الطلاق رحمة (2)

سامي بن عبد العزيز الماجد

2012-04-02 - 1433/05/10
عناصر الخطبة
1/ صور من الطلاق في الجاهلية 2/ سبب نزول آيات الطلاق 3/ متى يملك الزوج حق الرجعة؟ 4/ لا يحل التلاعب بشريعة الله 4/ تحريم الإضرار بالزوجات 5/ ضوابط جواز الخلع 6/ القوامة تكليف ومسؤوليات 7/ مساوئ جعل الطلاق بيد الزوجة 8/ الحياة الزوجية قائمة على حفظ الحقوق والتذمم 9/ رحمة الله بالمرأة ومدافعته عنها 10/ تضييق الشرع لصورة الطلاق المشروع
اهداف الخطبة

اقتباس

من اللطائف أن يتكرر الأمر بتقوى الله في سورة الطلاق على قصرها بما لم يتكرر مثله في سورة مثلها، وفي هذا إشارة إلى أن مراقبة الله يجب أن تكون حاضرة في كل علاقة أو فُرْقَة حتى ولو في الطلاق؛ لأن الطلاق حين يغيب فيه تقوى الله يكثر فيه المضارة والظلم ..

 

 

 

 

 

أيها المسلمون: ولا يزال الحديث موصولاً عن الطلاق، شرعه الله لعباده رحمةً، فاتخذه بعضهم هزوًا ولعبًا.
كَانَ لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ طَلَاقٌ وَمُرَاجَعَةٌ فِي الْعِدَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ حَدٌّ وَلَا عِدَّةٌ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ أُلْعُوبَةً بِيَدِ الرَّجُلِ يُضَارُّهَا بِالطَّلَاقِ مَا شَاءَ أَنْ يُضَارَّهَا، فرفع الإسلام هذه المضارة ومنع هذه المظلمة. وأنزل الله قوله: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 229].


وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وغيره عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ مَا شَاءَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ امْرَأَتُهُ إِذَا راجعها وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ طَلَّقَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ وَأَكْثَرَ، حَتَّى قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: وَاللهِ لَا أُطَلِّقُكِ فَتَبِينِي، وَلَا آوِيكِ أَبَدًا، قَالَتْ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُطَلِّقُكِ، وكُلَّمَا هَمَّتْ عِدَّتُكِ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعْتُكُ، فَذَهَبَتِ الْمَرْأَةُ فَأَخْبَرَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)
" [البقرة: 229].

ومعنى الآية: أن الطلاق الذي يملك فيه الزوج حقَ الرجعة مرتان فحسب، فإذا أوقع الطلاقَ فيهما فهو بين خيارين: إما إمساك بمعروف بأن يُرجعَ زوجتَه لعصمته ولو من دون رضاها؛ لأنها لا تزال زوجتَه، وإما تسريحٌ بإحسان بأن يترك مراجعتَها حتى تنتهيَ عدتُها، فإذا انتهت عدتُها بانت منه وأصبحتْ أجنبيةً لا تحل له من بعدُ إلا بعقد جديدٍ ومهرٍ جديدٍ، يتولّى تزويجَها وليُّها بشرط رضاها.

أما إذا طلقها الثالثةَ فإنها حينئذ تبين منه وتصبح أجنبية عنه، ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيرَه نكاح رغبةٍ لا تحليل، وحتى تذوقَ عُسيلتَه ويذوقَ عُسيلتها كما جاء في الصحيح. فإن طلقها هذا الزوج الثاني بعد رغبةٍ وبغير نية التحليل فقد حلَّتْ لطليقِها الأول أن ينكحها مرة أخرى، فذلك قوله سبحانه: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) [البقرة: 230] ثم قال: (فَإِن طَلَّقَهَا - أي زوجها الثاني - فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 230].

وإذن لا محل للتلاعب بشريعة الله، ولا مضارّة للمرأة فيما شرعه الله من الطلاق، وإنما هما فرصتان ثنتان، يراجع فيهما الزوجُ زوجته، ثم من بعد ذلك الحرمان، فليس كلما اشتهى الزوج أن يطلقَ طلق، ولا كلما اشتهى أن يمسك أمسك.

وقد يحاول الزوج بعد استنفاد الطلقتين أن يضارَّ زوجته بما لا يحسب عليه طلقة، فيفجَؤه أنَّ شريعةَ الله قد قَعدتْ له كلَّ مرصد، فقد يحاول أن يضارَّها بالتعليق، فيميل عنها كل الميل، ويقطع عنها كل حق تستحقه الزوجة على زوجها، فيذرها كالمعلقة، لا زوجة مكرّمة، ولا مبتوتة مطلقة.

