الفتوى وأهلها

ناصر بن محمد الأحمد

2011-02-13 - 1432/03/10
عناصر الخطبة
1/ أهمية الفتوى 2/ مصادر الفتوى 3/ تهيُّب المتقدِّمين من السلف من الفتوى 4/ تصدِّي كل من هب ودب للفتوى اليوم 5/ إحجام بعض العلماء الأكفاء عن الفتوى 6/ الشروط الواجب توفرها في المفتي 7/ دور الفتوى في إحياء السنن ونشر العلم وتماسك المجتمع 8/ الآثار السيئة لأخذ الفتوى من غير أهلها
اهداف الخطبة

اقتباس

وممَّا ابتُلِيَتْ به الأمَّة في أوقاتنا هذه، أن تبوَّأ منصبَ الإفتاء أناسٌ ليسوا أهلاً لذلك، تنقصهم كثير من مقوِّمات هذا المنصب، فضلُّوا وأضَلُّوا، ولقد يسَّرَت الفضائيات ظهور جهَلة تقلدوا هذا المنصب الخطير، وتعلَّق بهم عوام الناس، فصاروا يتخوَّضون في محرَّماتٍ، بحجة أنه قد أفتى بها فلان أو علَّان!.

 

 

 

 

 

 

 

أيها المسلمون:إنَّ من أنبل ما يشتغل به المشتغلون، وخيرِ ما يعمل له العاملون، نشْر علمٍ نافع تحتاج إليه الأمة، فيهديها من الضلالة، وينقذها من الغواية، ويخرج (النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيد) [إبراهيم:1].

كيف لا يكون ذلك كذلك، وقد حضَّ الله تعالى عليه بقوله الكريم: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون)؟ [التوبة:122].

ولقد أوجب الله تعالى على أهل العلم نشره، ونهاهم عن كِتمانه، فقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَه) [آل عمران:187]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من علِم علماً فكتمه أُلجِم يوم القيامة بلجام من نار".

أيها المسلمون: ولنشر العلم وسائلُ كثيرةٌ، من أهمِّها التصدِّي للإفتاء، لعموم الحاجة إليه، ولكثرة التعويل عليه، لا سيما في هذه الأيام التي قلَّ فيها الإقبال على العلم، واكتفى معظم المستمسكين بهذا الدين باستفتاء العلماء عما يعرض لهم، أو يؤرِّق بالهم، لتصحيح عبادة، أو تقويم معاملة؛ والقليل منهم من يلزم مجالس العلماء حتى يتخرج على أيديهم، ويصبح -من ثَمِّ- وارثاً لعلومهم.

ما زال الإفتاء قائماً منذ فجر الإسلام حتى هذه الأيام، حتى خلّف العلماءُ كثيراً من كتب زخرت بها المكتبة الإسلامية، كانت -وما تزال- مصدراً من مصادر الإشعاع العلمي والحضاري الذي ترك بصماته في نهضة الأمم ورُقِيِّ الشُّعوب؛ لهذا كانت منـزلته عظيمة، ومكانته كبيرة، لأنه بيان حكم الله تعالى بمقتضى الأدلة الشرعية على جهة العموم والشمول.

لقد تقلد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المنصب العظيم، فكان له منصب النبوة، ومنصب الإمامة، ومنصب الإفتاء.

إن الفتوى تكتسب أهمية بالغة لشرفها العظيم، ونفعها العميم، لكونها المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب، حيث أفتى عباده، فقال في كتابه الكريم: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَاب) [النساء:127]، وقال تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَة) [النساء:176]؛ لقد نسب الإفتاء إلى ذاته، وكفى هذا المنصب شرفاً وجلالة أن يتولاه الله، تعالى، بنفسه.

قال الإمام العلامة ابن القيم، رحمه الله: "وأول من قام به من هذه الأمة سيد المرسلين، وإمام المتَّقين، وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِين) [ص:86]، فكانت فتاويه -صلى الله عليه وسلم- جوامع الأحكام، مشتملة على فصل الخطاب.

