عناصر الخطبة
1/العيد من شعائر الإسلام 2/العيد والتسامح والتزاور 3/أهمية الفرح بالعيدِ والأنس به 4/فضل بر الوالدين ومظاهره 5/التحذير من قطيعة الأرحام 6/العيد فرصة للتآلف والتواصل والتراحم 7/مراعاة حقوق إخواننا المشردين المعذبين 9/صيام الست من شوال.اقتباس
يأتي العيدُ وأمتُنا تعاني من جراحاتٍ غائرةٍ وأزماتٍ حالكةٍ وأحوالٍ قاهرةٍ.. فكم في أمتِنا من شريدٍ وطريدٍ! وكَمِدٍ كئِيبٍ! قد افترشَ الهمَّ وتوسدَ القلقَ، وحسيرٍ وكسيرٍ قد غصَّ بريقِه وخنقَته عبرتُه.. ولقد ادلهمَ بنا الخطبُ وهُنَّا على الناسِ هواناً عظيماً.. وتداعت علينا الأممُ.. ومع ذلك كلِه نحن متعبدون بأن نفرحَ بعيدنا ونبتهجَ به.. ولن نتلقاه بهممٍ فاترةٍ، ولا حسٍّ
الخطبة الأولى:
الحَمدُ للهِ كَثِيرًا واللهُ أَكبَرُ كَبِيرًا والحَمدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِلإِيمَانِ، وَمَنَّ عَلَينَا بِإِدرَاكِ شَهرِ رَمَضَانَ، وَوَفَّقَنَا فِيهِ لِلطَّاعَةِ وَالبِرِّ وَالإِحسَانِ، وأَعَانَنَا فِيهِ عَلَى الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ، وَيَسَّرَ لَنَا قِرَاءةَ القُرآنِ وَالقِيَامَ، وَأَفَاضَ أَلسِنَتَنَا بِالدُّعَاءِ وَالذِّكرِ وطَلَبِ الغُفْرَان، فَلَهُ الحَمدُ والشُّكرُ وَالامْتِنَان.
أَشهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ المَلِكُ الدَيَان، شَهَادَةً أَرجُو بِهَا النَّجَاةَ يَومَ النُّشُورِ، وَأُعِدُّهَا لِيَومٍ تُبَعثَرُ فِيهِ القُبُورُ، وَيُحَصَّلُ مَا في الصُّدُورِ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُاللهِ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِن خَلقِهِ وَخَلِيلُهُ، بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الأَمَانَةَ وَنَصَحَ لِلأُمَّةِ، وَجَاهَدَ في اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى أَتَاهُ اليَقِينُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّاهِرِينَ وسَلَّمَ تَسْلِيْماً كَثِيراً..
اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، وَللهِ الحَمدُ.
أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله -تعالى- واعرفوا فضلَه عليكم بعيدِ الفطرِ السعيد، وهو أولُ يومٍ من أيامِ الحجِ إلى بيتِه الحرامِ.
وهذا العيدُ عظيمُ الشأنِ عندَ اللهِ، ومما يدلُ على عِظمِ شأنِه أَنَّ اللهَ قرنَه بشعيرةٍ عظيمةٍ من شعائرِ الإسلامِ العامةِ التي لها جلالُها وروحانيتُها، وهي شهرُ رمضانَ؛ فجاءَ عيدُ الفطرِ مِسك ختامِه، وكلمة الشكرِ على تمامِه.
العيدُ -معاشرَ الأحبةِ- مظهرٌ من مظاهرِ الدينِ، وشعيرةٌ من شعائرِه المعظمةِ، وشعائرُ الدينِ هي: أعلامُه الظاهرةُ، التي تعبَّدَ اللهُ بها عبادَه، وشعائرُ الدينِ، قد أَمَرَنا اللهُ -تعالى- بتعظيمِها فقال: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج:32].
إذاً العيدُ: شعيرةٌ تنطوي على حِكمٍ عظيمةٍ، ومعانٍ جليلةٍ، وأسرارٍ بديعةٍ لا تعرفُها الأممُ في شتَّى أعيادِها.. فهو موسمُ الفضلِ والرحمةِ، وشكر الله على تمامِ العبادةِ، لا يقولُها المؤمنُ بلسانِه فحسب، ولكنها تعتلجُ في سرائرِه رضاً واطمئناناً، وتنبلجُ في علانيتِه فرحاً وابتهاجاً.. قالَ العلماءُ: "إظهارُ السرورِ في الأعيادِ من شعائرِ الدينِ".
