عناصر الخطبة
1/ ماهيَّة العدل 2/ كيفية تحقيق مقامات العدل 3/ منزلة العدل 4/ نماذج للعدل تضيء الطريق 5/ من فقه الاختلاف 6/ آثار العدل 7/ السبيل إلى العدلاهداف الخطبة
اقتباس
إنَّ العدلَ سمةٌ مميزةٌ لشريعتِنا عاشَ في كنفِها البَرُّ والفاجرُ، والمسلمُ والكافرُ، كلُّ هؤلاء بالعدلِ يُحكمونَ ولا يُظلمون، حتى وإنْ أبغَضْنَا الكافرَ فنحن مأمورونَ بالعدل معه، ذلك توجيه ربِّنا في كتابه العزيز: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ..
الحمدُ لله ربِّ العالمين، أمرَ بالعدلِ والإحسانِ، ونهى عن الفحشاء والمنكرِ والبغي يعظكم لعلَّكم تذكَّرون. وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، حَكمٌ عدلٌ ولا يظلمُ ربُّك أحداً، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، جاءه الوحيُ من ربّه بالعدل، فقام به في نفسِه ومع الناس من حولِه فشاعَ في الكون كلِّه العدلُ بعد الظلمِ، والإنصافُ بدل الإجحافِ.
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان:33]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
عبادَ الله: كلُّنا يُحبُّ العدلَ ويرغبُ أن يُعامَلَ به، ولكننا نخطئُ أحياناً في التعاملِ مع غيرِنا بالعدل، فنظلمُ ونعتدي ونبخسُ الناسُ أشياءَهم، بل قد نظلمُ أنفسَنا، وقد نشعر بذلك أو لا نشعرُ.
فما هو العدلُ؟ وكيف يكون مع النفسِ، ومع الناسِ، ومع اللهِ؟ ما العدلُ في القول؟ وما العدلُ في الفعلِ؟ لماذا نظلمُ؟ وما السبيلُ للعدلِ؟ وكيف نعدلُ مع الصديقِ والعدوِّ، والقريبِ والبعيدِ؟ بل ومع المسلم والكافرِ؟ ما هي آثارُ العدلِ؟ وماذا من نماذجِ العدلِ تضيءُ لنا الطريقَ؟.
أيها المسلمونَ: بالعدل قامت السماواتُ والأرضُ، وبالعدلِ أمرَ اللهُ، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) [النحل:90]، وأوصى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام:152]، وبالعدل ألزم ربُّنا في التحاكم والحكم: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء:58].
إنَّ العدلَ سمةٌ مميزةٌ لشريعتِنا عاشَ في كنفِها البَرُّ والفاجرُ، والمسلمُ والكافرُ، كلُّ هؤلاء بالعدلِ يُحكمونَ ولا يُظلمون، حتى وإن أبغضنا الكافرَ فنحن مأمورونَ بالعدل معه، ذلك توجيه ربِّنا في كتابه العزيز: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة:8].
قال ابنُ تيميةَ -رحمَه اللهُ-: "وهذه الآيةُ نزلت بسببِ بُغضهم للكفارِ، وهو بُغضٌ مأمورٌ به، فإذا كان البغضُ الذي أمرَ اللهُ به قد نُهيَ صاحبُه أن يَظلمَ من أبغضَه، فكيف في بُغضِ مسلمٍ بتأويلٍ وشبهةٍ أو بهوى نفس؟ فهو أحقُّ أن لا يُظلم، بل يُعدل عليه".
إخوةَ الإسلام: ونحنُ مأمورونَ بالعدل مع ربِّنا، ومع أنفسِنا ومع الناس ممن حولَنا؛ فكيف نحققُ هذه المقاماتِ الثلاث مع العدلِ؟ قال العلماءُ: أما العدلُ بين العبد وربِّه فبامتثالِ أوامِره واجتنابِ نواهِيه، وبين العبدِ وبين نفسِه فبمزيدِ الطاعاتِ وتوقِّي الشُّبهاتِ والشَّهواتِ، وبين العبد وبين غيره بالإنصاف.
