عناصر الخطبة
1/ فضل الحديث عن النبي الكريم 2/ حاجة العالم الماسة له 3/ لماذا اختاره الله؟ 4/ إشرافات الوحي أيام النبوة الأولى تربيةً وتوجيها 5/ لفت النظر لأعداء الأمة ولاءً لصاحب الرسالةاهداف الخطبة
اقتباس
ما كان العالم ليعرف الرشد، ولا ليبصر الحق، ولا ليصفّ قدميه على الصراط المستقيم، إلا لمَّا جاءه محمد -عليه الصلاة والسلام-، لقد كانت حاجة الدنيا إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- حاجةَ العين العمياء إلى البصر، حاجة القدم المشلول إلى الحياة والحركة، حاجة الجسد السقيم إلى البُرء والعافية ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: في شهر ربيع الأول سنجتهد في جعل خطب الجمع خلاله حديثا عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، عن سيرته، وشمائله الزاكية، وأمجاده الخاصة والعامة، وعن علاقة الأمَّة به، واستمدادها منه، وعن حاجة العالم إليه، وضرورة تلقيه الهدى والبر والحق والبركة من النبي المبارك العربي المحمَّد، عليه الصلاة والسلام.
ونحن بهذا الحديث نتعرض لفضل الله، فإن الحديث عن النبي الكبير -صلى الله عليه وسلم- ينعش الأفئدة، ويرفع المشاعر، ويرفع المستوى، ويصل النفوس بالله -عز وجل- صلة سمحة زاكية، نحن في هذا العالم محتاجون إليها.
وأبدأ الحديث بالإجابة عن سؤال تلقيته من بين الأوراق التي ترسل إليَّ أحيانا في أعقاب المحاضرات التي القيها بين طلاب الجامعات، لقد جاءني سؤال ووجدته فرصة سانحة للإبانة عن الحقيقة بعد ما قرأته. السؤال هو: ما حاجة العالم إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد الرسالة التي قام بها عيسى -عليه الصلاة والسلام-؟ قلتُ في نفسي: هذا السؤال جاء في إبانه، وكان من الخير أن يعرض علي!.
وأجبت فقلت: إن الناس قبل بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا على نوعين: نوع محروم من هدايات السماء، فهو يتيه في صحراء الحياة هائما على وجهه، لا يعرف ربَّا ولا حَدَّا، وربما قدَّس الأحجار، وعبد الأبقار، وعاش على هذا النحو السفيه الوضيع إلى أن يموت ليتحول ترابا، أو ليكون حطبا لجهنم؛ الله أعلم بمصاير هؤلاء وفق ما أتيح لهم من هدايات، وما عرض لهم في حياتهم من علم أو نور. هذا النوع لا كتاب له، لا يدري شيئا يمكن أن يسمو بالأمِّيين، لتكن تسميتهم ما تكون، فقد كانوا جُهَّالاً حقيقةً.
ونوع آخر يملا الأرض، وهم كتابيون، لكنهم ظلموا أنفسهم، وغشموا وحيهم، وزوروا كتابات الله التي تنزلت عليهم.
ما معنى أن نقرأ لأولئك الكتابيين أن الله تمشَّى في الجنة، وفوجئ بأن آدم -عليه السلام- مختبئاً، قد أكل من الشجرة، وربه لا يدرى، فهو يسأله: كيف أكَلت؟ وكيف خُدِعت؟! ثم يقال في هذه الكتب: إن الله بعد أن خلق آدم ندم على خلق آدم! وبعد أن أغرق الأرض بالطوفان ندم على أن أغرق الأرض! وأنه ظلَّ ليلةً بأكملها يصارع واحدا من عبيده هو يعقوب، وفى نهاية المصارعة أعطاه لقب إسرائيل! وأنه -مع اثنين من الملائكة- دعوا إلى وليمة غداء أقامها إبراهيم لهم فأكل الإله! أيُّ تزوير على صفات الألوهية على هذا النحو؟!.
ثم عند أولئك الكتابيين أن الألوهية "والد" و "ولد"! أو "زوج وصاحبة"! أو كذا وكذا من التُّرَّهَات التي شاعت وانتشرت!.