ثم خلفه في منصب الإفتاء كوكبة من صحابته الكرام، قامت به أحسن قيام، فكانوا سادة المفتين، وخير مُبَلِّغٍ لهذا الدين، قال قتادة في تفسير قول الله تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَقّ) [سبأ:6]، قال: أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-.

ثم جاء من بعدهم التابعون، وأتباعُ التابعين، وكثيرٌ من الأئمة المجتهدين، والعلماء العاملين، فأفتَوا في دين الله، تعالى، بما آتاهم من علم غزير، وقلب مستنير، ورقابة لله العليم الخبير، فأسدَوا إلى الأمة خدَماتٍ جليلةً، كان لها أثرٌ في نشرِ العلم، وإصلاحِ العمل.

ومما يُظهر منـزلةَ الفتوى أيضاً أنها بيانٌ لأحكام الله، تعالى، في أفعال المكلَّفين، ولهذا شَبَّهَ ابنُ القيِّم المُفتي بالوزيرِ الموقِّع عن الملك، فقال: "إذا كان منصِب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكَر فضله، ولا يُجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السَّنِيَّات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟".

أيها المسلمون: لئن كانت حاجة الأمة إلى الفتوى كبيرةً فيما مضى، فإن الحاجة إليها في هذه الأيام أشدُّ وأبقى، فقد تمخض الزمان عن وقائعَ لا عهد للسابقين بها، وعرضت للأمة نوازلُ لم يخطر ببال العلماء الماضين وقوعها، فكانت الحاجة إلى الإفتاء فيها شديدة، لبيان حكم الله، تعالى، في هذه النوازل العديدة، إذ لا يُعقل أن تقف شريعة الله العليم الحكيم عاجزةً عن تقديم الحلول الناجعة لمشكلاتهم المتَّسعة لكلِّ ما يحدث لهم، أو يُشكل عليهم، وهي الشريعة الصالحة لكل زمان، الجديرة بالتطبيق في كل مكان.

وبما أن الفتوى بيانٌ لأحكام الله، والمفتي في ذلك موقِّعٌ عن الله، فإن القول على الله تعالى بغير علم من أعظم المحرمات، لما فيه من جرأة وافتراء على الله، وإغواء وإضلال للناس، وهو من كبائر الإثم، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَالإِثْمَ، وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ، وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً، وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون) [الأعراف:33]، ومما يدل أيضاً على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم) [النحل:116-117].

لهذا هاب الفتيا كثير من الصَّحابة، وتدافعوها بينهم، لِمَا جعل الله في قلوبهم من الخوف والرقابة؛ فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركْتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُسأل أحدُهم عن المسألة فيردّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول". وفي رواية:"ما منهم من أحدٍ يُحدِّث بحديث إلا ودَّ أخاه كفاه إياه، ولا يُستفتى عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا".

أيها المسلمون: ومما ابتُلِيَتْ به الأمة في أوقاتنا هذه، أن تبوَّأ منصبَ الإفتاء أناسٌ ليسوا أهلاً لذلك، تنقصهم كثير من مقوِّمات هذا المنصب، فضلوا وأضلوا، ولقد يسرت الفضائيات ظهور جهَلة تقلدوا هذا المنصب الخطير، وتعلق بهم عوام الناس، فصاروا يتخوضون في محرَّماتٍ بحجة أنه قد أفتى بها فلان أو علان!.

ظهر ما يُسَمَّى بفقه التيسير، واشتهرت بعض الأسماءِ مِمَّن فتاواهم، غالباً، تدور حول التيسير على الناس، والترخُّص، ولقد عشنا في زمن سمعنا فيه فتاوى ظالمة، وآراء آثمة، فيها محادَّة لله ورسوله، منها القول بجواز ربا البنوك! محاباةً لمن يطلب ذلك من أصحاب النفوذ، مع أن الله، تعالى، حرَّم الربا بنصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، ورغم الوعيد الشديد، فقد خرج على الأمة من أفتاها بجواز ربا البنوك، دون وجل أو خوف من ملك الملوك، أو خشية من عذاب الله، أو رهبة من حرب آذن بها الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

