تقوم العبادات في الإسلام على ظواهر وحقائق لا يتم كمالها وتمامها إلا بأدائها، فالظواهر هي ما يتناوله الفقهاء بالحديث عن أركان وشروط العبادة، كوقت أدائها وكيفية الأداء والسنن والمستحبات المصاحبة لها والنواقض والبدع التي طرأت عليها.
وأما الحقائق فيقصد بها الأمور الباطنة الخاصة بروح العبادة، والمقصودة حقيقة منها كي تنال القبول عند الله تعالى ويكون عليها الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة، كالإخلاص المنافي للرياء، والخشوع المنافي للغفلة.. وغيرها من الآداب والفضائل.
ونحن في حديثنا عن الظواهر والحقائق الخاصة بالعبادة لا نماثل ولا نوافق الفرق الضالة المبتدعة التي ظهرت في بعض العصور الإسلامية والتي قسمت الدين إلى ظاهر وباطن كالباطنية، أو التي قسمت الإسلام إلى شريعة وحقيقة كغلاة المتصوفة، وكان القصد خبيثا وراء تلك التقاسيم، لتفريغ الدين عن محتواه الحقيقي وتفسيره وفق أهوائهم، ونصرة آرائهم الباطلة.
بل إننا نعنى بحقيقة العبادة: تلك الآداب التي تلزم هذه العبادة كي تصل إلى درجة الكمال، وهو ما يتحدث عنه علماء السلوك والزهد والرقائق معتمدين في حديثهم على الفهم الصحيح للآيات القرآنية والسنة النبوية الثابتة عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه.
وحاجة العبادات لصلاح الظاهر والباطن أمرا معلوما من الدين بالضرورة، نجد له شواهد عديدة في الكتاب الجليل والسنة الصحيحة.
ففي الدعوة للإخلاص يقول تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة و ذلك دين القيمة } [البينة:5]، وكان صلى الله عليه وسلم يقول عند تلبيته بالحج: «اللهم حجه لا رياء فيها ولا سمعه»(1)
وفي الدعوة للخشوع يقول صلى الله عليه وسلم: «رب قائم ليس له من قيامه إلا السهر»(2)، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها» (3)
وهذا الأمر يشمل الصيام أيضاً باعتباره من أجل العبادات، فالفقهاء عرفوا الصيام بأنه: «إمساك المكلف بالنية عن تناول المطعم والمشرب والاستمناء والاستقاء من الفجر إلى المغرب».
وقسموه ثلاثة أقسام: واجب للزمان وهو صوم شهر رمضان، وواجب لعله وهو صوم الكفارات، وواجب بإيجاب الإنسان على نفسه وهو صوم النذور.
وكتب الفقه الإسلامي مملوءة بالعديد من الضوابط والأحكام الخاصة بالصوم كأركان الصيام ونوا قضه والقضاء والفدية والكفارات إلى غير ذلك من الأحكام.
وأما عن حقيقة الصيام فهناك العديد من الآداب التي لابد لها وأن تلازم الصائم كي يتم له صومه الحقيقي المتقبل عند الله تعالى، ولا يكون كمن قال فيه صلى الله عليه وسلم: «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع»(4)
يقول الإمام الغزالي: «اعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. أما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وأما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الهضم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله بالكلية، فهو إقبال بكنه الهمة على الله عز وجل وانصراف عن غير الله سبحانه»(5).
وقال البيضاوى: «ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول».
ولا يتم الصوم الحقيقي إلا بالعديد من الآداب التي لابد أن يتحلى بها الصائم، نذكر منها:
• الإخلاص: هو إفراد الله عز وجل بالقصد في الطاعات، فلا تؤدى إلا ابتغاء رضاه، لا من أجل مدح مادح، ولا لتحصيل منفعة دنيوية، قال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحاً ولا يشرك بعباده ربه أحداً} [الكهف:110] وعن أبى أمامه رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا شيء له» فأعادها ثلاث مرات، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا شيء له» ثم قال: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً و ابتغى به وجهه» (6)
وقد يقدم بعض المسلمين على الصوم في رمضان حياء من الناس لا من الله، أو رغبة في منفعة شخصية لا ربانية، كحرج رب الأسرة أن يكون مفطراً وأولاده وزوجته صائمون، أو الخشية من تجريح وملامة الناس له على فطره، أو يجد البعض الصوم فرصة سانحة لتقليل الوزن، أو الراحة من آلام بالمعدة والقولون فيفضلون الصوم طلبا للصحة، أو مجرد التشاؤم من الفطر في هذا الشهر الكريم... أو غير ذلك من الأسباب. فلا يسعنا إلا أن نقول لمثل هؤلاء: صومكم فقد الإخلاص، الذي هو روحه وشرطا من شروطه الأساسية، وليس مقبولا عند الله تعالى بشهادة الله وشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله لا يقبل من العبادة إلا ما كانت له خالصة وابتغى بها وجهه.
• صوم القلب: وهو واجب في رمضان وغيره، ومتأكد في هذا الشهر الكريم العظيم لعظم حرمته ويكون بصون القلب عن الشركيات المهلكة والاعتقادات الباطلة والوساوس السيئة والنوايا الخبيثة والخطرات الموحشة حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغه إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (7)
فرحم الله عبداً امتلأ قلبه إيماناً ويقيناً فانعكس ذلك على جوارحه فطلبت كل خير وابتعدت عن كل شر، والمؤمن الحريص على سلامه قلبه عليه أن يحذر وساوس ومداخل الشيطان إلى نفسه ومن أعظمها الغضب والشهوة والحسد والحرص والبخل والتعصب للمذاهب والأهواء.
