اقتباس
الفتنة بين الصحابة
أحمد الجوهري عبد الجواد
الوَحدةُ هي أعظم أسلحةِ المسلمين - بعد الإيمان بالله تعالى - في النَّصر والدِّفاع على سواء، ولم يُعرف زمانٌ قط انتَصر فيه على المسلمين أعداؤهم إلَّا وهم متشرذمون، بل ما جرؤ هؤلاء يومًا على المسلمين إلا وهم أشتات متفرِّقون، أما وهم وحدة واحدة، وجماعة متماسِكة، وصفٌّ مرصوصٌ، فلا؛ لهذا كان تفرُّق الصفِّ الإسلامي أعظمَ الأخطار التي واجَهتِ الإسلامَ في كلِّ زمان ومكان.
ومن ثَمَّ كانت دعوة الإسلام إلى الوحدة ونبْذِ الفُرقة في كثير من آيات القرآن، وأحاديث السنَّة، وأحداث السيرة، ولْنقرأ معًا هذا الخبر يُغنينا في هذا الباب:
• أخرج ابنُ إسحاق عن زيد بن أسلم قال: مرَّ شاس بن قيس - وكان شيخًا عظيمَ الكُفر، شديدَ الضغن على المسلمين، شديدَ الحسدِ لهم - على نفَر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن الأَوس والخزرج في مَجلس قد جمعهم، يتحدَّثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلْفَتِهِمْ وجماعتهم وصلاحِ ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم مِن العداوة في الجاهليَّة، فقال: قد اجتمع بَنو قيلة بهذه البلاد، واللهِ ما لنا معهم إذا اجتَمَعوا بها مِن قرار، فأمر فتًى شابًّا معه، فقال: اعْمدْ إليهم فاجلس معهم، ثم ذكِّرْهم يومَ بُعَاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاوَلوا فيه مِن الأشعار، وكان يومُ بُعاث يومًا اقتتلت فيه الأوسُ والخزرج، وكان الظفر فيه للأَوس على الخزرج، ففعل، فتكلَّم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخَروا، حتى تواثبَ رجلانِ مِن الحَيَّيْنِ فتقاوَلا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إنْ شئتُم واللهِ رَدَدْناها الآن جذعةً، وغضب الفريقان جميعًا وقالوا: قد فعلنا، السِّلاحَ السِّلاحَ، موعدكم الحَرَّة، فخرجوا إليها، وانضمَّتِ الأوسُ بعضُها إلى بعض، والخزرجُ بعضُها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فَبَلَغَ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَخرجَ إليهم فِيمَنْ معه من المهاجرين من أصحابه، حتى جاءهم، فقال: ((يا معشرَ المسلمين، اللهَ الله، أَبِدَعْوى الجاهلية وأنا بين أَظْهُرِكم؟! أَبَعْدَ إذ هداكم اللهُ إلى الإسلام، وأكرمَكم به، وقطعَ به عنكم أمرَ الجاهلية، وَاسْتَنْقَذَكُم به مِنَ الكفر، وَأَلَّفَ به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفَّارًا؟!))، فعرفَ القومُ أنها نزغة مِن الشيطان، وكيدٌ من عدوِّهم لهم، فألقوا السلاحَ، وبَكَوْا، وعانق الرجالُ بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ اللهُ عنهم كيدَ عدوِّهم، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس وما صنع قولَه عزَّ وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 100 - 105][1].
لقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يجهض كلَّ دعوة مِن شأنها إثارةُ العصبيَّة وبذرُ الفُرقة بين المسلمين؛ لِما يعلم لها صلى الله عليه وسلم مِن نتائجَ وَخيمة، ومفاسدَ عظيمة، وظلَّ المسلمون كذلك يتَّقون وقوعَ هذا الشرِّ بينهم، ويعيشون في اجتماعٍ ووحدة وتماسُك طيلةَ حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم، فزمانَ خليفتَيْه أبي بكر ثمَّ عمر، وكلَّما بدَتْ نارُ فُرقة، سارع المصلِحون المخلِصون لوَأْدِها في شرارتها الأولى.