أيها المسلمون: إن من مظاهرِ غربة الإسلامِ في هذا الزمان، ونتيجةً لعواملِ التغريبِ التي عصفَتْ -ولا تزالُ تعصفُ- بالأمةِ، أن استهان كثيرٌ من الناسِ بالحلالِ والحرام، وأخذوا أحكامَ دينهِم عن الجهلةِ، وتتبعوا الرخص، وتصدَّت للإفتاءِ جماعةٌ ليسوا له بأهل، في جرأةٍ بالغة، دون خوفٍ أو خشيةٍ من العليم الخبير، وتفشَّى أولئك المُتقوِّلون على الله بلا علم.

وهم في غمرةِ نشوتِهم، وقمةِ غرورِهم وجهلهم، تناسَوا ذلك الوعيدَ الشديد، الذي يُزلزلُ القلوبَ الحية، ويتهددُ المُتجرِّئين على الفتيا، فيقولُ الحقُ تباركَ وتعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً، قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ؟ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ؟ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُون) [يونس:59-60]؛ لقد ضربوا بهذه الآية عرضَ الحائط، واستخفُّوا بأمر ربهم، فهم في غَيِّهم يترددون.

وأصبحْتَ ترى بعضَ المتعجٍِّلين ممن لا يكادُ يحفظُ شيئاً من كتابِ الله، فضلا ًعن استنباطه، أصبحتَ تراهُ مُصاباً بجنونِ العظمة، فيفتي بغيرِ علم، ويناقشُ أبا حنيفة، و يخطِّئُ الشافعي، ويردُ على ابن تيمية والذهبي، مردداً مقولة حقٍ أُريد بها باطل، قائلاً إنهم رجالٌ ونحنُ رجال! وبهذهِ العبارة يُجيزون لأنفسهمِ الخوضَ فيما لا يعرفون، والكلامَ فيما لا يفقهون، ويُحللون ويُحرمون دون علمٍ أو هدىً أو كتابٍ منير.

بل إنَّهم ليخوضونَ في قضايا محيِّرة، ويتجرّؤون على الفتيا في مسائلَ مستعصيةٍ، لو حصلتْ في عهدِ عمرَ -رضي الله عنه- لجمع لها أهل بدرٍ كلَّهم، بينما ذلكَ المتعاظمُ يصدرُ فيها رأَيهُ بكلِّ عجلةٍ وتسرع، ولا يجدُ في صدره من ذلك حرجاً أو غضاضة!.

وليتَ الأمرَّ توقَّفَ عند المنتسبينَ للعلم من ذويِ التخصصات الشرعية، بل تعداهُ إلى أُناسٍ يفتقدون حتى المبادئ الأساسيةِ لأي فنٍ من فنونِ الشريعة، فذاك يُفتي وهو كاتبٌ صحفي، وذاك يُفتي وهو لاعبُ كرة، وذاك يفتي وهو ممثلٌ ماجن! وغيرهمُ كثير.

إن من الأخطاء الكبيرة التي يقع فيها كثير من الناس أنهم يسألون أيَّ أحد، ولا أدري هل لا يفرِّقون؟ أو يبحثون عمن يجيز لهم ما يشتهون؟ فمثلاً، من كان صوته حسناً وجميلاً في القرآن صار يُستفتَى، والمنشد يستفتى، ومفسِّر الأحلام ومعبر الرؤى يستفتى، وإمام المسجد يستفتى، وهكذا... وهذا خطأ فادح.

أيها الأحبة: اعرفوا عمَّن تأخذون دينكم، ولا تسألوا إلا العلماء، وليس كل من ظهر في الفضائيات أو الإذاعات على أنه شيخ يصلح لأن يستفتى، فبعضهم قد يكون مجيداً لبعض القضايا التربوية، وبعضهم يحسن الكلام في الأمور الاجتماعية، وآخر متخصص في القضايا النفسية؛ أما الفقه وأحكام النوازل فهذه للعلماء الراسخين في العلم.

