عناصر الخطبة
1/الغاية من خلق الخلق 2/بعض صور عبودية الدواب لله -تعالى- 3/بعض صور عبودية الشجر والنبات لله -تعالى- 4/بعض صور عبودية الجبال لله -تعالى- 5/عبودية الريح والسماوات والأرض لله -تعالى-اهداف الخطبة
اقتباس
إن تحقيق العبودية لله، مطلب شرعي لابد من تحقيقه، بل إن الله -عز وجل- خلق الكائنات كلها لعبادته، من إنس وجن، وملائكة وحيوان، ونبات وجماد، وغيرها من الموجودات، فطرها سبحانه على توحيده، والاعتراف بإلوهيته، والإقرار بفقرها، واحتياجها وخضوعها لـ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا …
أما بعد:
قال الله -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56].
إن تحقيق العبودية لله، مطلب شرعي لابد من تحقيقه، بل إن الله -عز وجل- خلق الكائنات كلها لعبادته، من إنس وجن، وملائكة وحيوان، ونبات وجماد، وغيرها من الموجودات، فطرها سبحانه على توحيده، والاعتراف بإلوهيته، والإقرار بفقرها، واحتياجها وخضوعها له جل وعلا.
إلا إننا نجد العجب من أمر هذا الإنسان من انصرافه، وبعده عن العبودية الحقة لله، وانشغاله بملذات الدنيا وشهواتها، ولذا فقد كان هذا الإنسان في مجموعة أقل الكائنات عبودية، وأكثرها معصية، وأشدها استكبارا على مقام العبودية: (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)[عبس: 17].
إن الغاية من دعوة الرسل جميعاً لأقوامهم هي: العبودية: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ)[النحل: 36].
فموسى -عليه السلام- كان أول ما أوحى الله -تعالى- به إليه: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)[طـه: 14].
وأول ما نطق به عيسى -عليه السلام- أمام قومه: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)[مريم: 36].
ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- قال الله -تعالى- له: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99].
فكان عليه الصلاة والسلام قمة المثال الذي يقتدى به في تحقيق العبودية، فوصل إلى أعلى مراتبها، وأسمى منازلها، فكان أحق من يوصف بهذا الوصف وأهلها دون غيره من البشر.
نعود إلى موضوع هذا الإنسان وعبوديته لله -عز وجل-، وسيكون لنا معه حديث خاص، لكن قبله لنستعرض كائنات ومخلوقات أخرى غير الإنسان، وما مدى قربها وبعدها من تلك العبودية؟
عن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه ليس من شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن والأنس".
قال الله -تعالى-: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)[الإسراء: 44].
فلنبدأ بعرض بعض الصور من عبودية الحيوانات والدواب: أن هذه الحيوانات لها عبوديات تخصها، تشترك في بعضها مع الإنسان في الاسم، وتختلف في الكيفية، وكثير من هذه الحيوانات تقدم عبوديتها لخالقها أحسن من كثير من البشر، فهذه الدواب تسجد لربها: (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ)[النحل: 49].
ومن عبوديتها: أن هذه الدواب تخاف من يوم الجمعة؛ لأنها تعلم بأن الساعة تقوم يوم الجمعة، وكثير من الإنس في غفلة؛ روى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبى هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من دابة إلا وهي مصيخة -أي منصتة ومستمعة- يوم الجمعة خشية أن تقوم الساعة".
ومن عجيب عبودية هذه الدواب لربها: أنها تستريح إذا مات رجل فاجر في هذه الأرض؛ روى البخاري في صحيحه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر عليه جنازة، فقال: "مستريح ومستراح منه" فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: "إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وآذاها إلى رحمة الله -تعالى-، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب".
إن الدواب تنـزعج من وجود الفاجر في الأرض؛ لأنه مبارز لله -عز وجل-، لذا فإذا مات الفاجر، استراحت منه البهائم!.