فلمَّا كانت وفاة أمير المؤمنين عمر وخلافةُ أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنهما، بدأتِ الفتنُ تطلُّ برأسها؛ فإنَّ عمر كان الباب الذي يَحول بين الأمَّة وبين الفِتَن، فلمَّا مات، انكسر البابُ وانهمرتِ الفِتنُ على المسلمين انهمارًا، وكان أعظم هذه الفِتن الاقتتال بين الصَّحابة!
سرعان ما جرتِ الأحداثُ بعهد ذي النُّورين عثمان رضي الله عنه، ومارَتِ الفتن حتى انتهت بقَتْله شهيدًا - كما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم[2] - على أيدي نفَر مِن شراذم وشذَّاذ الآفاق، أتوا مِن مصر والعراق وغيرهما، ادَّعوا عليه - ظلمًا وبهتانًا - دعاوى استحلُّوا بها قتله، ومضى عثمان إلى ربِّه راضيًا مرضيًّا صابرًا مصابرًا بعدما أقسم على الصَّحابة ألَّا يَسفكوا لأجله دمًا ولا يَقتلوا إنسانًا، وبعدما رفض أن يَسير إلى بلدٍ مِن البلاد تكون له بها مَنعة، أو يَبعث إليه ولاتُه بجندٍ تتوفر له بسببهم حماية.
بعد مقتل عثمان رضي الله عنه مظلومًا[3]، ولي عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافةَ بمبايعةٍ من الصحابة وجميع أهل المدينة - على كُرهٍ منه للخلافة، ورفضٍ منه للبيعة - وبعد مرور خمسة أيام على مَقتل الخليفة الشهيد، فقبل رضي الله عنه البيعةَ؛ حسمًا لمادَّة الخلاف، ولئلَّا تُترك الأمور لأولئك الغوغاء[4].
كانت البيعة لعليٍّ رضي الله عنه في عام 36 هـ، وبعد بيعته بأيَّام جاءه طلحةُ والزُّبير رضي الله عنهما، وطالباه بأخْذِ الثَّأر مِن قَتَلة عثمان، وكان هذان الصحابيَّان الجليلان أولَ مَن بايع عليًّا رضي الله عنهم أجمعين، فماذا كان جواب عليٍّ على طلبهما؟ اعتذر عليٌّ رضي الله عنه إليهما بأنَّ قتَلَة عثمان كثرة، فمِن الفِطنة تأجيل الأمر بعضَ الوقت؛ حتى يتمَّ له التمكُّن في الحكم، وجمع شَتات الناس، وكشف هؤلاء المجرمين وتعريتهم مِن المنحازين إليهم والمتعاطفين معهم، لقد كان هذا العُذر نفسه هو الذي منَع عثمانَ رضي الله عنه مِن قتالهم؛ لئلَّا تكون فتنة تُسفك فيها دماء المسلمين، خلاف صَغير في وجهات النَّظَر، لكن بدأ منه الخلاف الكبير الذي أسفر عن فرقة المسلمين إلى فريقين؛ فريق مَع عليٍّ رضي الله عنه، وفريق يخالفه، وأسفر كذلك عن حربين عظيمتين حدثَتْ فيهما مَقتلةٌ عظيمة، وسُفكتْ فيهما دماء كثيرة؛ هما حرب الجمل، وحرب صِفِّينَ.
لقد غضِب طلحةُ والزُّبير ومعهما أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عن الجميع مِن قول عليٍّ بتأجيل القِصاص، ورفضوا اجتهادَه في ذلك، وزاد الأمرَ سوءًا رفضُ مُعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه البيعةَ لعليٍّ حتى يأخذ بحقِّ عثمانَ ممَّن قتلوه، وكان معاوية عامِلَ عثمان على الشام، وأولى النَّاس بدمه من قومه؛ فتأخَّرتْ بذلك بيعةُ الشام بأسرها عن عليٍّ لأجل هذا السبب!