ما كان العالم ليعرف الرشد، ولا ليبصر الحق، ولا ليصف قدميه على الصراط المستقيم إلا لما جاءه محمد -عليه الصلاة والسلام-، لقد كانت حاجة الدنيا إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- حاجة العين العمياء إلى البصر، حاجة القدم المشلول إلى الحياة والحركة، حاجة الجسد السقيم إلى البُرء والعافية.
إن الذين يسألون عن ما كانت حاجة العالم إلى محمد -عليه الصلاة والسلام- يجب أن يعرفوا أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- بكتابه وسنته رد إلى الدين اعتباره، وأعطى الإنسانية بصيرتها النيرة، فكانت هذه البعثة خيرا للناس أجمعين، ورحمة في رجاء العالمين. ما كان أحوجَ العالم إلى محمد -عليه الصلاة والسلام-!.
إن هذا الإنسان الكبير هو أمل الإنسانية لكي تنقذ من حيرتها، وتأنس من وحشتها، وتحسن عودتها إلى ربها، وتتخلص من الجاهلية الطامة التي وقعت فيها؛ ونحن، عندما نتحدث عن النبي الكبير محمد -عليه الصلاة والسلام- نريد أن نتناول اليوم أطرافا قليلة من السيرة؛ لأن حديثنا -كما قلت لكم، وكما أستعين الله- سيكون خلال هذا الشهر تناولا للسيرة النبوية، وحديثا في الشمائل المحمدية.
النبوة عندنا معشر المسلمين هبة من الله، وليست جهد بشر يصل بعده الى مرتبة النبوة، إن النبوة فضل إلهي أعلى يمنحه الله من أراد من خلقه، وليست نتيجة كدح في ميدان التربية، أو الفلسفة، أو المعاناة النفسية، أو الجهاد الخاص. لا! هي هبة من الله، وليست كسبا. هذه الهبة العليا -بداهة- يتخير الله لها من خلقه مَن هو لها أهل، أي: إن النبوة -بداهة- لا يمكن أن تكون نصيب التافهين، أو المغموصين؛ ولا يصلح لها شخص منطلق الشهوة، أو بليد الفكر، أو ضيق الأفق، أو عطن النفس؛ وهذا الذي أقوله هو معنى قول الله جل شأنه: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) [الأنعام:124].
إن التفاوت بين البشر كبير جدا، فهناك بشر كقمم الجبال، وهناك بشر كأكوام السبخ! الفارق بين البشر من الناحية الفردية فارق واسع جدا، هناك أصحاب عقول كأنها لمح البرق من ذكائها وتألفها، وهناك أصحاب عقول يعييهم أن يعرفوا البديهيات، والكل من أولاد آدم! وعندما يختار الله نبيا فهو يختار من القمم ولا يختار من السفوح. (... أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف:32].
كان هذا الجواب الإلهي لقوم تساءلوا: لم كانت النبوة في ابن عبد الله بن عبد المطلب؟ وهو شاب محدود الثروة، محدود القوة، محدود السلطة؟! ولِمَ تركَت النبوة العُمَد في مكة والطائف، وأصحاب الدولة والصولة في البلدين العظميين؟! (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) فكان الرد الإلهي: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟).
إن مقاييس العظمة عند هؤلاء الجاهلين كانت مقدار ما يملك المرء من نياق، أو أبقار، أو معز وغنم! هذا ميزان العظمة عند بعض الناس، وهو ميزان سخيف، فإن العظمة معدن نفسي نفيس، ومن المعادن النفيسة الغالية الكريمة يختار الله أنبياءه، دون نظر إلى مال أو جاه، وقد اختار الله محمدا بعد أن تَخَيَّرَهُ من نُطَفِ الآباء والأمهات، وأشرف على تربيته، وأدَّبه، وبسط عليه رعايته.
اختار الله محمدا على هذا النحو، ولذلك أوجه النظر إلى أمور لابد من توجيه النظر إليها: إن الرسل بشر، ولابد أن يكونوا بشرا؛ لأن الناس الذين يسكنون الأرض يحتاجون إلى بشر، يفهمون منهم، ويتلقون عنهم، ويحسون إحساسهم، ويأنسون بهم، وعندما قال بعض المستغريين المستنكرين: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا؟) كان الجواب: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا) [الإسراء:94-95].
