عناصر الخطبة
1/ ذم الفساد والمفسدين 2/ نماذج للفساد عبر التاريخ 3/ كراهية المفسدين للناصحين 4/ محاربة الرسل للمفسدين 5/ المنافقون وغرقهم في الفساد 6/ تعدد صور الفساد 7/ أهل الإسلام أقل البيئات لنمو الفساداهداف الخطبة
اقتباس
الله لا يحب الفساد، وعباد الله كذلك لا يحبون الفساد، وإن ملأ الفسادُ البر والبحر. وفي قديم الزمن، وحديثه هناك عن أساطين للفساد آذوا عباد الله، وتطاولوا على الله، وأكثروا في الأرض الفساد، ثم تراهم يخادعون الناس بمحاربة الفساد، ويتهمون غيرهم بالفساد، ألم يقل فرعون في اتهامه لموسى -عليه السلام-: إنّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26]. ولكن حبل الكذب قصير، والتزوير لا يدوم، ولئن خدع فرعون قومه واستخف بهم فأطاعوه فترة، فقد انكشف لهم السراب الخادع...
الخطبة الأولى:
في شرائع السماء كلها نهي عن الفساد في الأرض، وعند العقلاء كلهم يُمقت المفسدون، ويُكره المستبدون، وإذا كثرت الأمور المتفق عليها بين الناس كان الفساد واحدًا من هذه الأمور التي يجمع الناس على كرهها.
الفساد صور وأشكال، والمفسدون لهم علامات وأمارات، ومهما زُين الفساد بطلاء خادع، أو خادع المفسدون وروجوا لفسادهم فلا يمكن أن يتحول الأسود إلى أبيض، أو المكروه إلى محبوب.
الله لا يحب الفساد، وعباد الله كذلك لا يحبون الفساد، وإن ملأ الفسادُ البر والبحر.
وفي قديم الزمن، وحديثه هناك عن أساطين للفساد آذوا عباد الله، وتطاولوا على الله، وأكثروا في الأرض الفساد، ثم تراهم يخادعون الناس بمحاربة الفساد، ويتهمون غيرهم بالفساد، ألم يقل فرعون في اتهامه لموسى -عليه السلام-: (إنّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26].
ولكن حبل الكذب قصير، والتزوير لا يدوم، ولئن خدع فرعون قومه واستخف بهم فأطاعوه فترة، فقد انكشف لهم السراب الخادع، وثار الأقربون على فرعون، وقال السحرة المؤمنون: (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه : 73].
وكان قارون نموذجًا آخر للفساد، بغى وطغى حين أعطاه الله من المال ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة من الرجال، فكيف بما داخلها من الخزائن والأموال.
وتكبر قارون على عباد الله، وتجبر على الناصحين، الذين قالوا له: (لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 76، 77].
وجحد فضل الله عليه، وقال قولته الآثمة: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص: 78].
ولقد فتن قارونُ البسطاء حين خرج عليهم في زينته، وتمنى بعضهم أن يكون حاله مثل حاله، ولم ينخدع به العالمون، بل يميز أهل العلم والإيمان الذين لا تغرهم الحياة الدنيا، وينظرون إلى ما وراء ذلك من ثواب الله أو عقوبته: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا).
وكانت النهاية المؤلمة، والمشهد المخزي، والفضيحة والعقوبة الإلهية التي تنتظر الأفاكين، وقارون نموذج لهم: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ).
ولئن خسف بقارون بشخصه، فلا يزال يستنسخ نموذجه، ولا يزال مفسدون يسيرون على خطاه، ولا بد أن يواجهوا نفس المصير الذي واجهه -إن لم يتراجعوا حساباتهم ويستغفروا ربهم-.
المفسدون مع إفسادهم يكرهون الناصحين، ويعيبون على غيرهم ما يعاب عليهم، وقد أصمهم الهوى والطغيان عن مجرد الالتفات للناصحين، فضلاً عن سماع المخلصين، وربما بلغ بهم الأمر أن لبّسوا الناصحين بالفساد والإفساد، ولكن الله عالم السر وأخفى، وعباد الله يميزون الخبيث من الطيب، والمجتمعات الواعية هي التي تقبل النصح، وفي تاريخنا: "رحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا".