تأزَّمتِ الأمورُ أكثرَ وأكثر بخروج طلحة والزُّبير إلى مكَّة لمقابلة عائشة رضي الله عنها وكانت في الحجِّ، ثمَّ خرجوا جميعًا مع عبدالله بن عامر والي البصرة، الذي ذكَر لهم أنَّ له أعوانًا في البصرة يؤيِّدونه للمطالَبة بدَم عثمان والوقوف في وَجْه قتلَتِه، فخرجوا معه جميعًا إلى البصرة، وكان غرضهم مِن ذلك جمع الأعوان والأنصار للمطالبة بدَم عثمان رضي الله عنه، وممَّا قاله الزُّبير في ذلك: "خرجنا لنستنهض الناسَ ليدركوا دمَ عثمان لئلا يبطل؛ فإنَّ في إبطاله توهينَ سلطان الله بيننا أبدًا، فإذا لم يُفطم الناس عن أمثالها، لم يبقَ إمامٌ إلَّا وقتله هذا الصنف من الناس"[5]، وهذا يؤكِّد على أنَّهم ما قصَدوا إلَّا الخيرَ، وإنْ أخطؤوا الطريقَ إليه؛ فذلك كله مَوكول إلى تقدير وتنفيذِ الإمام الذي بايَعَه الناسُ، وكذلك أخطأ معاويةُ رضي الله عنه في اجتهاده بتأخير البَيعة؛ إذ ما كان له أن يَحبس البيعةَ عمَّن بايَعَه المسلمون، بل يَدخل فيما دخل فيه الناس، ولقد كان دخوله في البَيعة - لو فعل - مصدرَ القوَّة الذي كان ينتظره عليٌّ رضي الله عنه، وحسمًا لمادة الشرِّ الكبير الذي وقَع بعدها، لكن وقَع ما قدَّره اللهُ، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.
لما سمع عليٌّ رضي الله عنه بخروج أولئك الصَّحابة إلى البصرة، خرَج هو الآخر إليها يريد ردَّهم عمَّا أرادوا مِن خلاف قوله، ولئلَّا يَجمعوا الناسَ ويحزِّبوهم فتكون فِتنة، ولَمَّا وصل إلى البَصرة، بعث القعقاعَ بنَ عمرو رسولًا إلى أمِّ المؤمنين ومعها طَلحة والزبير، فلمَّا أتاهم قال لأمِّه عائشة: أي أمَّاه، ما أقدَمَك هذا البلد؟ فقالت: أيْ بُني، الإصلاح بين الناس، فقال لها: هلَّا ناديتِ طلحةَ والزبير، فدعَتْهما فأقبلا، فقال لهما القعقاع: إنِّي سألتُ أمَّنا عائشةَ: ما الذي أقدمها إلى البلاد؟ فقالت: إنِّي جئتُ للإصلاح بين الناس، فقالا: ونحن واللهِ ما جئنا إلَّا لذلك، فقال لهما القعقاع: أخبراني وما وَجه هذا الإصلاح؟ وما السبيل إليه؟ وعلى أيِّ شيء يكون؟ فوَالله إنْ عرفناه لنصطلحنَّ، فقال طلحة والزبير: أن يَقتل عليٌّ قتَلَةَ عثمان، فإنْ ترك عليٌّ هذا الأمرَ، كان عليٌّ بذلك تاركًا للقرآن.
فقال القعقاع: يا طلحة يا زبير، لقد تحمَّستما وقتلتما قتَلَةَ عثمان مِن أهل البصرة، فغضب لهؤلاء الذين قُتلوا ستة آلاف، فإن تركتموهم وقعتم فيما تزعمون أنَّ عليًّا وقع فيه، وإن قاتلتموهم وقعَتْ مفسدة هي أعظم من الأولى، وقال أيضًا: إنما أخَّر عليٌّ قتْلَ قتلة عثمان إلى أن يتمكَّن منهم؛ فإنَّ الكلمة الآن في جميع الأمصار مختلفة!
فقالت عائشة: فماذا تقول أنت يا قَعقاع؟ قال: يا أمَّاه، إنَّ هذا الأمر الذي وقع دوَاؤه التَّسكين، فآثِروا العافيةَ وكونوا مَفاتيح خيرٍ كما كنتم، ولا تعرِّضونا للبلاء؛ فهذا الأمر الذي وقَع أمرٌ عظيم، فقالوا جميعًا: أصبتَ وأحسنت، فارجع إلى عليٍّ، إن كان لعليٍّ مثل رأيك، صلح الأمر.