لكن الناس بشر، فيجب أن يتعلموا من مُجانس لهم، من مشابه لهم في خلقه، فبشرية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا تنكر، وإنما تنكر على بعض الذين يتحدثون في بشرية الرسول -صلى الله عليه وسلم- أشياء يدسونها في هذه البشرية كي يوهموا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رجل عبقري، أو شخص صاحب مواهب ضخمة، وأنه بعبقريته الفريدة، ومواهبه الجليلة، استطاع أن يبلغ ما بلغ، وأن يصل إلى ما وصل إليه؛ وهذا تدليس! إنه بشر حقا، وذو مواهب حقا، ولكنه بشر يتلقى عن الله، ويستقدم الوحي، بشر لم يبلغ ما بلغ بعبقريته الخاصة، وإنما بلغ ما بلغ بتوجيه الله له، واعتنائه به.
فالذين يتحدثون عن بشرية الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخلطون أو يكذبون عندما يريدون إيهام الناس أنه بشر عادى، لا؛ هو بشر حقا، ولكن يوحى إليه: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) [فصلت:6]، ثم إن هناك خلافا واضحا بين النبوة وبين العبقرية مهما بلغت، عبقرية فلسفية، عبقرية عسكرية، عبقرية سياسية، أولئك العباقرة فيما درسنا من تاريخهم يرجع تفوقهم غالبا إلى امتداد في موهبة من المواهب، أما بقية مواهبهم فإما عادية أو هابطة، ولذلك وجدنا عبقريات سياسية وعسكرية ترتكب الدنايا!.
خذ عبقرية عسكرية مثل "نابليون"، الرجل في معركة ما وهو يفتح الشام أمن المدافعين، وأعطاهم وعدا بأنهم إذا أُسِروا ضمنت لهم الحياة، وما كادوا يقعون في الأسر حتى أمر بقتلهم جميعا! غدر القائد في كلمته، كذب في وعده، كان خسيسا في تصرفه. هو عبقرية عسكرية، ولكنه كان نذلا في معاملاته الأخلاقية.
الواقع أننا تقفز قفزة عالية جدا عندما ننتقل من شخص كنابليون أو غيره من قادة العالم إلى القمة الشماء في تاريخ الإنسانية كلها محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام-، عندما كانت ظلمات الجاهلية ترين على صحراء الجزيرة كان محمد -عليه الصلاة والسلام- في أحشائها كوكبا متألقا بفضائله، وكان معروفا في الجاهلية بأنه الصادق الأمين! ذاك في الجاهلية، فكيف بعد أن تمت عليه النعمة، واختاره الله نبيا؟.
إن العبقرية شيء والنبوة شيء آخر، السراج المنير لا يمكن أن تكون فيه نقط سوداء، ولا بقع معتمة؛ لأنة منير من كل ناحية، وفى الأنبياء وتلاميذ الأنبياء يقول الشاعر:
هُمُ الرِّجَالُ المصَابِيحُ الذينَ هُمُ *** كَأنَّهُمْ مِنْ نُجُومٍ حَيَّةٍ صُنِعُوا
أخْلاقُهُم نُورُهُمْ مِن أيِّ ناحِيةٍ *** أقْبَلْتَ تَنْظُرُ فِي أخْلاقِهِمْ سَطَعُوا
كواكب! وهذا معنى وصف الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَسِرَاجًا مُنِيرًا) [الأحزاب:46]، والسراج المنير مُشْرِقٌ في جوانبه كلها، مصدر نورٍ وإشعاع من أرجائه كلها.
فنحن نرفض وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعبقرية، أو وصفه بالبشرية العادية، ونعلم أنه فعلا معدن ليس هناك ما يشبهه نفاسة وكرما، ولكن النبوة اصطفاء أعلى، ولكن النبوة هبة الله لمن أراد من عباده، وقد ختمت النبوات كلها برجلها الأوحد نبي الأنبياء، وإنسان الإنسانية، محمد بن عبد الله، عليه الصلاة والسلام.
في طلائع الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- دروس نحب أن نقف عندها؛ لنتعرف الفلك الذي دارت النبوة المحمدية فيه.
من أوائل ما نزل عليه -صلى الله عليه وسلم- سورة "العلق"، سورة "الضحى"، سورة "الانشراح"، سورة "المزمل"، سورة "المدثر"، قلت أتدبر الآيات التي نزلت عليه أول ما استقبل إشراقات الوحي الأعلى، ودون ترتيب ٍمُراعى في السرد الآن.