وقد حذر الله من ذلك فقال: (فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) [النساء: 129]، فإن ثبت مضارَّتُها بالتعليق خيِّر الزوج بين أمرين لا ثالثَ لهما: إمساك بمعروفٍ تنال فيه المرأةُ كاملَ حقوقها، أو تسريحٌ بإحسان، فإن أبى قضى الحاكمُ بفسخ النكاح دون أن تَرُدَّ المرأةُ شيئًا من المهر.

وقد تدفع بالزوج خسيستُه وتنكُّرُه للجميل أن يضارَّ زوجتَه من أجل أن يضطرَها إلى أن تفتديَ نفسها منه بالخلع، فتردَّ له ما أخذت منه، وفي ذلك يقول جل جلاله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ) [النساء: 19]، وفي هذا حماية للزوجة أن يضطرَها الزوج إلى الخلع ليستردَ منها المهر، وهو معدود في شريعةِ الله من أكل أموال الناس بالباطل؛ لأنها لم تكن لتفتديَ نفسَها منه لولا مضارَّتُه لها.

فإن ثبتت هذه المضارةُ فللقاضي أن يفسخَ النكاحُ بينهما دون أن تكلَّفَ الزوجةُ بردِّ شيء من المهر. وإذن لا يكون الخلع إلا إذا كان الزوج قائمًا بحقوق الزوجة معاشرًا لها بالمعروف لم يحصل منه عضلٌ ولا مضارة؛ لكنها لا تطيقُ البقاءَ في عصمته، وتخشى ألا تؤديَ حقوقَه، فليس لها من سبيلٍ إلى مفارقته؛ إلا بأن تفتدي نفسها منه بالخلع، فتردُ إليه ما أخذته من مهر؛ لأن الفراق جاء منها وليس منه، ولا بسبب مضارته لها.

إن الله لم يجعل الطلاقَ بيد الزوج من أجل أن المرأة مسترقّةٌ في الإسلام، ولا لأنها مهانةُ الكرامة، مستخفةُ القدْر، وإنما جعله بيد الزوج؛ لأنه تكلَّف للزواج أكثر مما تكلفت به المرأة، وتحمَّل من ذلك بعد الزواج ما لم تتحملِ المرأة، فالمهر واجب عليه لا عليها، وبعد الدخول عليه واجبُ النفقةِ والسكنى والكسوةِ لها ولأولادها منه؛ حتى ولو كانت غنيةً أو عاملة تجد ما يسد حاجتها. أفلا يكون الزوج بعد كل هذا أحقَّ بعقدة النكاح من الزوجة التي كُفيتْ كل شيء ولم تكلَّفْ إلا معاشرةَ زوجها بالمعروف؟

ولذلك كانت هذه الأعباءُ التي أُنيطت بالزوج مؤهِّلاً من مؤهِّلاتِ قوامتِه على المرأة (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [النساء: 34] وليس معنى الآية أن من أنفق أو كان أكثرَ إنفاقًا من الزوجين فهو الأحق بالقوامة؛ وإنما معناها: أن من أوجبَ الله عليه النفقة وحمَّلَه أعباءَها فهو الأحقُ بالقوامة التي فيها من التكليف والمسؤوليات ما يؤهل للتشريف.

وقد بين الله في كتابه أن عقدة النكاح وأمرَ الطلاق بيد الزوج، فقال: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا) [البقرة: 228] أي في حالة الطلاق كما هو سياق الآية، ثم أشار في ختام الآية إلى إحدى الأسباب لجعل الطلاق بيد الزوج فقال: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ) [البقرة: 228].

إن أمرَ الطلاق لا بد أن يكون بيد أحدِ الزوجين، إما الزوج وإما الزوجة، وليست الزوجة بأولى بذلك من الزوج، فهي محكومة بالعاطفة أكثرَ من الرجل، وفي تكوينها النفسي ما يناسب معه أن يُخفَّفَ عنها هذا الحِمل الذي لو كان بيدها لانفرط لأول عارضٍ من هذا التوتر النفسي الشهري.

كما أنها قد ولجت بيت الزوجية من غير أن تتكلف لذلك مالاً ونفقة، ومن دخل في أمر من غير كَلَفة كان الخروجُ منه أهونَ شيء عليه، وسيكون أكثرَ إسراعًا للخروج منه ممن تكبّدَ لذلك عناءً وتكلفَ لذلك نفقةً ومالاً.

