عناصر الخطبة
1/ العدل قيمة وفضيلة مطلقة 2/ سبيل التنـزه عن الظلم 3/ لا يستسلم المرء لدواعي الغرائز والطباع 4/ أعظم أسباب الظلم والبغي 5/ معالجة صور الظلم وتضييق مجاريه 6/ عاقبة الظلم وشؤمه على صاحبه في الدنيا والآخرة 7/ المجتمع كله مسئول عن محاربة الظلم 8/ فضيلة الاحتساب على المظالم 9/ أهمية الأخذ على أيدي الظلمة 10/ شواهد تعظيم الشرع لجناب العدلاهداف الخطبة
اقتباس
العدل قيمة وفضيلة مطلقة، لا يمكن أن يكون في بعض صوره رذيلة، والظلم رذيلة مطلقةٌ، لا يصح أن يكون في بعض حالاته فضيلة؛ ولذا نزّه الله نفسه عن الظلم تنزيهًا مطلقًا، وأمر عباده جميعًا بالتنزه عنه فقال كما في الحديث القدسي المشهور: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" ..
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون لعلكم تفلحون، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
أيها الأحبة في الله: لقد كان من مقصود إرسال الرسل وإنزال الكتب إقامة العدل ومنع الظلم فقال جل جلاله (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد: 25].
والعدل قيمة وفضيلة مطلقة، لا يمكن أن يكون في بعض صوره رذيلة، والظلم رذيلة مطلقةٌ، لا يصح أن يكون في بعض حالاته فضيلة؛ ولذا نزّه الله نفسه عن الظلم تنزيهًا مطلقًا، وأمر عباده جميعًا بالتنزه عنه فقال كما في الحديث القدسي المشهور: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا".
وقال جل جلاله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس: 44].
والناس لا يظلمون رغبةً في الظلم ذاته؛ ولكنهم يحققون رغباتهم ويتبعون أهواءهم ويؤثِرون مصالحهم ولو اقتضاهم ذلك ركوبَ جادة الظلم وانتهاكَ حُرمات الآخرين. وإنما يظلم الظالمُ انتصارًا لنفسه، وتحقيقًا لرغباتها، استجداءً بكل سبيل، ولو بالظلم والقهر والبغي والعدوان.
ولا سبيل لأحد للتنـزه عن الظلم إلا بإنصاف الآخرين من نفسه، بألا يجعل نفسه مطواعًا للرغبات والشهوات، فيكونَ عبدًا لهواه، ويصدق فيه قول الحق سبحانه: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) [الجاثية: 23].
وما من أحدٍ إلا وهو يحب لنفسه الثراء والغنى؛ ولكن لا يجوز بحالٍ أن يكون ذلك بطريق أكل أموال الناس بالباطل.
وما من أحد إلا وهو يحب لنفسه الجاه والسلطان والمدحة؛ ولكن لا يجوز بحالٍ أن يكون ذلك بطريق الكبر والتعالي واحتقار الناس وغمطهم.
وما من أحد إلا ويحب لنفسه الشرف والعزة والشجاعة والسؤدد؛ ولكن لا يجوز أن يكون من طريق ذلك التعدي على الناس وإيذاؤهم واستعبادُهم وحرمانُهم حقوقهم.
والانتصار للظالم على المظلوم لعصبية جاهليةٍ، أو لمصلحة شخصية، هو ظلمٌ وانتصارٌ للظلم والبغي، وكل دعوة لعصبية، أو انتصارٍ لعصبية، فلا يخلو غالبًا من الظلم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أو يَدْعُو إلى عَصَبَةٍ أو يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ" أخرجه مسلم.
ولأن النفوس طُبعت على الشح والحرص والأثرة، فقد عُد الظلم من طبع النفوس إلا من رحم الله، فقال جل جلاله في وصف الإنسان: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 72].
وليس معنى ذلك أن يستسلم المرء لدواعي الغرائز والطباع متحججًا بأنه قد جُبل على ذلك، فكيف إذن يلام على ما جُبل عليه؟ فهذه الحجة منقوضة بما جاء في الكتاب والسنة من الأمر بتهذيب النفوس، ومعالجة أدوائها، والاستعلاءِ على شهواتها ونزعاتِها، ولو كانت النفوسُ مجبولةً على خصال الخير، مبرأةً من خصال الشر، لما كان في التكليف معنى الابتلاء.
ولذا جاء الأمر باتقاء الظلم ومجافاته، فقال صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا الظُّلْمَ فإن الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يوم الْقِيَامَةِ"، ثم عطف على ذلك بسبب من أعظم أسباب الظلم والبغي، فقال: "وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فإن الشُّحَّ أَهْلَكَ من كان قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ على أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ".