أبدأ بسورة الضحى: الشيخ "محمد عبده" يقول: إن الله تعالى أقسم بالضحى والليل إشارة إلى أن فترات الوحي في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت فترات تألُّقٍ وسَنىً لامع، وأما فترات الانقطاع للوحي فكانت تشبه وحشة الليل عندما يصمت وتنقطع كل حراك به. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بدأ يستقبل الوحي دون ارتقاب له، إنه ما كان يدري أنه سيختار نبيا، ولا تطلَّع إلى الرسالة، ولا عرف أن مستقبل الإنسانية مرتبط بشخصه الجليل في الأربعين سنة الأولى من عمره، وهذا معنى قوله. تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ) [القصص:86].
كأن الله تعالى أرسل إليه الوحي، ثم قطعه قليلا عنه؛ ليزداد شوقا إليه، ويزداد تهيؤا لاستقباله، ويزداد تشوقا إلى مطالعه عندما يجيء، ولكنه أحس شيئا من الكرب عندما انقطع الوحي، فطمأنه رب العالمين أن لا مكان للحزن وللكرب في حياته من هذه الناحية، قال له لا تظن أنى هجرتك، أو تركتك، أو حولت نعمتي عنك، (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى:3-5].
ثم بين له كيف أنه رعاه من غير سؤال، وكيف أنه أشرف على تربيته وتوجيهه من غير طلب، وكيف أنه صنعه لنفسه، فقال مفصلا هذه المعانى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) [الضحى:6]، آواك! والإيواء هنا ليس الإيواء الحسي لتدبير الكفالة له فقط، ولكنه الإيواء المعنوي الذي يتضمن الإشراف على تربيته وتكوينه.
(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) [الضحى:7]، أقف قليلا عند هذه الكلمة؛ أي: وجدك حائرا لا تدرى الحق ولا تعرف طريقا إليه، والضلال في اللغة العربية يعنى الحيرة، ويعنى الذهول، ويعنى النسيان، (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى) [طه:52]، (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) [البقرة:282]، الضلال: الحيرة، وفعلا، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حائرا، وآية: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) فُصلت في سورة الانشراح بعد ذلك، إذ قال الله له: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟) [الشرح:1].
من أثر الحيرة، من أثر النظر في شئون الناس وأحوال الدنيا، والعودة من هذا النظر بغير شيء، كل هذا ضيق صدرك، وكأنك تحمل على ظهرك حملا يكاد يقطعه، يكاد يقصمه؛ لأن الرجل الكبير الجليل عندما يشعر بالحيرة لأنه عاجز عن أن يصنع شيئا، أو أن يخرج من الظلمات التي تحيط به، فإنه يتعب نفسيا جدا تعبا يكاد يرهق أعصابه، ويمزق كيانه، فكلمة: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) [الشرح:1-3]، هي هي التي قيلت في آية أخرى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ؟ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى:52]، (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء:113].
هذا التعليم الجديد هو التفسير لقوله جل شأنه: (و وجدك ضالا فهدى) وقوله في السورة التي تليها: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) أي: كاد يقصم ظهرك لثقله، وشدة وطأته، وأنت حائر في المجتمع الجاهلي بمكة لا ترى بصيص نور في الوثنية السائدة، وفى ضلالات أهل الكتاب الذين ما يعرفون الكتاب إلا أماني، ولا يدرون من الحقيقة المبرأة شيئا.
ثم يرتب الله -عز وجل- على هذا الفضل أشياء، يرتب عليه نتائج لمصلحة الجماهير، فإن الذي يمرض ثم يصح أحق الناس برعاية أصحاب الآلام! والذي يغشى بعد فقر أحق الناس برعاية أصحاب الحاجات، والذي يعلم بعد جهل أحق الناس بأن يطارد الجهالة ويلقى نيرها عن كواهل أهلها! ولذلك بعد أن امتن الله عليه قال له: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى:3-5]، رتَّب على ذلك هذه النتائج: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى:9-11].
وكذلك في سورة الانشراح، رتب النتائج بعد أن قال له إنك كنت موقر الظهر بحمل أزعجك وأتعبك، فخفف الله عنك، وتنفست الصعداء بعد أن زال هذا الكابوس، وطلع عليك فجر الوحي، واتصلت بربك، وأصبحت أسوة الناس وإمامهم، وهاديهم وراعيهم. فماذا تصنع؟ باستمرار أقبِل على الله، إن انتهيت من واجب اتصل بواجب آخر: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الشرح:7-8].
