عناصر الخطبة
1/ اتباع الهوى كلّه شرٌّ مذموم 2/ لا إذعان لحكم الله وشرعه إلا بمخالفة هوى النفس 3/ محاربة الإسلام في العصبية الجاهلية 4/ العصبية المشروعة 5/ النهي عن العصبية والولاء المطلق للقبيلة 6/ التفاضل والخيرية بميزان الإسلام 7/ حارب الإسلام العصبية القبلية ولم يحارب الانتماء إليها 8/ حقوق القبائل والعائلات على الإنساناهداف الخطبة
اقتباس
لقد جاء الإسلام والناس قبائلُ متناحرةٌ، يوالون على القبيلة ويعادون، فألف بين قلوبهم وأذهب عنهم رجس الشيطان، وشرع لهم ولاءً هو خير لهم في دنياهم وآخرتهم، فكان سلامًا وسلمًا على أنفسهم وأهليهم، وانتظمهم إخوةً متحابين متآلفين، فكانت نعمةً خُلد ذكرها في القرآن ..
أما بعد: فإن اتباع الهوى كلّه شرٌّ مذموم، ليس منه شيء محمودٌ ولا مأذون فيه، وكل من لم يستجب للحق بعدما تبين فهو متبعٌ لهواه؛ لأن الله سبحانه يقول: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: 50]، ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"، لا تبعًا لما تشتهيه نفسه وترغب.
ولا يكون الإذعان لحكم الله وشرعه إلا بمخالفة هوى النفس، ولذا أثنى الله على المؤمنين الصادقين بقوله: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور: 51].
والمسألة هنا لا تخص القضايا التي يترافع فيها الناس إلى مجالس القضاء، ولكنها تعم كل قضية تتنازعها أهواء الناس وآراؤهم، ولا ينقطع اتباع الهوى في هذا التنازع إلا بالرد إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: (فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59].
ومن المسائل التي لا يزال كثير من الناس يتنازعون فيها بأهوائهم، ويردون فيها الحق بعد ما تبين مسألةُ العصبية الجاهلية، من قبلية وإقليمية وعرقية.
أيها الأحبة: ليست هذه العصبيات من المسائل المشكلة التي اختلف فيها العلماء، وليست من المسائل التي يكون تركها من قبيل الورع والتحوط، فلا يلام من وقع في لوثتها؛ ولكنها كبيرة من الكبائر في كثير من صورها، وهي بكل صورها جاهليةٌ من لوثات الجاهلية الأولى.
وهذه العصبية الجاهلية لم يتوانَ الإسلام في محاربتها، ولم يداهنها في بادئ أمره، ولا في منتهاه، بل حاربها في أول ما حارب من مسائل الجاهلية؛ لأنها تناقض الولاء الذي دعا الناسَ إليه، والذي لا قيام لدولته بدونه، هذه العصبيات تناقض أصلَ الولاء أو كماله؛ لأنها تجعل للقبيلة أو للإقليم ولاءً خاصًّا يوالي عليه الناسُ ويعادون، وبه يفاخرون غيرهم ويستحقرون.
وبهذا الولاء البغيض يحابون أهله، ويفضلونهم على غيرهم، ويؤثرونهم على غيرهم فيما الناس شركاء فيه.
ويجعلون هذا الولاء معقدًا للتناصر ولو بالباطل، ينصرون أبناء عشيرتهم أو إقليمهم، وإن كانوا هم الظالمين.
لقد جاء الإسلام والناس قبائلُ متناحرةٌ، يوالون على القبيلة ويعادون، فألف بين قلوبهم وأذهب عنهم رجس الشيطان، وشرع لهم ولاءً هو خير لهم في دنياهم وآخرتهم، فكان سلامًا وسلمًا على أنفسهم وأهليهم، وانتظمهم إخوةً متحابين متآلفين، فكانت نعمةً خُلد ذكرها في القرآن: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].
وقال سبحانه: (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 62- 63].
إن الولاء الذي جاء به الإسلام وفرضه على أهله هو أرحم لهم من كل ولاء يتوالون عليه، وهو الولاء الذي يستحقون به الاستعلاء على غيرهم وإظهار العزة عليهم؛ لأنهم هم المسلمون وغيرهم الكافرون، وكل مسلم وإن لم يكن في قلبه إلا مثقال حبة من إيمان فهو أعز وأعلى وأشرف عند الله وعند عباده المؤمنين من ملء الأرض من أمثالهم من الكافرين.
لقد جاء الإسلام بعصبية جديدة نسخت كل عصبية، وهي عصبية مشروعة موافقة لصريح الشرع وصحيح العقل؛ لأنها عصبية مهذبة لا تشابه عصبيةً من العصبيات الجاهلية، ولأنها عصبية لا تتوجه إلا على أعداء الإسلام.
إنها عصبية أوسع للمسلمين من كل عصبية، فهي تسع المسلمين جميعًا، عربيّهم وأعجميهم، غنيّهم وفقيرهم، ذكرهم وأنثاهم، لا تفرق بين قبيلة وقبيلة، ولا بين عِرق وعرق.