أيها الأحبة في الله: تأتي معالجة صور الظلم وتضييقُ مجاريه من طريقين: من طريقٍ خارجي، أي معالجة من خارج النفس، وذلك بصرامة التشريعات والأنظمة والعقوبات التي تزجر عن الظلم، أو ترفعه بعد وقوعه، وهذه المعالجة واجبُ المؤسسات المدنية من قضائية وأمْنيَّةٍ وغيرها..
والطريق الآخر في المعالجة: هو التوجه إلى استصلاح النفوس وتطهيرها من علل الشح، والأثرة والكبر، والعصبية والغضب إلى غير ذلك من علل النفوس.
وهذا يتطلب منا جميعًا أن نتذاكر عاقبة الظلم، وشؤمَه على صاحبه في الدنيا والآخرة، والنصوص الشرعية في هذا الشأن كثيرة تُحيي في النفوس شعورٌ إيماني يزجرها عن غيها، كما قال الشاعر:
ولا ترجع الأنفس عن غيِّها *** ما لم يكن منها لها زاجرُ
وهذا الباب الذي يسعنا دخوله على كل ظالم، أو مستخفٍّ بالمظالم والحقوق، نذكره بالله جل جلاله، ونحذره بطشه وغضبه ومقته، وما أعده من العذاب المقيم للظلمة يوم القيامة.
ليتذكر كل مستخف بالمظالم متطاولٍ على الناس بالبغي والعدوان أن شؤم الظلم والبغي يعاجله في الدنيا قبل الآخرة، وأن ما يناله منه في الدنيا لا يخفف عنه عقوبته في الآخرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" أخرجه الترمذي وغيره بسند صحيح.
ومن عاجل شؤم الظلم على صاحبه أن دعوة المظلوم مسلطة عليه مستجابةٌ فيه، وليتذكر في هذا الشأن قوله صلى الله عليه وسلم: "اتق دعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجاب" متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائمُ حتى يفطر، والإمامُ العادلُ، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء، ويقول: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين" الترمذي بسند صحيح.
قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، قال ثم قرأ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102]" متفق عليه.
كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من أربى الربا الاستطالةَ في عرض المسلم بغير حق" أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة"، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله! فقال: "وإن كان قضيبًا من أراك" أخرجه مسلم.
تأمل في الحديث كيف أن الظلم لم يغتفر فيه الشيءُ اليسير كالقضيب من الأراك، فالعقوبة تناله وإن كان كذلك؛ لأن العقوبة إنما كانت على ما في نفسه من نزعة الظلم والاستخفاف بحرمات الآخرين وحقوقِهم، مع الاستخفاف بقدر الله؛ إذ جعل الحَلِفَ باسمه العظيم سبيلاً لأكل أموال الناس بالباطل.
والمجتمع كله مسئول عن محاربة الظلم، والاحتساب على المظالم، والأخذِ على أيدي الظلمة، ويجب عليه بمؤسساته ورجاله أن ينكر على أهل البغي والظلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم أمتي تهاب الظالمَ أن تقول له: إنك ظالم، فقد تُودِّع منهم" أخرجه أحمد بسند جيد. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب" أخرجه أبو داود بسند صحيح.
(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الشورى: 40- 42].
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن من شواهد تعظيم الشرع لجناب العدل، وتشديده في شأن الظلم أن أول ما يُقضى بين الناس في عرصات يوم القيامة في الدماء، كما صح بذلك الخبر عنه صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم.
ومن شواهد تعظيم الشرع لجناب العدل وتشديده في شأن الظلم وتقبيحه: إقامةُ القصاص بين البهائم يوم القيامة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لتؤدن الحقوقُ إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" أخرجه مسلم.
ألا ويلٌ للطغاة وللظلمة العُتاة يومَ يُحشرون فرادى يوم القيامة، وقد ذهب عن الملوك ملكهم، وعن السلاطين سلطانُهم، وعن الطغاة جبروتهم، وعن الأغنياء أموالهم، يعرضون في عرصات القيامة على الملك الدَّيان، (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [الدخان: 41].
ليتذكر كل مستخف بالمظالم والحرمات متجاسر على الظلم والبغي أن كثرة الصلاة والصوم والحج والذكر لا تكفّر عن سيئات مظالمِه وبغيه وعدوانه، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما المفلس"؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار" أخرجه مسلم.
وخير ما ننصح به كل ظالم ما سبق من نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لأمثاله: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه، أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" البخاري.
التعليقات