الشيخ مشاري بن عيسى المبلع
الحمد لله الذي تكلم بالحق، وبالحق متكلما لا يزال، إذا قال - وقوله الحق - ارتعدت السماوات الثقال، وخشعت له الملائكة الطوال، أحمده، وحمدنا له من نعمه علينا، وأثني عليه، وثناؤنا عليه من فضله الواصل إلينا، لم يزل متكلمًا بصيرًا، ولا يزال سميعًا قديرًا، وأصلي على نبيه خير الورى محمد، وأسلم على سيد الخلق المسدد، صلاة لا تنقطع ولا تنقضي، وسلامًا لا يبيد ولا ينتهي، وعلى زوجاته العفيفات أمهات المؤمنين، وعلى بناته، ومنهن فاطمة سيدة نساء العالمين، وعلى بنيه الأطهار، وعلى صحبه الأخيار، ومن تبعهم على الهدى إلى يوم ينقطع كل مُلْكٍ، عدا مُلك الواحد القهار.
أما بعد: فإن الإنسان تتقاذفه الحياة الدنيا بين النصب في طلب رزقه ومعيشته، والراحة في بيته وعند زوجته، فيأخذ عمله من وقته نصيبا، ونومه يأخذ نصيبا، وراحته تأخذ نصيبا، وإذا سألته لم خلقت؟ سيجيبك بلا تردد: لطاعة الله. وتسأله ما نصيب ما خلقت له من وقتك؟ وما نصيب ما خلقه الله لك من وقتك؟ حينها ينطق الجواب الذي يستطيع كثير من الناس البوح به، ولا الإفصاح عنه، وهو ما لا يرضاه العاقل العارف بأن وراءه يوما ثقيلا!
أيها العقلاء!
إن انشغالنا بأعمالنا، وترفيه أنفسنا، وتغذية أبنائنا وأزواجنا، يجعل اللبيب يسهو، فإذا أبصر نفسه، فإذا هو لم يراوح مكانه، فلم يستزد من طاعة، ولم يحصل من علم، حتى إذا أتاه اليقين تفكر فندم، وتبصر ولكن تحسر.
إنها دعوة - أيها المسلمون - إلى أن نعود إلى المنهل العذب، والمورد النمير، إلى القرآن الكريم؛ إذ جعل الله سعادة عباده في كتابه، وبهجة قلوبهم في كلامه، ونور بصائرهم في تلاوة آياته؛ فأقربهم منه منزلة أكثرهم إياه ذكرا، كلام معجز، وقرآن مبهج، وحبل متين، ونور مبين، ينطق بالعظمة، ويُصحب بالبركة، يصدح بالألوهية، وينطق بالربوبية.
لنقف - يا كرام - على سر من أسرار القرآن العظيم، يجعل ذهن القارئ يضع هذا الأمر بين عينيه أثناء تلاوته للقرآن، وسيتعجب منه أشد العجب. إن الله - جل وعلا - قد ذكر في القرآن العظيم أحكاما وحِكما، وقصصا وعبرا، وعقائد وتشريعات، وأخبارا وتنبيهات، وكل ما ذكر في القرآن تجد بينه كلّه رابطا دقيقا، وحبلا وثيقا، ولنتأمل شيئا من الآيات؛ لنستظهر هذا السر! لننظر في الآيات التي تتحدث عن تغيير القبلة، وأحكام الصلاة، وهي مسألة فقهية، سنجد أن القرآن ينبهنا أن المقصد الأسنى من ذكر هذه الحادثة التاريخية، هو اختبار النفوس في مدى استسلامها لأمر الله، ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [البقرة: 143]، وآيات القصاص تختم بتقوى الله، ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179]، وآيات الصيام كذلك، ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، ولما ذكر الله - تعالى - مناسك الحج وأعمالها وشعائرها، ووصل إلى لحظة اختتام هذه المناسك وانقضائها، أعاد الأمر مجددا لربط النفوس بالله، وإحياء حضور الله في القلوب ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 200]، والإنسان في دنياه بين حالين، حال الأمن، وحال الخوف، ففي حال الخوف يؤمر بالصلاة التي تسمى صلاة الخوف، وحين يزول خوفه ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 239]، والإنسان لا يخرج عن حال السلم أو الحرب وفيهما يأتي التنبيه على المقصد العظيم، وهو التذكير بالله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45]؛ فربط حالهم في القتال بأمر الله، بل وحين ذَكَرَ الله - جل وعلا - ابن ءادم حين يعصيه، جعل باب الرجوع إليه مربوطا بذكر الله ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ ﴾ [آل عمران: 135]، بل وأدق من هذا، فإن الإنسان لا يعدو أن يكون قائما أو جالسا أو مضطجعا، وفي هذه الأحوال كلها ربط القرآن الكريم حال الإنسان بالله ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران: 191]. أيُّ تعلقٍ بالله؟ وأي نفوس معمورة بربها أكثر من هذه الصور المشرقة؟ نفوس مملوءة بربها ومولاها لا تغفل عن استحضار عظمته، والتأله له لحظة واحدة! ولما ذكر الله الصلاة في سورة "طه" أشار إلى غاية تغيب عن بال الكثيرين من المصلين، فضلا عمن دونهم، فربما يتحدث الواحد عن عظمة الصلاة، وأنها الركن الثاني في الإسلام، وعما سوى ذلك، وينسى سبب تشريع الصلاة، وأنها مكان لاستحضار قرب الله وذكره؛ ولذا قال سبحانه: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]، هكذا بكل وضوح، يقيم المسلم صلاته؛ ليذكر الله - جل وعلا - ويعظمه. والحدث العظيم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ويهود بني النضير، يستعينهم في عقلٍ أصابه. فقالوا: نعم. اجلس حتى نطعمك أو نعطيك الذي تسألنا، فجلس، فقال حييّ بن أخطب لأصحابه: لا ترونه أقرب منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه. ولا ترون شرّاً أبداً. فجاؤوا إلى رحى عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم، حتى جاء جبريل فأقامه من ثمت - أي: من مكانه". فحتى في هذه القصة وغيرها يستثير القرآن ذكريات الصحابة؛ ليرتفع بالقلوب إلى مولاه الذي حرسهم وحرس نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فيقول - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [المائدة: 11]. أيها المؤمنون! وإذا نظرنا إلى القرآن وهو يحدثنا عن المصائب التي تصيب الإنسان، ورغم أن الله شرع لنا اتخاذ الأسباب، إلا أنه يربط الفؤاد بالله - سبحانه - وهو يصارع البلاء ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17].
بل إن القرآن يصل النفوس بالله بطريقة فريدة، وهي تنويع أسماء الله وصفاته في موطن واحد؛ لتتعدد الأمور التي يتعلق فيها العبد بالله، ولنقرأ آخر سورة من القرآن ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1 - 3]، فيأمر الله عباده أن يستعيذوا به بمقتضى ربوبيته، فإذا فعلوا ذلك انفتح على قلوبهم مشهد آخر، وهو الاستعاذة به بمقتضى ملكه، فإذا تشبعت قلوبهم بذلك، استعاذوا به - سبحانه - بمقتضى ألوهيته. أيها الأحبة! إذا قرأتم القرآن في قادم الأيام والليالي، فاستحضروا مراد الله - جل جلاله - في الآيات التي تقرؤونها، فإن القرآن من مفتتحه إلى مختتمه يوجه العباد إلى التعلق بالله، واستحضار عظمته، وقدره حق قدره، وعمارة النفوس به، وإذا تشبع قلب قارئ القرآن بهذه الحقائق، أثمرت له في نفسه عجائب الإيمان، وأصبح لا يساكن قلبه غير الله - جل جلاله -، وبرأ قلبه من الحول والقوة إلا بالله، وصار ينزل به حاجاته، ولهذا قال بعض السلف:" من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله". ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه -:"فإن القلب بيت الإيمان بالله تعالى ومعرفته ومحبته".اهـ. فما أقرب الساعة التي سيسألنا الله فيها جميعا ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ [المؤمنون: 66]، فبم ستجيب ربك سبحانه وتعالى؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].
التعليقات