سبحان الله! حتى البهائم والدواب تميز بين أولياء الله وأعداء الله، حتى الدواب تعرف أولئك المحاربين للدين، تعرف أولئك المتنكبين لشريعة الله، أقول مرة أخرى وكثير من الإنس في غفلة.
أيها المسلمون: فمن هذه الدواب والحيوانات: البقرة، روى البخاري في صحيحه: بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث، فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم، فقال عليه الصلاة والسلام: "فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر" فالبقرة تكلمت بأمر الله -عز وجل-، إلى هذا الرجل لتفهمه، سوء استخدامه لها، وأن هذا يتنافى مع العبودية لله، وأنها لا تضرب بدون مبرر، وأنها إنما خلقت للحرث ونحوه، وأنها تؤدي العبودية التي أمرت بها.
ومن عبوديات الدواب: الحيتان، روى ابن ماجة قوله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليستغفر للعالم من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر".
وعند الترمذي: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير".
إن الحيتان في البحر والنملة في جحرها، يقدرون فضل العلماء والدعاة والمصلحين، ومعلمي الناس الخير.
ورواية ابن ماجة تشعر بأن كل الكائنات علويها وسفليها، حيوانها ونباتها وجمادها، تقدر منـزلة أهل العلم وأهل الدعوة، والحريصين على مصالح الناس، ومعلمي الناس الخير، فهي تستغفر لهم.
وسبحان الله! وكثير من الإنس في غفلة عن علمائهم ودعاتهم ومشايخهم، ومعلمي الناس الخير.
ومن صور عبودية الدواب العجيبة: عبودية الذئب، روى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبى سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: عدا الذئب على شاة فأخذها فطلب الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، قال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقا ساقه الله إلي؟ فقال: يا عجبي ذئب مقع على ذنبه يكلمني كلام الإنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد -صلى الله عليه وسلم- بيثرب، يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، قال: فاقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاخبره، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنودي الصلاة جامعة، ثم خرج فقال للراعي: أخبرهم، فأخبرهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صدق والذي نفسي بيده".
ومن عبوديات الدواب: عبودية الديك، وأنه يوقظ للصلاة، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أحمد: "لا تسبوا الديك، فإنه يدعو إلى الصلاة".
وفي رواية أبى داود: "فإنه يوقظ للصلاة".
إذا كان سب الديك لا يجوز؛ لأنه يأمر بالمعروف، ويدعو إلى الصلاة، فكيف بالذي يسب من يدعو إلى الصلاة من أصحاب الهيئات؟
إن التعرض لديك لا يجوز؛ لأنه يدعو للصلاة، وهذا أمر معروف، فكيف بالتعرض لغير الديك ممن يدعو للصلاة ولغيرها من أبواب المعروف، وينهى عن أبواب المنكر المختلفة والمنتشرة في مجتمعات المسلمين، والتي لا عد لها ولا حصر؟
لا شك بأن التعرض لهؤلاء أقبح وأبغض عند الله -عز وجل-.
أيها المسلمون: أما عبوديات النباتات، فأمر عجب، فهذا الشجر، الذي نص الله -جل وتعالى- بسجوده له، بقوله: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ)[الرحمن: 6].
والأعجب حديث ابن عباس في سنن ابن ماجة وسنده صحيح: أنه قال: كنت عند النبي -عليه الصلاة والسلام- فأتاه رجل، فقال: "إني رأيت البارحة فيما يرى النائم كأني أصلي إلى شجرة فقرأت السجدة، فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها، تقول: اللهم احطط عني بها وزرا، واكتب لي بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، يقول ابن عباس: فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ السجدة، فسجد فسمعته، يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة "
هذا الشجر يسمع الآذان، ويشهد للمؤذن، فعن أبى سعيد الخدري قال: "إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالآذان، فإني سمعت رسول الله -صلى عليه وسلم- يقول: "لا يسمعه جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر إلا شهد له".
إن هذا الشجر يلبي مع تلبية الحاج والمعتمر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من قلب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا".