هي عصبية يستطيع كل أحد أن ينضم إليها فتحوطه دائرتها، بخلاف عصبيات الجاهلية من قبلية وعرقية وإقليمية التي تفرّق الناس بما لا اختيار لهم فيه، وهل رأيتم أحدًا يختار قبيلته أو إقليمه أو عِرقَه؟
عصبية الإسلام هي سلام لا تضر غير أهلها شيئًا ولو كان أكفر كافر؛ ذلك أنها عصبية هذبها الإسلام فمنع فيها النصرة بالظلم، فلا ينصر مسلم على كافر بالظلم من أجل أنه مسلم، بل تجب نصرة الكافر على المسلم ورد مظلمته إذا ناله المسلم بظلم وعدوان.
وهي عصبية تعامل الآخرين بالعدل والإحسان والبر؛ إلا أن يكون محاربًا فليس له إلا المعاملة بالمثل من غير ظلم.
وفي العصبية الإسلامية تناصر؛ لكنه على الحق وبالعدل، فهذّب الرسول صلى الله عليه وسلم مفهوم النصرة الذي كان سائدًا بين القبائل، فقال: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ فقال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصرُه".
فمن قال: إن الإسلام نقل العرب أو الناس من عصبية إلى عصبية جديدة ترسّخ للعصبيات وتُحييها، فقوله مردود عليه بما تقدم، من كونها عصبية مهذبة راقية.
أيها الأحبة المتحابون بجلال الله: لقد اختلف الناس كثيرًا في مسائل من التفضيل بين الأجناس، لكن هذا الاختلاف مهما امتد واشتد فلا يسوغ التعامي أو التهوين مما نهى الكتاب والسنة عنه بتصريح لا يحتمل الاختلاف، ولا يعنينا في شأن هذه العصبيات إلا إنكارُ ما فيها من الممارسات التي نهى الشرع عنها نهيًا صريحًا. فلندعْ عنا كل هذا الجدل العقيم، ولنجعل هوى نفوسنا تبعًا لما في صريح الكتاب والسنة.
وهذه جملة نصوص مما ورد في هذا الشأن: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13]، وهذه آية محكمة لا يرد عليها النسخ؛ لأنها خبرٌ وليست بأمر.
ولم يقل الله جعلناكم.... لتفاخروا، أو ليتعالى بعضكم على بعض ويُحقِّر بعضكم بعضًا؛ ولكن: لتعارفوا: أي لتعرفوا أنسابكم، ثم قطعت الآيةُ الطريق أن يكون التعارفَ سببًا للتفاخر، فقال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
وخطب صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: "يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وان أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى".
وقال صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان، إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة، فقتل فقِتلة جاهلية".
ولقد كان صلى الله عليه وسلم أفضل البشر جميعًا، وأكرمهم عند الله، فما زاده ذلك إلا تواضعًا وبُعدًا عن التفاخر، وعن استثناء أهله وعشيرته في تحكيم حدود الله وشرعه، وقال لكل قرابته: "أنقذوا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا".
وقال: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"، وقال صلى الله عليه وسلم قولته الشهيرة: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر".
فأولى ألا يفخر أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم بقبيلته ولا ببلده ولا بقومه، وما أجرأ من يفعل ذلك وهو لا يبلغ من شرف النبي صلى الله عليه وسلم وفضله مثقال ذرة من عشر معشار فضله صلى الله عليه وسلم.
إنما التفاضل والخيرية بميزان الإسلام، ومن جعل نفسه خيرًا من غيره بغير ميزان الدين والتقوى، فقد اقتدى بفرعون وإبليس من قبله، ففرعون قال مفضلاً نفسه على موسى عليه السلام: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف: 52]، وقال إبليس مفضلاً نفسه على آدم عليه السلام: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف: 12].
بارك الله
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن ذمَ العصبيات الجاهلية من قبلية وقومية وغيرها، لا تجيز لأحدٍ أن يطعن في أحساب الناس وأنسابهم ولو بقصد محاربة هذه العصبيات، والذين يمارسون هذا لا يحسب فعلهم إلا من ردة الفعل التي يغيب فيها منطق العقل والشرع.
ليعلم هؤلاء أن الإسلام إنما حارب العصبية القبلية، ولم يحارب الانتماء إليها، ولم يغير من أسماء الناس ولم يُعَمِّ عليهم أحسابهم وأنسابهم بحجة وأد العصبيات، كيف وهو قد حض على صلة الرحم!!
إن ذم هذه العصبيات لا يحرّم على مسلمٍ أن يعتني بمعرفة نسبه وبطون قبيلته وأخبارِها وتاريخِها، بل إن التعرفَ على ذلك مشروع مندوب إليه إذا كان سبيلاً متخذًا لصلة الرحم وتفقد أحوالهم.
وليعلم المغالون في محاربة العصبية القبيلة أن من خصال الجاهلية كذلك الطعن في الأنساب، وهي كبيرة من كالكبائر، قال صلى الله عليه وسلم: "أربع من أمتي من أمر الجاهلية؛ لا يتركوهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة".
اللهم أعزنا بالإسلام وأعز الإسلامَ بنا، وأغننا بعز الإسلام عن الاعتزاز بغيره أو التفاخر بعصبيات الجاهلية.
التعليقات