يا أخا الإيمانِ: ألستَ تُحبُّ من الآخرين أن ينصفوكَ؟ فعلام تظلمهم ولا تعدلُ معهم؟ أولستَ تشيدُ بالعدلِ وتمدحُ المنصفينَ؟ فكيف تظلمُ وتجورُ وتتجاوزُ وتبخس؟.
إن العدلَ مؤشرٌ على سموِّ النفس، ومعالي الأخلاق، وكم نتحدثُ بألسنتنا عن العدلِ؛ ولكن الامتحانَ في المعاملةِ والأخلاقَ تكذبُ المرءَ أو تصدقه فيما ادّعاه!.
لقد فاقَ المسلمون في تاريخنا المجيدِ غيرَهم في العدل، وتجاوزوا بعدلِهم أهلَ الملةِ من المسلمين إلى أهلِ الذمةِ من اليهود والنصارى، ويُذكر أن عمرَ بنَ عبد العزيز -رحمه اللهُ- كتب إلى واليهِ على البصرةِ يقول له:" ثم انظر مَن قِبَلَكَ من أهل الذمةِ قد كَبُرتْ سِنُّه، وضعُفت قوتُه، وولَّت عنه المكاسبُ، فأجْرِ عليه من بيتِ مالِ المسلمين ما يُصلحُه، وذلك أنه بلغني أن أميرَ المؤمنين عمرَ -رضي الله عنه- مرّ بشيخ من أهلِ الذمةِ يسألُ على أبواب الناسِ، فقال: ما أنصفناك، أن كُنّا أخذنا منك الجزيةَ في شبيبتك ثم ضيَّعناك في كِبرك، ثم أجرى عليه من بيتِ المال ما يصلحه". اهـ.
فإذا أنصفَ أسلافُنا أهلَ الذمة، أفنعجزُ نحن عن إنصافِ أهلِ الملَّةِ؟ إن في حياتنا ممارساتٍ خاطئةً لا تستقيمُ مع العدل، ولا تسيرُ مع الإنصاف، ففي الخصوماتِ يظلم بعضُنا خصمَه، ولربما أخذ حقاً ليس له، ولكن بقوة حجتِه وكذبه أو بشراءِ ذممٍ وشهداءِ زورٍ، وويل لمن اقتطع حقّ غيرِه بدون حقٍّ! وما زالَ رسولُ الهدى -صلى الله عليه وسلم- يُحذرُ من شهادةِ الزور وقولِ الزور، حتى تمنّى الصحابةُ -رضي الله عنهم- لو سكت!.
وفي تقويمنا للرجالِ المخالفينَ لنا في الرأي يقعُ ظلمٌ ونفقدُ العدلَ والإنصافَ، والويلُ لمن اتَّهم رجلاً بما ليس فيه، أو لبَّسه لبوساً لم يلبسْه! وإذا كانت أموالُ إخواننا علينا حرام إلا بحقِّها، فكذلك أعراضُهم حرامٌ علينا هتكُها بغير حقٍّ، "كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ: دمُه ومالُه وعرضُه".
عبادَ الله: ونحن مأمورون بالعدلِ مع أولادنا والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقول: "اتقوا اللهَ واعدِلوا في أولادِكُم" متفق عليه.
فهل نعدلُ بينهم في المنِحَ والأُعطياتِ، وأساليبِ التعاملِ في الحياة؟ أم يوجدُ فينا من يُغدِقُ على بعضِ الأولادِ ويحرمُ إخواناً لهم آخرين، وكأنهم ليسوا من بَنيهِ؟ أفلا يتقِ اللهَ أولئك الآباءُ الجائرون؟.
وقد جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ليُشهده على صدقةٍ له لبعض بَنيهِ، فقال له: "أفَعَلْتَ هذا بولدِك كلِّهم؟"، قالَ الرجل: لا، فقال الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-: "فلا تُشهدْني إذن، فإني لا أشهدُ على جَوْرٍ"، وفي روايةٍ أنه قال له: "أيسرُّك أن يكونوا إليك في البِرِّ سواءٌ؟"، قال: بلى، قال: "فلا إذن" متفق عليه.