وهنا يكون كلُّ شيء على ما يرام، ويكون عليٌّ قَبِل الصلحَ، وعائشة وطلحة والزبير قَبِلوا الصُّلح، وكلهم في غاية الفرَح والسعادة برجوع الأمور إلى نصابها.
ورجع القعقاع إلى عليٍّ فأخبره ذلك، وأشرف القوم على الصُّلح، كَرِه ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه[6].
فما الذي حدث؟
بات قتَلَةُ عثمان - وكانوا قد خرجوا ينظرون إلى ماذا ستنتهي تلك المفاوضات - فلمَّا علِموا باستقرار الفريقين على الصُّلح، وعَلِموا أنَّها القاضية عليهم، وأنَّ القوم سيفرغون لقتلهم، ائتمروا وتشاوَروا، ثمَّ نظروا وفكَّروا ودبَّروا، فقُتلوا كيف دبَّروا! فقسَّموا أنفسَهم فريقين، ودخل كلُّ فريقٍ منهم إلى مُعسكرٍ مِن المعسكرين في جنح الظَّلام، حتى إذا طلع الصباحُ هاج الفريقان يخيلون للنَّاس أنَّ المعسكر المقابل هجم عليهم، وانطلَتِ الحيلةُ على المعسكرين، فقاموا إلى الحرب، كلٌّ مِنهم يقول: قد غَدر بنا الآخرون![7].
ووقعَتْ على إثْر ذلك مقتلةٌ عَظيمة، وطارت أشلاء، وجرَتْ أنهار الدِّماء، وكان فيمن قُتل يومئذٍ طَلحة والزُّبير رضي الله عنهما.
لقد كانت - موقعة الجمل هذه - فِتنة بين إخوة متحابِّين، ظلُّوا إلى أن مضوا إلى ربِّهم يضمرون الخيرَ ويقولونه ويفعلونه، لكن وقع ما وقع عليهم مِن تدبير وحياكة مِن غيرهم، وكان أمرُ الله قدرًا مقدورًا.
ثمَّ كانت موقعة صِفِّينَ بين جيش الشام بقيادة معاوية وجيشِ العراق بقيادة عليٍّ، وقد وقع القتالُ كذلك على كُرهٍ منهما، قال شيخ الإسلام: "وأكثر الذين كانوا يَختارون القتال مِن الطائفتين لم يكونوا يطيعون لا عليًّا ولا معاوية، وكان عليٌّ ومعاوية رضي الله عنهما أطلَبَ لكفِّ الدِّماء من أكثر المقتتلين، لكن غُلِبا فيما وقع، والفتنة إذا ثارت عجز الحكماءُ عن إطفاء نارها، وكان في العسكرين مثل الأشتر النخعي، وهاشم بن عتبة المرقال، وعبدالرحمن بن خالد بن الوليد، وأبي الأعور السلمي، ونحوهم من المحرِّضين على القتال، قوم يَنتصرون لعثمان غاية الانتصار، وقوم ينفرون عنه، وقوم ينتصرون لعليٍّ، وقوم ينفرون عنه، ثمَّ قتال أصحاب معاوية معه لم يكن لخصوص معاوية، بل كان لأسباب أخرى، وقتال الفتنة مثل قِتال الجاهليَّة لا تَنضبط مقاصدُ أهله واعتقاداتهم، كما قال الزهري: "وقعتِ الفتنةُ وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أنَّ كلَّ دَمٍ أو مال أو فَرْج أُصيب بتأويل القرآن فإنَّه هَدر؛ أنزلوهم منزلة الجاهلية، وهذا كله سواء كان ذنبًا أو اجتهادًا، مخطئًا أو مصيبًا، فإنَّ مغفرة الله ورحمته تتناول ذلك بالتَّوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفِّرة، وغير ذلك"[8].
وما من شك في أنَّ عليًّا وأصحابه كانوا أدنى الطائفتين إلى الحقِّ مِن أصحاب معاوية، وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم[9].