ومن هنا وضع العلماء للمفتي شروطاً عدّة لا يَتقلّد الإفتاءَ إلا بتحققها فيه، كالعلم، والعدالة، والورع، والتثبّت، وغيرها؛ ومتى انتفى منها شرط، لم يكن من أهل الفتوى.

أيُّها المسلمون: إن الأحكام الشرعية ليست مجالا مفتوحا لكل من هبَّ ودبَّ من صحفيين وبرلمانيين وعلمانيين ممن لا يفقه في الشرع المطهر شيئاً، ومن ثم فلا مجال لأمثال هؤلاء في مناقشة ما ليس من اختصاصهم، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

ثم إن المجتمعات الإسلامية لها خصوصيتها ولها تميزها، فهي، بحكم إسلامها، وإيمانها بدينها، تقبل أحكام الشرع المطهر بكل رحابة صدر؛ فمحاولة تسميم أفكار الرأي العام من قبل الإعلام والجمعيات النسائية المشبوهة بطرح زبالات الأفكار الأجنبية، وطلب نقلها لمجتمعاتنا، ظاهرة يحرص أعداء الإسلام على إقرارها وتمريرها منذ سنين طويلة؛ وكلما رفضت أعيدت من جديد، تُرفض لما تحمله من أخطاء معروفة للجميع، ولما فيها من تضليل للأمة، وانحراف بها عن الصراط المستقيم، لمصالِحَ أجنبيةٍ، وأهواء شخصية.

أيُّها المسلمون: وفي مُقابلِ هذه الجرأةِ البالغةِ على الفتيا، يقفُ على النقيضِ من ذلك بعضُ العلماءِ الراسخين، فيحمجونَ عن الفتيا مع تأهلهِم لها، وقدرتهِم عليها، ويمتنعونَ عن إبداءِ آرائهمِ الشرعية في قضايا الأمةِ المصيرية، ويوقِعون الناسَ في حيرةٍ من أمرهم، ويُخيبونَ آمالَ الأمةِ في أحرجِ المواقف، وأشدّها حاجةً إلى سماعِ كلمةِ الحق، والأمةُ محتاجةٌ إلى سماعِ أقوالِ علمائِها وآرائهمِ عند اشتداد الخَطْبْ، وظهورِ الفتن، حتى لا تزَّل بهمُ الأقدام، أو تهوي بهم الريحُ في مكانٍ سحيق، (المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين) [الأعراف:1-2]، (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ، فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً، فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران:187]، فحرامٌ على العلماء أن يكتموا العلمَ الصحيح، ولا يبينوا الحقَّ الصريح، ويَدَعُوْا الأمةَ تتخبطُ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال، دون أن يأخذوا بيدِها إلى برّ الأمان، لا يخافون في اللهِ لومهََ لائم.

هذا إمامُ أهلِ السُنةَّ أحمدُ بنُ حنبل -رحمه الله- يقولُ رأيهُ بكلِ شجاعةٍ ورجولة، لا يمتنعُ من الفُتيا بما يعتقدُهُ من صوابٍ في قضيةِ خَلقِ القران، ولا يرضى لنفسهِ أن تُضللَ الجماهير المتلهفة لسماعِ كلمةِ الفصل، أو أن يكتمَ علماً الأمة بأمسِّ الحاجة إليه، يقولُ كلمةَ الحقِّ غيرَ هيَّابٍ ولا وجل، وإن غضبَ المأمون أميرُ المؤمنين، وهددَّه بالصلبِ والقتل.