أيها المسلمونَ: ونحن مأمورونَ كذلك بالعدلِ مع أهلنا وأزواجنا، وكم يقعُ على النساء من ظلمِ بعض الرجال! وقد يصلُ الحالُ إلى أن تكونَ المرأةُ كالمعلَّقة، فلا هي مطلقةٌ بإحسانٍ لتبحثَ عن غيرِه، ولا هي مُمسَكةٌ بمعروفٍ فتؤدّى إليها حقوقُها بالعَدلِ والإحسان، وويلٌ للرجلِ يستغلّ قوتَه وقدرتَه فيظلمُ المرأةَ ويبخسُ حقوقَها! والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول لنا جميعاً: "فاتقوا اللهَ في النساءِ، فإنكم أخذتموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستحللتم فُروجَهُنّ بكلمةِ اللهِ" رواه مسلم.
إخوةَ الإسلام: وثمةَ ممارساتٌ خاطئةٌ لا تقومُ على العدلِ والإنصافِ مع زملائنا في العملِ بتفضيلِ بعضِهم على بعضٍ في الأُعطياتِ أو الترقياتِ أو نحوها، ومع مكفولينا في العملِ مع إخواننا الوافدينَ بتحميلِهم في العمل ما لا يطيقون، أو ببَخسِ حقوقِهم حين يعملون.
عبادَ الله: ومن كمالِ شريعتِنا وعدلِ إسلامِنا أنه أمرَ بالعدلِ والإحسان إلى البهائم، فلا تُحَمَّلُ ما لا تطيقُ، ولا تُضربُ فتؤذى بلا حاجةٍ، ولا تُجاعُ حتى يلحقَ ظهرُها ببطنِها.
ومن هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أنه مرّ ببعيرٍ قد لحقَ ظهرُه ببطنِه، فقال: "اتقوا اللهَ في هذه البهائمِ المُعجمةِ، فاركبوها صالحةً، وكُلوها صالحةً".
ومن تحذيراته -صلى الله عليه وسلم- عن ظلمِ البهائمِ والحيواناتِ قولُه: "دخلتِ امرأةٌ النارَ في هِرّةٍ ربطَتْها، فلا هي أطعمَتْها، ولا هي أرسلتها تُرمرِمُ من خشاشِ الأرضِ حتى ماتت هَزْلاً" أخرجه مسلم.
ألا فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ- واعدلوا مع أنفسِكم ومع غيرِكم، فذاك أمرُ اللهِ لنبيِّكم: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الشورى:15].
وتلك وصيتُه إليكم: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام:152].
اللهم إنا نسألكَ العدلَ في أقوالِنا وأفعالِنا، مع أنفسِنا ومع غيرنا.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله جلَّ شأنُه، وتقدَّستْ أسماؤه، ولا إلهَ غيرُه، ولا معبودَ بحقٍّ سواه، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، والداعي إلى رضوانِه صلى الله عليه وعلى إخوانه وآلهِ.
أيها المسلمونَ: صحّ عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- أنه قال: ما في القرآنِ آيةٌ أجمعَ لحلالٍ وحرامٍ، وأمرٍ ونهى من هذه الآية: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [النحل:90].
فهل نأتمرُ بهذه الآيةِ العظيمةِ يا عبدَ الله؟! فنقيمُ حياتَنا على العدلِ، وننهى أنفسَنا عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغي؟.
إن من مظاهِرِ العدلِ قبولَ الحقِّ ممن جاءَ به، فالعِبرةُ بالقولِ لا بالقائل، وفي قصةِ الشيطانِ مع أبي هريرة -رضيَ الله عنه- حين وكَّله الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- بحفظِ زكاةِ رمضانَ، ومجيء الشيطانِ إليه أكثرَ من مرةٍ حتى علّمه أن يقرأَ آيةَ الكرسي إذا أوى إلى فراشِه، وأنه بذلك يكونُ محفوظاً من الله، ولا يقربُهُ شيطانٌ حتى يُصبحَ، وفي هذه القصةِ صدّقَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- القولَ وإن صدرَ من الشيطانِ حيث قال: "أمَا إنه قد صدَقك وهو كذوب" رواه البخاري.