ومع هذا وقع القتالُ ولا حول ولا قوة إلَّا بالله، واحتدم بقوَّة، وأسفر عن قتلى كُثر مِن الفريقين، وكانت الهزيمة آخرًا في جيش معاوية، ولأجل هذا سارعوا برفع المصاحف على أسنَّة الرِّماح يطالبون بالتحاكُم إلى كتاب الله، الأمر الذي لم يُعِره عليٌّ اهتمامًا في البداية وحقَّ له؛ إذ أدرك أنها خدعة للانقلاب على نتيجة المعركة، وأمَّا كتاب الله، فما خرج عليٌّ إلَّا لنُصرته وإنفاذ حكمه!
أبى فريقٌ كبير من جيش عليٍّ إلَّا الاستجابة لطلَب جيش الشَّام، فتركوا القتالَ، ووجد عليٌّ نفسَه مرغمًا على التحكيم، فاختار الفَطِن اللَّبيب أبا موسى الأشعري رضي الله عنه ليمثِّله، كما اختار معاوية رضي الله عنه الصحابيَّ الجليل عمرو بن العاص ليمثِّل وجهةَ نظر أهل الشام.
ما الذي حدَث في هذا التحكيم؟ قال الناس في ذلك ما قالوا، وما كان الصواب في شيء ممَّا قالوا، إلَّا ما ساقه الدارقطنيُّ بسندٍ صَحيح عن التابعي الثِّقة حُضَين بن المنذر أنَّه سأل عمرَو بن العاص عن ذلك، فقال عمرو - يحكي ما وقع بينه وبين أبي موسى -: "قلت لأبي موسى: يا أبا موسى، ما ترى في هذا الأمر؟ فقال أبو موسى: أرى أنَّه في النَّفر الذين توفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم، فقال عمرو: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال أبو موسى: إن يستعن بكما ففيكما المعونة، وإن يستغنِ عنكما فطالما استغنى أمرُ الله عنكما"[10].
ثمَّ اتَّفَق الحكمان - عمرو وأبو موسى - على تأجيل القَضاء في الأمر سبعة أشهر، وكان الوقت في شهر صفر فتنتهي في رمضان، لكن قدَّر الله أن يموت عليٌّ رضي الله عنه خلال هذه المدَّة[11].
لقد كان خروج الصَّحابة طلحة والزُّبير وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم إلى مكَّة، ثمَّ قصدهم المدينة بمن معهم مِن الناس، ثمَّ عدولهم عن المدينة إلى البصرة للازدياد مِن الأعداد؛ لأنَّ مَن معهم لن يقدر على أولئك الغوغاء في المدينة - اجتهادًا اجتهدوه رضي الله عنهم وأخطؤوا فيه، كتب الله لهم أجرَ اجتهادهم، وعفا عنهم بمَنِّه وفضلِه لسابقتهم، فقد سبقت لهم مِن الله الحُسنى والوعد بالمغفرة.
وكانت رغبةُ الصَّحابي الجليل معاوية رضي الله عنه حَثَّ عليٍّ رضي الله عنه على التعجيل بأخذ القِصاص مِن قتَلَة عثمان؛ ولهذا أجَّل البيعةَ لعليٍّ، اجتهادًا منه رضي الله عنه، وأخطأ فيه، كتب الله له أجرَ اجتهاده، وغفَر له بمَنِّه وكرمه، وعلمِه بصِدق إيمانِه وحسنِ إسلامه الذي شهِد له به رسولُه ونبيُّه صلى الله عليه وسلم.
وكانت نظرة عليٍّ رضي الله عنه نظرةً ماحِصة صادقة مِن بصيرٍ بالأمور ومجاريها، وتقديرًا سديدًا سليمًا لها، ونظرًا ثاقبًا إلى مجاري الأمور اليوم وما تؤول إليه غدًا، لكن جرَتِ رياحُ المقادير بخلاف ما يَشتهي!
وترتَّب على ذلك أمور عظام؛ إذ وقعت بعد ذلك مآسٍ ومصائبُ عظام؛ منها فقد الأمَّة عددًا كبيرًا من الصَّحابة وآل البيت عليهم السلام، في مواقع وأحداث مؤسفة، كان لها أثَرها العظيم في الفُرقة بين المسلمين إلى اليوم.