هذا جهاد النبوة، فالنبوة عبء، ولكي يُعرف عبؤها ننظر إلى ما نزل في أوائل الوحي المبارك من سور؛ في سورة " المزمل " يعرف النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الهوى خفيف على الأنفس، وأنه يتيح لأصحابه أن يناموا حتى يعقد الكرى "النوم" على أجفانهم ليالي طوالا، ويتشبعوا حتى يألفوا الراحة والخمول؛ الهوى خفيف على الأنفس، حلو المذاق، لكن الحق ثقيل على الأنفس، فيه مرارة الدواء، فيه متاعب الجد؛ ولذلك في أوائل الوحي قيل له: ما مضى مضى، أما الآن فأمامك سهر طويل: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) [المزمل:1-5].
هذا القول الثقيل يتضمن الحقائق المرة: عقيدة التوحيد التي كم يضيق بها المعددِّون والمشركون؟ مسؤولية النفس الإنسانية عن سلوكها وعن عملها، وكم يضيق بهذا عُباد القرابين، وأصحاب المزاعم في أن الله يحتاج إلى كفارات من الدماء البشرية، أو الدماء الإلهية! -إن صح التعبير- كي يرضى عن خلقه! لكن هذا الحق الثقيل يحتاج إلى رجال ذوى مناكب أيِّدةٍ كي يحملوه بصلابة، وكي يطوفوا الآفاق به دون إعياء أو انقطاع.
وتقرأ "سورة المدثر" وهى بعد المزمل، ومن أوائل ما نزل، فتجد أمارات الحدة في الوحي الخاتم؛ لأنه يبين للنبي -صلى الله عليه وسلم- معالم طريقه كي يقود الناس فيها: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر:1-2] أي: انتصِب لتعلم الناس ما لم يعلموا، إن جماهير كثيفة شردت عن الطريق، وأنت مكلف أن تعود بها إلى الصراط المستقيم: (قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر:2-3].
إن الناس عبدوا الأوهام، وقدسوا الأصنام، ولكن أنت اربط تعظيمك وتقديسك لربك، وعلِّم الناس معك أن خوفهم ورجاءهم، وركوعهم وسجودهم، وتوكلهم وركونهم، إنما يكون على الكبير المتوحِّد بالكبرياء، (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر:4]، إن بعض الناس فسر الآية بأن تطهير الثياب هنا إنما هو تطهير للأخلاق وللكيان المعنوي للإنسان، وهذا تفسير قد يقبله البعض، أما رأيي فإن كلمة: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) تعطى المنهج الجديد للإنسان، كان التدين قبلا يعتبر التقشف والرهبانية ووساخة الأجساد لونا من القربى إلى الله، لكن الدين الجديد احترم الجسد الإنساني، واعتبر طيب الجسد، وطهارة الجسد، وزينة الجسد، والرائحة الزكية في الجسد، اعتبر ذلك من إمارات التقوى، ومن دلائل الإيمان، ومن حسن الصلة بالله.
ولعل تشريع الوضوء والغسل، ولعل تشريع الطيب والسواك، لعل هذه الشرائع التي جعلت الجسد الإنساني مكرما عند الله، لعلها إشعار بأن الدين الجديد دين الفطرة السليمة، وأن تقدير هذا الجسد، وتقدير الإبداع الإلهي في خلقه من معالم التقوى، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في سجوده أحيانا: "سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين!". هذا الجسد لا يوسَّخ، هذا الوجه لا يلوَّث، هذه الثياب يجب أن تُطَهَّر.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- آية في وضاءة بدنه كله، وفى نظافة ثيابه كلها، وكان الناس إذا شموا رائحة جيدة في مكان ما قالوا: لعل محمدا مَرَّ من هنا! هذا هو التديُّن، لا الرهبانية القذرة الوسخة التي تفتات على الجسد وتوسخه، وتجعل الناس يحتقرون البدن، ويرون الإجحاف به والنَّيْل منه قربى إلى الله! (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) [المدثر:4-7]، إلى آخر ما يمكن استعراضه من هذه الآيات التي وجهت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الحق والخير، لا لتكوينه شخصيا، بل لتكوين الأمة معه، ورسم الرسالة الإسلامية لتعرف معالمها من ملامحه، ومشخصاتها من مشخصاته.