عباد الله: لقد كان النهي عن الفساد وظيفة مهمة للرسل -عليهم الصلاة والسلام- فصالحٌ قال لقومه: (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الأعراف: 74]. وشعيبٌ قال: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود : 85]. ولوطٌ قال: (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) [العنكبوت : 30].
وهكذا حارب المرسلون الفساد، وهتكوا أستار المفسدين، وكان الناهون عن الفساد بقية من القرون يستحقون الإشادة والفضل: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ) [هود : 116].
المفسدون لهم اللعنة ولهم سوء الدار بنص القرآن [الرعد: 25]، وأهل الفساد يزدادون عذابًا فوق العذاب بما كانوا يفسدون [النحل: 88].
لا يستوي بحال أهل الإصلاح وأهل الإفساد: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) [ص: 28].
والمنافقون غارقون في الفساد، مزيفون للحقائق، ليسوا أصحاب فساد فحسب، بل يلبّسون على الناس، ويظهرون باسم الإصلاح: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 11، 12].
ألا فلتعتبروا بمن قال الله عنهم: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) [الفجر: 11- 13].
الخطبة الثانية:
وبعد:
فتتعدد صور الفساد، فهناك فسادٌ في القيم، وآخر في الذمم، وهناك فساد سياسي واقتصادي وإعلامي، وهناك فسادٌ فرديٌ وجماعيٌ، فسادٌ على مستوى الكبار والصغار، وهناك فساد ظاهرٌ وباطنٌ، وهناك فسادٌ ذكوريٌ وأنثويٌ، وهكذا تتنوع صور الفساد، ومهما وضعت هيئات لمكافحة الفساد، أو وجدت رقابةٌ على المفسدين، فيبقى حياة الضمائر، والخوف من الجليل، وكره الفساد والمفسدين، والجرأة في إنكار الفساد، ومحاصرة المفسدين، والوعي بحجم الفساد وأثر المفسدين هي الضمانات الأقوى لمحاربة هذا الداء العضال، وخنوس المفسدين.
على أن أهل الإسلام يفترض أن يكونوا أقل البيئات لنمو الفساد، فلديهم من حرمات الشريعة، وتعظيم الشعائر، والأوامر والنواهي الربانية ما يطرد الفساد، وويل للشعوب والأمم إذا حل الفساد بأهل العقائد والذمم، وويل لمن يؤتمن ثم يخون، وهنا يحق للمتعوذ أن يتعوذ: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) [الممتحنة : 5]. ويحق للداعي أن يدعو (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان : 74].
أيها المسلمون: حاربوا نزغات الفساد في ذوات أنفسكم، ولا ترضوه من غيركم، وإن أي أمةٍ أو شعوبٍ يسري فيها الفساد فلا تستنكر، ليست خليقةً بالبقاء، ولا مؤهلة للريادة، وبقدر ما ينتشر الفساد في المجتمعات فهذا مؤشر لكثرة المبطلين، وضعف الخيرين.
وكلما رشدت المجتمعات واهتدت بنور السماء، تقلص حجم الفساد وتوارى المفسدون، وحين يحيط الفساد بالقدوات والنخب، فذلك مؤشر على عمق الفساد، واتساع دائرة المفسدين، ومزيد الحاجة للاستنفار للتغيير للأصلح.
إننا جميعًا مسؤولون عن محاربة الفساد، ومقاومة المفسدين، وإذا رأى الناس الظالم ثم لم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده، هكذا ورد الأثر، ويشهد الواقع.
ويوم أن يصاب الناس بالخذلان والأنانية، وحب الذات والجشع، مع ضعف في الإنكار، واستمراء للمنكر، فتلك مقومات للإصلاح، والله يحكم لا معقب لحكمه.
إن الذين يقومون بمهمة النهي عن السوء موعودون بالنجاة والخلاص دون غيرهم: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 165].
ألا فأنقذوا أنفسكم من أسباب الفساد، وأنقذوا مجتمعكم من غوائل الفساد وآثار المفسدين، تسعدوا في الدنيا، وتفلحوا في الآخرة.
التعليقات