عناصر الخطبة
1/ أثر حب المال في تجاوز حدود المعاملات 2/ جملة من ضوابط الشريعة لحدود التعاملات المالية 3/ إغلاق النبي الصارم لمسارب الفساد المالي 4/ من صور الفساد المالي المعاصرة 5/ الأسباب الحاملة على الفساد المالي 6/ التوبة واسترجاع المال العام بحساب براءة الذمةاهداف الخطبة
اقتباس
فإن مما جُبلت عليه النفوس، وتعلّقت به القلوب، بل هو زينة من زينة الحياة: المال. (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:20]، وكم كان لهذا الحب من أثرٍ في تجاوز الحدّ في التعامل معه! فحصل البغي والحسد، ووقع الظلم والعدوان، فتكبّر بسبب حيازته قوم، وكفَر آخرون، وما قارون عنا ببعيد!.
الخطبة الأولى:
أما بعد: فإن مما جُبلت عليه النفوس، وتعلّقت به القلوب، بل هو زينة من زينة الحياة: المال. (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:20]، وكم كان لهذا الحب من أثرٍ في تجاوز الحدّ في التعامل معه! فحصل البغي والحسد، ووقع الظلم والعدوان، فتكبّر بسبب حيازته قوم، وكفَر آخرون، وما قارون عنا ببعيد!.
ولهذا جاءت الشريعةُ بضبط حدودِ هذا المال، لما سبق في علم الله -تعالى- من الشح والبغي في ذلك، حتى إن الله -تعالى- تولى قسمةَ المواريث والغنائم بنفسه؛ لينقطع قولُ كل قائل مؤمن.
ومن جملة ما أحاطته الشريعة بهذا المال: حدّ السرقة، الذي يحفظ الحق، ويردع ضعاف النفوس الذين تُسّول لهم التعدّي على أموال غيرهم.
ومن جملة ذلك: ضبط بيت المال، وتولية الإمام الأعظم عليه؛ ليديره بما يحقّق مصلحةَ المسلمين، ويختار لذلك من الموظّفين مَن يُعينه على تنميته والمحافظة عليه، وقطع الطريق على المتحايلين باسم الدولة لمصلحة أنفسهم.
ولهذا؛ حين اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كان يبعث بعضَ أصحابه لجباية الصدقات من القرى والنواحي، وكان ممن استعمل -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يقال له: ابن اللُّتْبيَّة على الصدقة، فلما قدِم قال: هذا لكم، وهذا لي، أُهدي لي! قال: فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر وهو مغضبٌ، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: "ما بال عامل أبعثه، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه، أو في بيت أمّه، حتى ينظر أُيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده! لا ينال أحدٌ منكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه؛ بعير له رُغاء، أو بقرة لها خُوار، أو شاة تَيْعر"، واليعار هو صوت الشاة إذا ارتفع. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: "اللهم، هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟".
إنها حرب مبكّرة، وإغلاق قويٌّ لمنافذ التخوّض في مال الله، وإيصاد لمسارب الفساد المالي الذي قد يفعله بعضُ الناس؛ إنه حكم صريح، وإغلاقٌ صارم لأبواب التأويل في التصرف في أموال المسلمين باسم الهدايا مرةً، أو باسم تخفيف الضرر، وهي رشوة صلعاء، أو بغير ذلك من الأسماء؛ تنوّعت الأسماء والهدف واحد!.
إنني، وأنا أقرأ هذا الحديث والخطبة البليغة المؤثرة، والإنكار الشديد منه -صلى الله عليه وسلم- على هذا الصنيع؛ لأتساءل: كم هو الذي أُهدي لهذا الرجل؟ وما وزنه في جانب ما جَلَب؟ ثم انتقلتُ من ذلك العصر إلى عصرنا الحاضر؛ لأتأمل فيمن يَسرقون أو يأخذون أموالاً عظيمةً من بيت مالِ المسلمين بأسماء متنوعة والغاية واحدة! وليسوا متأوّلين كما فعل هذا المُصّدّق الذي بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم-! يا الله! كم هي الأموال التي سيأتون بها يوم القيامة على رقابهم!.