تتمنى بعض النساء أن لو كان أمرُ الطلاق بيد الزوجة لا بيد الزوج؛ حتى لا تصبحَ - بزعمها - ألعوبةً بيد الرجل يطلقُها كلما عنَّ له ذلك، وحتى تضمنَ بذلك استدامةَ النكاح - بزعمها - وتأمنَ غوائلَ تهوِّرِ الرجل في هذا الشأن.

فهل سيضمن لها حياةً كريمة هانئة لو جُعل الطلاق بيدها؟ إن الزوج الذي لا يجد في نفسه الرغبةَ في استدامة النكاح، ويكره عشرةَ زوجته، سيحاول فصم هذه العلاقة بكل سبيل؛ حتى ولو كان أمرُ الطلاق بيد الزوجة، فهو سيضارها بالإمساك عن النفقة، وسيضارها في المعاشرة، وسيضارها بالهجر، وبسوء المعاملة، وسيستقوي عليها بكل حيلة ومُضارَّة، وحينئذ ستجد الزوجة أن مفارقته خير لها من البقاء معه، وستجد أن جعل أمرَ الطلاق بيدها لم يُجْدِها شيئًا، ولم يضمن لها بقاءها في عصمة زوجها.

بل هل ستضمن المرأة أن لو جعل الطلاق بيدها ألا تكون أسرعَ إلى الطلاق من الرجل؟! ستجد حينها أن شريعة الله أعدل وأرحم وأحكم، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50].

بارك الله..........

 

 

الخطبة الثانية:

أما بعد: فإن العلاقة الزوجية من مبدئها إلى منتهاها مبنية على حفظ الحقوق والتذمم، وتحقيقِ المعروفِ والإحسان، حتى الطلاق يجب أن يكون بإحسان، فلا مضارة، ولا تشهير، ولا إهانةَ ولا تعيير، ولئن ذهبت رابطة الزوجية فقد بقيت بينهما رابطة الأخوة في الدين، ولئن ذهبت منها حرمة الزوجة بالطلاق فقد بقي له عليه حرمةُ الأخت المسلمة، (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [البقرة: 231].

ولا يجوز أن تكون دواعي المفارقة موجبةً لنسيان الفضل بين الزوجين؛ كأن لم تكن بينهما مودةٌ ورحمة، والله يقول مذكرًا في سياق الطلاق: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [البقرة: 237].

ومن تأمل أحكام الطلاق في الشرع أدرك قدرَ رحمةِ الله بالمرأة ومدافعته عنها أن يضارها الزوج بشرعة الطلاق، فحرم الشرع أن يطلق الزوج زوجته وهي حائض حتى لا تطول عليها العدة، ولما طلق ابن عمر امرأته وهي حائض أمره النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها؛ حتى لا تطول عليها العدة.

وضيق الشرع صورة الطلاق المشروع، فلم يُبح من الطلاق إلا ما كان في طهر لم يواقع فيه الزوج زوجته، وما عدا ذلك فطلاق بدعي يأثم فاعله، ومن حكمة ذلك أن الزوج حين يطلق زوجته وهي في طهرٍ لم يواقعها فيه، فإن معنى ذلك أن رغبته إلى مفارقتها أكبر وأظهر من رغبته في مواقعتها واستبقائها.

كما حرم الشرع على الزوج إذا طلق امرأته الطلقة الأولى أو الثانية أن يخرجها من بيت الزوجية، ونهى المرأة أن تخرج من ذلك البيت حتى تنتهي عدتها، ومن حكمة ذلك التشوفُ إلى أن يراجعها الزوجُ بأي صورة من صور العلاقة الزوجية، وحرم عليها أن تحتجب منه، ومنعها من أن تخرج إلا بإذن زوجها؛ لأنها زوجةٌ له ما دامت في العدة، ولا شك أن وجود الزوجة في بيت زوجها زمن العدة مدعاة إلى التصالح والمراجعة.

ومن اللطائف أن يتكرر الأمر بتقوى الله في سورة الطلاق على قصرها بما لم يتكرر مثله في سورة مثلها. وفي هذا إشارة إلى أن مراقبة الله يجب أن تكون حاضرة في كل علاقة أو فرقة حتى ولو في الطلاق؛ لأن الطلاق حين يغيب فيه تقوى الله يكثر فيه المضارة والظلم.
 

 

 

 

المرفقات
الطلاق رحمة (2).doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life