وأمراض القلوب تجمعها أمراض الشهوات وأمراض الشبهات والقرآن شفاء للنوعين، وهذا الشهر المبارك هو شهر القرآن فأحرى بالمسلمين الإقبال على كتاب الله بتدبر وخشوع حتى تصح قلوبهم التي لا نجاه إلا لصاحبها يوم القيامة، قال تعالى: {يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء:88] وقال تعالى: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} [التغابن:11] وهداية القلب أساس كل هداية ومبدأ كل توفيق.
• صوم البصر: وذلك بغض البصر عن كل ما يحرم النظر إليه، قال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن … } الآيات من سورة النور 30 – 31، وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة؟ فقال: «اصرف بصرك»(8)، وكان عيسى بن مريم يقول: «النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها خطيئة».
فالعين كما هو معلوم منفذ للقلب، وباب للروح فإذا خربت العين خرب القلب، وهي تزني وزناها النظر، والنظرة بريد الزنا وهي سهم مسمومة من سهام إبليس. قال شاة الكرمانى: «من غض البصر عن الحرام، وعمر باطنه بالتقوى، وظاهرة بإتباع السنة لم تخطئ له فراسة» وتلا قوله تعالى: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} [الحجر: 75]، فإطلاق البصر إلى ما لا يحل يحرك في المرء الشهوة الكامنة، ويوقع العبد في الغفلة وإتباع الهوى، ويطفئ نور الإيمان والبصيرة في القلب، ويستحكم الشيطان على المرء فيقوده للمعصية تلو الأخرى.
• صوم اللسان: وذلك بحفظه عن الخوض في الباطل كالغيبة والنميمة والفحش والبذاء واللعن والسخرية من الخلق.. وغيرها من آفات اللسان المهلكة. قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجه في أن يدع طعامه وشرابه»(9). وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم»(10)
والمؤمن الصادق الإيمان لا يخوض في الباطل بأي حال من الأحوال، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»(11). وحفظ اللسان من الآداب الكريمة المؤكدة في حق الصائم. وصدق والله الحسن البصري في قوله: «ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه». وكيف لا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة»(12)، وفصل الخطاب قوله صلى الله عليه وسلم: «من صمت نجا»(13)
فإلى الذين يبحثون عن التسلية في نهار رمضان، ويجلسون يقعون في هذا وفي هذا، ويخوضون في ما لا يرضى الله، نقول لهم : عليكم بكتاب الله تلاوة وتدبراً فإن فيه طهارة ألسنتكم وقلوبكم وجدير بمن صام لربه حقاً أن يقبل على كلامه، فيكون نوراً على نور وشفاءً على شفاء.
• صوم الأذن: وذلك بكف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه كالغناء والفحش والبذاء، لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت، فقال تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت} [المائدة:63] والمؤمنون الصادقون هم الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه، فأجدر بالصائم سماع آيات كتاب الله والإقبال في هذا الشهر على سماع دروس العلم والمواعظ الحسنه، وتلك من كمالات الصيام الحق. قال تعالى {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} [القصص:55]
• أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار: بحيث يمتلئ جوفه، وكيف يستفاد من الصوم في قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطرة ما فاته ضحوة نهاره، فرقه القلب وصفاؤه إنما تكون بترك الشبع، قال الجنيد: «يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاة من الطعام، ويريد أن يجد حلاوة المناجاة». فحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، ومن أكل كثيراً نام كثيراً فخسر كثيراً. قال الحسن: «حتى إذا أخذته الكظة، ونزلت به البطنة، قال: يا غلام، ائتني بشيء أهضم به طعامي، يا لكع أطعامـك تهضم؟ إنما تهضم دينك».
وأخيرا نقول للذين لا يراعون آداب الصوم: كفاكم جوعـاً وعطشاً، وأقبلوا على الله قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، إنه خير مسئول، وهو البر الرحيم ذو القوة المتين. وحسبكم هذه المقولة الرائعة لسيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه حيث يقول: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينه يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك وفطرك سواء».
الهوامش والمصادر
(1)رواه ابن ماجة عن أنس ( صحيح ) 1302 في صحيح الجامع (2) رواه ابن ماجة عن أبي هريرة ( صحيح ) 3488 في صحيح الجامع. (3) رواه أحمد عن عمار بن ياسر ( صحيح ) 1626 في صحيح الجامع (4) رواه ابن ماجة عن أبي هريرة ( صحيح ) 3488 في صحيح الجامع (5) إحياء علوم الدين 1 /277 (6) رواه النسائي عن أبي أمامة ( حسن ) 1856 في صحيح الجامع (7) رواه البخاري عن النعمان بن بشير – كتاب الإيمان رقم 50، ومسلم كتاب المساقاة رقم 2996 (8) رواه أبو داود – كتاب النكاح رقم 1836 (9) رواه البخاري عن أبي هريرة – كتاب الصوم رقم 1770 (10) رواه مسلم عن أبي هريرة – كتاب الصوم رقم 1941 (11) رواه مسلم عن أبي هريرة – كتاب الإيمان رقم 67 (12) رواه مالك وأحمد عن بلال بن الحارث ( صحيح ) 1619 في صحيح الجامع (13) رواه أحمد والترمذي عن ابن عمرو ( صحيح ) 6367 في صحيح الجامع.
- نداء الريان فقه الصوم د / سيد العفانى – دار العلم ط الثانية
- البحر الرائق / أحمد فريد – مكتبة الإيمان – الإسكندرية
- مجالس شهر رمضان / العثيمين – مكتبة آل ياسر - دروس الزمان / سعيد عبد العظيم - مكتبة الإيمان – الإسكندرية
التعليقات