لقد تنوّعت صورُ العبَث بالمال -خاصة ببيت مال المسلمين- في عصرنا بشكلٍ مذهل، وقد سمعتُ من أسئلة الناس ما يفطّر الفؤاد!.
هذا مقاوِل في الطرق، يقع في عمله قصور، وبدلاً من أن يقوم المهندس المكلّف من قِبَل الدولة بتحرير مخالفة تكشف قصورَ هذا المقاول؛ يأتي المقاول ليُغري هذا المهندس بمئات الآلاف ليكتب تقريراً سليماً! وهنا يبدأ مسلسلُ الخيانة لأئمة المسلمين وعامتهم، وكثير من مشاريع الطرق شاهدٌ لا يكذب على ذلك، ومواسم الأمطار من أصدق الشواهد التي تكشف عبَثَ المفسدين، وتَستُّر الخائنين.
مثال آخر: وَضَعت البلديات مراقبين على الأسواق ومحلات الأطعمة وغيرها؛ فيأتي المراقبُ ليحرّر مخالفةً على هذا المحل، فيُلمّح له بأن تدفع كذا وكذا، وإلا...! فيدفع المخالِفُ، وتقع الخيانة، ويستمر الفساد!.
مثال ثالث: يَكثُر وقوعه في إدارات التربية والتعليم، خاصة قسم النساء حين تحتاج معلّمةٌ ما إلى التعيين، أو نقلها من مكان إلى آخر، فلا أُحصي -والله- كم هي الأسئلة التي تقول: إن الموظف طلب أتعابه! عجباً! أيُّ أتعاب يطلبها؟ وهو موظف يأخذ راتباً من الدولة؟ إن كان هذا التعيين أو النقل ممكناً فيجب عليه فعلُه بلا منّة، وإن لم يكن ممكناً نظاماً؛ وجب عليه الاعتذار، لعدم إمكانه نظاماً.
وكل هذه صور متنوعة يَجمعها: الرشوة، التي لعن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فاعلَها. كم تعطّلتْ من مشاريع للدولة بسبب الرشوة! وكم تأخرتْ من مصالح للمسلمين بسبب الفساد المالي الذي يُغلّف بأسماء كثيرة؟!.
علقّ شيخنُا العثيمين -رحمه الله- على حديث ابن اللتبية الذي ذكرته آنفاً بقوله: وصدق النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه لم يُهد لهذا العامل -الذي هو تابع للدولة- إلا من أجل أنه عامل، ولو كانوا يريدون أن يهدوا إليه لشخصه لأهدوا إليه في بيت أبيه وأمه. ومن هذا الحديث نعرف عظيمَ قبح الرشوة، وأنها من عظائم الأمور التي أدّت إلى أن يقوم النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- خطيباً يخطب في الناس، ويحذّرهم من هذا العمل؛ لأنه إذا فشت الرشوةُ في قومٍ هلكوا، وصار كلُّ واحدٍ منهم لا يقول الحق، ولا يحكم بالحق، ولا يقوم بالعدل إلا إذا رُشي، والعياذ بالله!. انتهى كلامه رحمه الله.
عباد الله: إن من يقرأ الأنظمة الموضوعة في مكافحة الرشوة والفساد المالي والإداري في بلدنا؛ يجدها أنظمة صارمة وقوية، لكننا نجد فئاماً من الناس يتحايلون على ذلك بأسماء مختلفة كما أشرتُ آنفا! فما سبب ذلك؟ وكيف يعالج؟.
والجواب عن هذا أن يقال: إن الأسباب كثيرة، لكن من أبرزها ثلاثة أسباب:
السبب الأول: ضعف الإيمان والوازع الديني، الذي يعبّر عنه بعضُ المعاصرين بـ (رقابة الضمير) ـ..