ومن فقهِ هذا الحديثِ وفوائدِه -كما قال ابنُ حجرٍ رحمَه اللهُ- "أن الحكمةَ قد يتلقّاها الفاجرُ فلا ينتفعُ بها، وتُؤخذُ عنه فيُنتفَعُ بها، وأن الكافرَ قد يَصدقُ ببعض ما يَصدقُ ببعض ما يَصدقُ به المؤمنُ ولا يكون بذلك مؤمناً، وبأن الكذّاب قَد يَصدُقُ". اهـ.
وفي هذا الصددِ يُذكرُ من وصايا ابنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- قولُه لرجل قال له: أوصني بكلماتٍ جوامع، فكان مما أوصاه به أن قال:" ومَن أتاكَ بحقٍّ فاقبلْ منه وإن كان بعيداً بغيضاً، ومن أتاك بالباطلِ فاردُدْه وإن كان قريباً حبيباً".
إننا؛ حين نفقدُ هذا الميزانَ في قبولِ الحقِّ قد نرفضُ حقًّا، لأنه جاء من شخصٍ نبغضُه أو لا نهواه، أو لا نرتضي منهجَه بشكلٍ عام، علماً بأن قبولَ الحقِّ الذي جاءَ به لا يعني موافقتَه في كلّ شيءٍ، ولا الرضا عنه فيما يخطئُ فيه.
وقد يضطرنا هذا الخللُ في العدلِ في قبولِ الحقّ ورفضِ الباطل لقبولِ زلّةِ خطأٍ من شخصٍ نُحبُّه ونرتضي منهجَه، علماً بأن رفضَنا لهذه الزلَّةِ والخطأ منه، لا يعني بُغضَه ولا الانتقاصَ من قَدْرِه، ولا رفضَ بقيةِ الحقِّ الذي جاء به.
إنه العدلُ الذي ينبغي أن نأخذَ أنفسَنا به، ونتمنى به أن يُجريَ اللهُ الحقَّ على ألسنتِنا وألسنةِ خصومنا، وكم هو عظيمٌ الإمامُ الشافعيُّ -رحمَه اللهُ- حين قال: "ما ناظرتُ أحداً إلا قلتُ: اللهمّ أجرِ الحقَّ على قلبهِ ولسانِه، فإن كان الحقُّ معي اتبعَني، وإن كان الحقُّ معه اتبعتُه".
وأين هذا يا مسلمونَ ممن يتمنونَ انحرافَ خصومِهم، أو يرمون مخالِفيهم بالباطل، ويتهمونهم، وينفِّرونَ الناسَ منهم، وهم مسلمون؟ بل قد يكونون علماءَ، وقد يكون ما معهم من الحقِّ أكثرَ من خصومِهم! فإلى اللهِ المشتكى!.
وكم يتلاعبُ الشيطانُ أحياناً ببعض المحبينَ! وكم يُخطئُ هؤلاء وينسفونَ قواعدَ العدلِ وهم يَحسبونَ أنهم يُحسنونَ صنعاً! وكم نظلمُ أنفسَنا ونظلمُ غيرَنا بتصنيف هذا، وتجريح ذاك، واتهام ثالثٍ، وإشعالِ معاركَ وهميةٍ بين نفرٍ من المسلمين! الكاسبُ الأولُ والأخيرُ منها هم الأعداءُ المتربِّصون، والخاسرُ الأكبرُ هم المعتدون الفاقدون للعدلِ والإنصاف. وإن كانت الخسارةُ تَعمُّ والفتنةُ تفعُ على المسلمين!.