إن هذا الشجر له في تحقيق عبودية الولاء والبراء للكفرة ولليهود، تحقيق تام، عبودية أحسن بمراحل ممن يتزلفون لليهود، ويطلبون ودهم، ويتقربون منهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله".
وفي رواية ابن ماجة: "إلا الغرقد فإنها من شجرهم لا تنطق".
إن هذا الشجر سينطقه الله -عز وجل-، سيتكلم الشجر عبودية لله، وولاء له وللمسلمين، وبراء من اليهود، حتى الشجر لا يرضى بوجود اليهود، فيريد أن يعجل المسلم بقتله: "يا مسلم، يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله".
فما بالنا لا نكون حتى بمستوى بعض الأشجار تجاه اليهود؟
إن أولئك الغرقديون، أمرهم مفضوح؛ لان العنصر اليهودي منبوذ حتى من الشجر والحجر، لكن عجباً لبعض البشر من الغراقدة -إن صح التعبير- أدنى بكثير من عبوديتهم لربهم من الشجر والحجر.
أما البحر، فله عبوديات عدة، لكن من أعجبها، ما جاء في مسند الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الحديث القدسي عن رب العزة: "ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات يستأذن الله -تعالى- أن ينتضح عليهم، فيكفه الله -عز وجل-".
وفي رواية: "ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه أن يغرق ابن آدم، والملائكة تعاجله وتهلكه والرب -سبحانه وتعالى- يقول: دعوا عبدي".
فيا سبحان الله! البحر يقعر ويغضب، ويستأذن الله في كل ليلة أن يهلك، ويغرق الناس، هل تعلمون بسبب ماذا؟
إنه بسبب معاصي ابن آدم، وعدم تحقيق ابن آدم العبودية المطلوبة منهم، فيعظم على البحر أن يرى ابن آدم، وهو يعصي الله، فيتألم لذلك، ويتمنى هلاك ابن آدم، لكن الله -جل وتعالى- بحلمه وعطفه ورحمته بنا، يقول: دعوا عبدي.
نسأل الله -جل وتعالى- أن يرحم ضعفنا، وأن يجبر نقصنا، وأن يعفو عنا، وأن لا يؤاخذنا بإعمالنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله …
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على ...
أما بعد:
ومن عبوديات الكائنات: عبودية الجبال لله -تعالى-، أما سجودها، ففي قول الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء)[الحـج: 18].
وأما تسبيحها، ففي قول الباري -جل وعلا-: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ)[الأنبياء: 79].
وقوله تعالى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ)[ص: 18].
وأما عن خشية الجبال، فعجب من العجب: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الحشر: 21].
فالجبال مع صلابتها وقسوتها تخشع لله -عز وجل- ومرة أخرى، وكثير من الإنس في غفلة.
اسمع -أخي المسلم- لهذا الكلام الرائع من ابن القيم -رحمه الله-، وهو يتكلم عن عبودية الجبال، فإنه كلام ممتع للغاية، يقول رحمه الله بعدما ذكر حكمة الله -تعالى- في خلق الجبال، قال: "هذا مع أنها تسبح بحمده، وتخشع له، وتسجد وتشفق وتهبط من خشية الله، وهي التي خافت من ربها وفاطرها وخالقها على شدتها، وعظم خلقها من الأمانة إذ عرضها عليه، وأشفقت من حملها، ومنها: الجبل الذي كلم الله عليه موسى كليمه ونجيه، ومنها: الجبل الذي تجلى له ربه فساخ وتدكدك، ومنها: الجبل الذي حبب الله رسوله وأصحابه إليه، وأحبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ومنها: الجبلان اللذان جعلهما الله سورا على نبيه، وجعل الصفا في ذيل أحدهما، والمروة في ذيل الآخر، وشرع لعباده السعي بينهما، وجعله من مناسكهم وتعبداتهم، ومنها: جبل الرحمة المنصوب عليه ميدان عرفات، فلله كم به من ذنب مغفور، وعثرة مقالة، وزلة معفو عنها، وحاجة مقضية.