ثمَّ كان مشروع الحسن بن علي رضي الله عنه في الصُّلح بين المسلمين، وجمْعِ كلمتهم، وتوحيدِ صفِّهم - نِعْمَ العمل الذي يَصدر عن وارث حِلم جدِّه وعِلم أبيه ومحبِّ الخير للمسلمين، وكان هذا الصُّلح العظيم نهاية هذه العاصِفة الشديدة التي بقيَتْ تعصف بالمسلمين طيلةَ خمس سنوات أو يزيد، حتى مَنَّ الله بزوالها على يدي ذلك المصلِح الكبير، سيد المسلمين الحسن بن علي بن أبي طالب، كما أخبر بذلك جدُّه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاريُّ عن أبي بَكرةَ رضي الله عنه قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على المنبر - والحسن بن عليٍّ إلى جنبه - وهو يُقبِل على النَّاس مرَّةً، وعليه أخرى ويقول: ((إنَّ ابني هذا سيِّدٌ، ولعلَّ الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين))[12].
بقي الإسلامُ وذهبتْ تلك العاصفةُ الكبيرة، لكن بقيَتْ درسًا للمسلمين في كلِّ زمان ومكان، يتعرَّفون إليها، ويتعلَّمون منها، ويتبصَّرون بنتائجها، ويحذرون من سيِّئاتها وعواقبِها.
عادت دولةُ الإسلام إلى وحدة شَعْبِها مِن جديد، واستقرَّتْ أمورُها الداخليَّة في الغالب، وتوجَّهتْ جيوشها ناحيةَ الخارج تؤمِّن الحدودَ وتؤدِّب المعتدين، وتفتتح الفتوحَ وتنشر الدِّين، ومضتِ الأمورُ في هذه السبيل عقودًا بل قرونًا، حتى أتَتْ مِحنةٌ عظيمة تعصف بقلوب المؤمنين، لقد كانت هذه المرَّة محنةَ شُبهات، لكنها كانت مِحنة عاصفة، شديدة، هوجاء، تدمِّر الأخضرَ واليابس في القلوب، ولا تُبقي فيها ولا تذَر، فماذا عنها، ما هي، وما خبرها؟ وما الذي آلَتْ إليه في نهاية أمرها؟
هذا ما تقفنا عليه الصفحات القادمة بمشيئة الله تعالى.
[1] انظر: السيرة النبوية؛ لابن هشام (2/ 204 - 206).
[2] انظر: البخاري (3674 و3305)، ومسلم (2403).
[3] روى الترمذي (3708)، وأحمد في مسنده (2/ 115)، وحسَّنه الألباني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنةً فقال: ((يُقتل فيها هذا المقنع يومئذٍ مظلومًا))؛ فنظَرْنا، فإذا هو عثمان بن عفان.
[4] انظر: العواصم من القواصم؛ لابن العربي (ص 146)، وصحيح مسلم (2401)، ومصنف ابن أبي شيبة (7/ 443)، وتاريخ ابن عساكر (42/ 535).
[5] انظر: تاريخ الطبري: (3/ 29).
[6] تاريخ الطبري (3/ 29)، بواسطة الفتنة بين الصحابة؛ لمحمد حسان (220).
[7] انظر: تاريخ الطبري (3/ 39)، والبداية والنهاية (7/ 420).
[8] منهاج السنة النبويَّة؛ لابن تيميَّة (4/ 469).
[9] انظر: البداية والنهاية (7/ 277).
[10] أخرجه ابن عساكر (46/ 175)، وانظر: العواصم من القواصم (ص 180).
[11] انظر: تاريخ الطبري (3/ 103)، وتاريخ ابن عساكر (65/ 153)، وطبقات ابن سعد (3/ 35).
[12] أخرجه البخاري (2704)، وانظر في تفاصيل الصلح: كتاب "مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري" (102-125)؛ للدكتور خالد الغيث، وكتاب الحسن بن علي شخصيته وعصره؛ للدكتور علي الصلابي، الفصل الثاني.
التعليقات