 

 

 

 

الخطبة الثانية:
 

 

أيها المسلمون: إذا كانت الفتوى مؤصلة تأصيلاً شرعياً سليماً من التنطُّع، معافى من التسيب، بعيداً عن الأقوال الشاذة، نائياً عن الأدلة التالفة، مراعى فيه رضى الحق، وملاحظةً به مصالح الخلق، فإن الفتوى تترك في الأمة آثاراً طيبة، مثل إزالة الجهل، فسؤال المستفتي وإجابة المفتي نوع من المدارسة العلمية، يتعلم فيها السائل أحكام الدين، وهو نوع من العلم الذي حض الله تعالى على تحصيله في كتابه الكريم، حيث قال: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون) [التوبة:122]، وقال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون) [النحل:43]

لقد قامت مدرسة النبوة على التوحيد الذي يحفظ العقل من الخرافة، كما قامت على العلم الذي يصون الإنسان من الجهالة، فتخرَّج فيها رجال كانوا مناراتِ هدايةٍ للسائرين، ومشاعلَ علمٍ ومعرفةٍ للقاصدين، فبالفتاوى الكثيرة التي أعطاها النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، وبالرعاية الإيمانية والعلمية التي أحاطهم بها، نشأ خير جيل عرفته الإنسانية في تاريخها، فيه من مجتهدي الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة، وغيرهم -رضي الله تعالى عنهم-.

نعم، تخرَّج في تلك المدرسة جيل فريد متسلح بالعلم، بعد أن كان يغط في جهالة عمياء، لا يعرف قراءة ولا كتابة! ولقد كانت فتاوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوجيهاته عاملاً من عوامل تعليم الأمة، ورفع الجهل عنها.

إن الفتوى السليمة تجعل المستفتي على الجادَّة القويمة، وتبعده عن البدع الذميمة، فتُصحِّح مساره لئلا يزل، وتحذره من البدع لئلا يضل، وفي ذلك صلاح الفرد، وسلامة المجتمع؛ قال الله تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيد) [سبأ:6].

بالفتوى القويمة توثق صلة الأمة بعلمائها، وما أحوج الأمة إلى ذلك التلاحم الذي يقود ركبَه حمَلةُ أشرفِ رسالة! إن الأمة التي تبقى وفيّةً لعلمائها، تسمع لقولهم، وتطيع أمرهم، وتأخذ بنصحهم، هي أمة مؤهلة للفوز في الدنيا، والنجاة في الآخرة؛ وكيف لا يتم لها الفوز، والله تعالى قد أرشدها لطاعته؟ قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُم..) [النساء:59].

إن الفتوى إذا سلمت من الشذوذ، وتجردت عن تنطُّع المتنطِّعين، وتسيُّب المتسيِّبين، ثم أُعْطِيَتْ للمستفتي على أنها توقيعٌ عن رب العالمين، فإنها تكون خير عون على أداء التكاليف الشرعية، كما أمر الله تعالى في قوله الكريم: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُون) [الزمر:55].

كما أن الفتوى كلما كانت سديدة، معتمدة على الأدلة الصحيحة، فإنها تكون أدْعَى إلى حمل الناس على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الذي أراده الله ورسوله، وفي ذلك إحياءٌ للسُّنَن، وإماتةٌ للبدع.

أيها المسلمون: أما الآثار السيئة لأخذ الفتوى عن غير أهلها ففي مقدِّمتها التَّعَدِّي على حدود الله، فما أفدح الخطب حين تُنْتَهَكُ حرُماتُ الله بفتاوى جائرةٍ تُنسَب إلى دين الله! إنَّ أخذ الفتوى عن غير أهلها يسوق المستفتَي إلى الجرأة على دين الله، فلا تبقى لله، تعالى، في قلبه رقابة، ولا إلى الحقِّ في نفسه إنابة، فيفتي بفتوى جائرة، ثم يتدهده من قلة الخشية، وظلمة المعصية، من ذنب إلى آخر، حتى تهوي به أهواؤه في مكان سحيق.

تأملوا حال كثير من الناس اليوم، ممَّن دخلوا في أنفاقٍ مظلمةٍ في أبواب المعاملات، وتورَّطوا بدُيون عظيمة، فمن الأسباب تساهُلُهم في فتاوى اللذين أجازوا لهم الاقتراض ونحوه، وما صياح وعويل الناس هذه الأيام في باب الأسهم منَّا ببعيد!.

  

 

 

المرفقات
الفتوى وأهلها.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life