ثم قال رحمه الله: ومنها: جبل حراء الذي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخلو فيه بربه، وهو الجبل الذي فاض منه النور على أقطار العالم.
فسبحان من اختص برحمته من شاء من الجبال والرجال.
هذا، وإنها لتعلم أن لها موعداً، ويوماً تنسف فيها نسفاً، وتصير كالعهن، فهي مشفقة من هول ذلك الموعد، فهذا حال الجبال، وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتها وخشيتها وتدكدكها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر عنها فاطرها وباريها أنه لو أنزل عليها كلامه لخشعت ولتصدعت من خشية الله.
فيا عجباً من مضغة لحم أقسى من هذه الجبال، تسمع آيات الله تتلى عليها، ويذكر الرب -تعالى- فلا تلين ولا تخشع؟!" أ. هـ كلامه رحمه الله.
ثم هذه الرياح التي نشعر بها، ولا نراها، قد نستغرب من شأنها، حين نعلم أن لها إدراكا خاصا يليق بها، فهي كانت مسخرة لسليمان -عليه السلام-، كما قال تعالى: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ)[ص: 36].
ومن عجيب عبودية هذا المخلوق: أنها هاجت لموت منافق، روى مسلم في صحيحه عن جابر -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من سفر، فلما كان قرب المدينة، هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بعثت هذه الريح لموت منافق" فقدم المدينة، فإذا عظيم من المنافقين قد مات.
فتأمل -يا عبد الله- من هيجان الريح لموت منافق في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا أدري هل منافقو زماننا هذا على دراية بهذا الحديث؟
لا أظن ذلك.
ومن عبوديات الكائنات: عبودية السماوات والأرض، فأولها عرض الأمانة عليهما: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[الأحزاب: 72].
ثم إنهما مطيعان لربهما تمام الطاعة: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)[فصلت: 11].
ومن عجيب عبوديتهما: أنهما لا يرضون بالشرك، فعندما نسب النصارى الولد إلى الله، وقالوا: بأن عيسى ابن الله، فما إن سمعت السماوات والأرض ذلك الافتراء الكاذب حتى كادت تهد هداً، قال عز وجل: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا)[مريم: 90 - 92].
بل والأعجب في عبوديتهما، هو: بكاء السماوات والأرض على فراق المؤمنين الصالحين، قال الله -تعالى-: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ)[الدخان: 29].
إنهما لا يبكيان على الكفار ولا على المنافقين، ولا على المحاربين لشريعة الله، بل يبكيان على فراق المؤمن الصالح لهذه الدنيا.
والأعجب منه: أن الأرض لا تقبل أجساد بعض المنافقين للدفن فيها، فكلما دفنوا لفظتهم، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فعرفوه، قالوا: هذا يكتب لمحمد فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً".
إن المنافقين والعلمانيين على خطر عظيم.
إن هذه الأرض التي نمشي عليها، ونطأها بأقدامنا سيأتي عليها يوماً تحدث أخبارها، وهذا من عبوديتها: بأن فلان ابن فلان فعل كذا وكذا، في يوم كذا وكذا: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) [الزلزلة: 5].
وقد يوحى لها ربها: بأن لا تقبل أجساد أصناف من البشر لجرائم فعلوها على ظهرها، وقد تقبلهم الأرض، فتشتعل عليهم وهم في بطنها، فكما أن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء -وهذه من عبوديتها- فقد يأمرها سبحانه فتفتك ببعض الناس، جزاءً لهم على أعمالهم.
فلينتبه الإنسان من الأرض، وليعمل عليها خيراً، وليجتنب محارم الله، وليحقق عبوديته لمولاه على هذه الأرض، فإن الأرض أيضاً لها عبوديات لابد وأن تؤديها.
اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وأقل عثرتنا، واعف عنا.
اللهم لا تفضحنا في الدنيا، ولا بين يديك، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآنس وحشتنا.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا.
اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان.
التعليقات