إن الله -عز وجل- رَبَّى محمدا -صلى الله عليه وسلم- ليربي به العرب، وربَّى العرب بمحمد ليربى بهم الناس أجمعين. كيف رُبِّيَ؟ كيف صنَعَ الناس؟ هذا بحث آخر، موعدنا -إن شاء الله تعالى- به في عالمية الرسالة، وفى الآفاق التي تعمل فيها، وفى الأبعاد التي تتألق خلالها؛ موعدنا -إن شاء الله تعالى- في يوم الجمعة المقبلة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن أحفالنا التي ألفنا إقامتها في شهر ربيع عاطفة مقدورة البواعث، ولكنها لا تقبل ترجمة عن الحب الواجب لصاحب الرسالة -عليه الصلاة والسلام-؛ وعندي لو أن المسلمين عطلوا هذه الأحفال كلها، وأقاموا بدلا منها حدا من الحدود المعطلة، أو قانونا من القوانين الإسلامية المهملة، لكان ذلك أرضى لله -عز وجل-، وأحب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
نحن ننتهز فرص هذه الأحفال كي نذكِّر، والذكرى تنفع المؤمنين، ومن الذكرى التي نؤكد بها ولاءنا لصاحبا الرسالة، وإعزازنا للتراث الذي تلقيناه عنه -صلوات الله وسلامه عليه-، أن نوجه الأنظار إلى أعداء الله -عز وجل-، وأعداء محمد -صلى الله عليه وسلم-، أنا أعرف ناسا من العرب عندما يقع نزاع بين المسلمين والهندوك ينضمون إلى الهند! وعندما يقع النزاع بين القبارصة المسيحيين وبين الأتراك المسلمين ينضمون إلى اليونان! وعندما يقع النزاع بين الإرتريين والأحباش ينضمون إلى الأحباش! وعندما يصطدم الإسلام في معاركه الطويلة العريضة بأيِّ عدو، فهم مع هذا العدو!.
وهم عرب، يتسمَّون بأسمائنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويجدون من ينخدع بهم، ويستمع إليهم؛ هؤلاء أملهم أن يجعلوا "مصر" علمانية، أي لا يكون الإسلام دينها، ولا مصدر التشريع فيها، ولا أساسَ الأخلاق والقيم والمثل لأبنائها. هؤلاء يجب أن نكشفهم، وأن نتعرف آثارهم في مجتمعنا لنمحوها.
إن الإسلام في هذه الأيام ليس فقط "جواز المرور" إلى الجنة عندما نلقى الله، إنه قبل أن نلقى الله هو ضمان البقاء لنا على ظهر الأرض! هذا الدين ليس فقط تأمينَ آخرتِنا عند ربنا، إنه الآن تأمين حياتنا العاجلة؛ فإن المسلمين أُعلِنت عليهم حربُ إفناء، وأعلنت على محمد -صلى الله عليه وسلم- حرب اجتياح لكتابه وسنته، وتاريخه وآثاره. فإذا أراد المسلمون أن يعيشوا هملا فمصيرهم هو الذبح. لا غير!.
وأنا أسأل نفسي: أي خيانة ارتكبها المسلمون جميعا وهم يعلمون أو يجهلون أن نحو سبعة آلاف جزيرة شرق جزائر أندونيسيا كانت مسلمة كلها، ثم هجم عليها الأسبان، ووضعوا عليها اسم ملِكِهم "فيليب"، وسموها "الفليبين"، وبدأوا عملية محو القرآن والسنة، والمنتسبين إلى القرآن والسنة، حتى محوا 87%، من السكان ونصروهم، وبقى الآن نحو 10%، يتعرضون للفناء!.
إذا تحدث الناس عن التجمع الإسلامي، وعن الروابط الإسلامية، وجد من العرب من يقول: إن التجميع على الإسلام سياسة أمريكية! يا سبحان الله! أي بلاء هذا الذي نزل بنا؟ إن التجميع على الإسلام سياسة قرآنية: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:103]. ألا فليستيقظ المسلمون وإلا هوت بهم الريح في مكان سحيق.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر"
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
التعليقات