًا! قال ﷺ: "نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ؛ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ"، قَالُوا: "وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، يَا رَسُولَ اللهِ!"، قَالَ: "فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا"( رواه مسلم). 

 

اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَوَفِّقْ وَلِيَّ عَهْدِهِ لِكُلِّ خَيْر

 

وَصَلَّىَ اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنِا مُحَمَّد، وآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْن.

 

المرفقات
YyfC2osL3FKXuIX4qIZ0sjZTsIoGPSRSxJ4RDSOl.doc
RQSns9iEpcPZ5k2Vq0D5yIZU5hdxfTEeOfP9pAVP.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life