وأين نحنُ من هذا الموقفِ البديع والعدلِ حتى مع غير المسلمين يقدمه لنا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ بسلوكه العمليِّ، فهو حين سعى بإطلاق سراحِ أسرى المسلمين من التتارِ أصرَّ كذلك على إطلاق سراحِ المأسورينَ من أهلِ الذمةِ قائلاً لمسؤول التتر: بَل جميع من معك من اليهودِ والنصارى الذين هم أهلُ ذمّتِنا، فإنّا نفكُّهم ولا ندعُ أسيراً لا من أهلِ الملَّةِ ولا من أهلِ الذمة.
فإذا أنصفَ هذا العالمُ الربانِيُّ وعدَلَ مع غير المسلمينَ، وكان سبباً لفكّ أسرِهم، فماذا يقولُ من يسعى للوقيعةِ بإخوانِه المسلمين ويتمنّى الضُّرَّ لهم بشكلٍ أو بآخر؟!.
إن للعدلِ -يا عبادَ اللهِ- آثاراً إيجابيةً على الفردِ والمجتمعِ والأمة، وفي الدنيا والآخرة يَشهدُها القائمونَ بالعدل، وتُنبئُ عنها تجاربُ الأفراد والأمم، وقد قال العالِمون: إن الله يقيمُ الدولةَ العادلةَ وإن كانت كافرةً، ولا يقيمُ الظالمةَ وإن كانت مسلمةً.
عبادَ الله: ويبقى السؤالُ الأخيرُ: ما السبيل للعدل؟ وكيف نسلك بأنفسِنا للعدل؟ إن تأمُّلَ آياتِ الكتابِ العزيزِ في العدلِ كفيلةٌ بأن تربّي النفوسَ على العدل، وكذا ما في هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- من نماذج العدلِ كلُّها نصوصٌ تأخذُ بالنفوسِ نحوَ العدل، ومساكينُ من يقرؤونَ القرآنَ، ثم هم يظنون أن المخاطَبَ غيرُهم!.
ومما يُسهمُ في العدلِ أن يتذكرَ المسلمُ أن العدلَ سببٌ للسعادةِ في الدنيا والآخرة، وأن الظلمَ ظلماتٌ في الدنيا والآخرة، وأن الظالمَ قد تُعجَّلُ له العقوبةُ في الدنيا، وقد ينتصرُ المظلومُ عليه وهم أحياء.
ألا يظن المفرطونَ في العدلِ أنهم مبعوثونَ ليومٍ عظيم؟ ألا يخشى الظالمونَ المعتدونَ يوماً عبوساً قمطريراً؟ أم تراهم ينسونَ ويذرونَ وراءهم يوماً ثقيلاً؟.
إن من دواعي العدل أن يشعرَ المرءُ أنه يحبُّ من الناسِ أن يأتوا إليه ما أحبّ، أفلا يأتي إليهم بالذي يحبون؟! ألسنا جميعاً نكرهُ من يعتدي على أموالنا أو أعراضِنا، أو يخدشَ في كرامتِنا، أو يشكِّك في مصداقيتنا ظاهراً وتُوكَل سرائرنا إلى اللهِ، فلماذا نكره ذلك لأنفسنا ولا نكرهه للآخرين؟.
أيها الناسُ: ورياضةُ النفس وتدريبُها على العدلِ ممكنةٌ، وما زال العقلاءُ بأنفسِهم حتى ألجموها بلجامِ العدلِ، وروّضوها على المعالي، وأدَّبوها مرةً إثرَ مرةٍ، حتى غدا العدلُ سجيّةً لها، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69].
وكُلنا يعلمُ أن أحدَ السبعةِ الذين يُظلهمُ اللهُ في ظلِّه يَومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه إمامٌ عادلٌ.
وهكذا -إخوةَ الإِسلام- نروِّضُ أنفسَنا على العدلِ ونحنُ نرجو ثوابَ اللهِ ونخشى عقابَه، وما أسعدَ من يسهمونَ في ملءِ الأرض عدلاً! وما أنكدَ حياةَ من يسعونَ لملئها جوراً!.
اللهم ارزقنا العدلَ في أقوالِنا وأفعالِنا مع مَن أحببنا، ومَع مَن لم نُحب.
التعليقات