المراقبة التي إذا غابت عن الإنسان سَرق، ورَشا وارتشى، وغصَب، وجَحد، ولا دواء لذلك إلا أن يتذكر الإنسانُ أن لعنات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تُلاحقه وهو يأكل ويشرب، وهو قائمٌ ونائم، وهو مسافرٌ ومقيم! ألا يكفي هذا رادعاً لتركها؟ ماذا يُساوي أن يدخل في رصيدك مليون وليس عشرة آلاف، ثم تطاردك لَعنَاته -صلى الله عليه وسلم- في حياتك، وفي قبرك، وعند قيام الأشهاد؟! كيف يَهنأ هذا بحياته؟!.
تأمّلوا معي هذا الموقف: حين عادت جيوشُ المسلمين بعد معركة القادسية، طُرحتْ بين يدي أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- كنوزٌ عظيمة من غنائم الفُرس، وفيها ثياب كسرى، وبساط إيوانه، فلما رآها قال: "إن قوماً أَدّوا هذا لأُمَناء"، فقال له علي: "عفَفَتَ فعفُّوا، ولو رَتَعتَ لرَتَعوا" ثم ألبسَ ثيابَ كسرى خشبةً كانت عنده، وذكر الدنيا وزينتها، وحقارتها.
السبب الثاني: الجهل بأن تَبِعة الأخذ من بيت المال عظيمة جداً، قال شيخنا العثيمين -رحمه الله-: السرقة من بيت مال المسلمين أعظم من ملك واحد معيّن؛ وذلك لأن سرقته خيانةٌ لكل مسلم، بخلاف سرقةِ أو خيانةِ رجلٍ معينٍ؛ فإنه بإمكانك أن تتحلَّل منه وتَسلَم. انتهى كلامه رحمه الله.
يوضّح شيخنا -رحمه الله- هذا المعنى بشكل أكبر فيقول: الريال الذي تأخذه من شخص واحد، سيكون خصمك وحدك يوم القيامة، أما الريال الذي تأخذه من بيت المال -بأي صورة- فخصْمُك فيه جميعُ المسلمين، حتى العجوز في قعر بيتها!.
فبالله عليك -أيها المسلم- هل ستتحمل خصومة عشرات الملايين من المسلمين يوم القيامة؟! أما والله لو كان الخصم واحداً لحُقّ لك أن تخاف، فكيف لو كانوا بهذا العدد؟!.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فمن أكثر الأسباب الحاملة على وقوع الناس في الفساد المالي، وهو السبب الثالث: ضعف الإيمان بالآخرة، الذي إذا غشيَ القلبَ صدرت منه الأفعالُ الشنيعة.
تأمل في سورة الماعون: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) [سورة الماعون]، فالذي بعث على هذه الخصال الذميمة ضعفُ أو انتفاء الإيمان باليوم الآخر، وتعلّقهم الشديد بالدنيا.
وفي البخاري، عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حق، فلَهُم النار يوم القيامة".
فاتقوا الله عباد الله، وارعوا الأمانة التي وُكلت إليكم، وانجوا بأنفسكم اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم، ولا تبنوا أجسادَكم من حرام، ولا تُطعموا أولادكم حراماً، ولا توصدوا أبواب إجابة الدعاء عليكم بأكل الحرام، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم)، وقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنّى يستجاب لذلك؟" رواه مسلم.
ومن تورط في اختلاس شيءٍ من بيت المال، فإن باب التوبة مفتوح، وفرصة استرجاعه متاحة من خلال حساب براءة الذمة، الذي فُتح من قبل الدولة لتسهيل باب التوبة من هذا الجرم العظيم.
اللهم إنا نسألك رزقًا واسعًا، حلالاً طيبًا مباركاً فيه، اللهم أعذنا من موجبات سخطك، وأسباب غضبك.
اللهم ارزقنا قناعة تملأ قلوبنا، واستعملنا في طاعتك يا رحمن، اللهم أصلح أحوال المسلمين، وأرخص أسعارهم، واكفهم شر شرارهم.
اللهم وانصر المجاهدين في كل مكان...
التعليقات