والعيدُ: يومُ المسلمين يجمعُهم على التسامحِ والتزاورِ وتبادلِ التهاني فيه، ويومُ الأصدقاءِ يجددُ فيهم أواصرَ الحبِ ودواعي القربِ، ويومُ النفوسِ الكريمةِ تتناسى أضغانَها، فتجتمعُ بعد افتراقٍ، وتتصافى بعد كدرٍ، وتتصافحُ بعد انقباضٍ، ويجتمعُ الناسُ فيه في تواؤمٍ على الطعامِ وهوَ منْ شعائرِ الإسلامِ التي سنَّها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، كما قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمه الله-: "جَمْعُ النَّاسِ لِلطَّعَامِ فِي الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ، وَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ الإِسْلامِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلْمُسْلِمِينَ" وفي هذا كلِّه تجديدٌ للرابطةِ الاجتماعيةِ على أقوى ما تكونُ من الحبِ والوفاءِ والإخاءِ..
اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، وَللهِ الحَمدُ.
والعيدُ: قطعةٌ من الزمنِ خُصصَت لنسيانِ الهمومِ، واطْرَاحِ الكُلفِ، واستجمامِ القوى الجاهدةِ في الحياةِ.. مهما كانت ظروفُ الأمةِ؛ فالفرحُ بالعيدِ والأنسُ به تعبدٌ للهِ نحنُ مأمورُون به.. ولا يعني نسيانَ قضايَانا وجراحِنا النازفةِ، وهذا من عظمةِ هذا الدينِ وكمالِه..
والعيدُ: يومُ الوالدين يجددُ فيه الأولادُ ما خبا من مظاهرِ البرِ، ويذكون في نفوسِهم مشاعرَ الامتنانِ؛ فقد قَضى ربُنا –سبحانه- قضاءً دينياً، وأمر أمراً شرعياً أَنْ لا نَعْبُدَ إِلا إِيَّاهُ، وقضى بالإحسانِ إلى الوالدين بجميعِ وجوهِ الإحسانِ القولي والفعلي؛ لأنهما سببُ وجودِنا، ولهما من المحبةِ للولدِ والإحسانِ إليهِ والقربِ منه ما يقتضي تأكدَ الحقِ ووجوبَ البرِ…
ولقد أوضحَ اللهُ للأمةِ أهميةَ رابطةِ الأسرةِ ببذرتِها الأولى؛ حيثُ جعلَها الرابطةَ الثانيةَ بعد رابطةِ العقيدةِ، فقال محدداً لأهمِها وهو برّ الوالدين: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..)[الإسراء:23]. وهذا الطلبُ للإحسانِ إليهِما إعلانٌ لقيمةِ هذا البرِ عند الله..
وأكدَ هذا الإحسانَ بصورةٍ موحيةٍ فقال: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 24]، وهذا التعبيرُ الشفافُ اللطيفُ الذي يبلغُ شِغافَ القلبِ وحنايا الوجدانِ.. جعل الرحمةَ ترقُ وتلطفُ حتى لكأنها الذلُ الذي لا يرفعُ عيناً، ولا يرفضُ أمراً..! وكأنما للذلِ جناحٌ يخفضُه إيذاناً بالسَلَامِ والاستسلام..
(وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) نعم إنها الذكرى الحانيةُ.. ذكرى الطفولةِ الضعيفةِ يرعاها الولدان.. وهما اليوم في مثلِها من الضعفِ والحاجةِ إلى الرعايةِ والحنانِ.. ومن أعظمِه التوجهُ إلى اللهِ أَنْ يرحمَهما؛ فرحمةُ اللهِ أوسعُ، ورعايةُ اللهِ أشملُ، وجنابُ اللهِ أرحبُ، وهو أقدرُ على جزائِهما بما بَذَلا مما لا يقدرُ على جزائِه الأبناء..
اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، وَللهِ الحَمدُ.
وجعل رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- البرَّ بهما سببًا لدخولِ الجنةِ، فقَالَ: "رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ" قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ).
وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "نِمْتُ، فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ" فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ"، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ. (رواه أحمد وغيره عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وإسناده صحيح).
اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، وَللهِ الحَمدُ.
والعيدُ أيها الأحبة: يومُ الأرحامِ يجمعُها على البرِ والصلةِ، بعدما قطعَها بعضُنا بسببِ أمورٍ دنيويةٍ.!
عجباً لنا كيف نقطعُها! ورَسُولُنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ" ترون بماذا أجابَها اللهُ -تعالى-؟ "قَالَ: نَعَمْ".! نعم لقد نَزَّلَهَا اللهُ مَنْزِلَةَ مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَها، وَأَدْخَلَها فِي ذِمَّتِهِ وَخِفَارَتِهِ، فما أعظمَها من منزلَةٍ، وما أقواه من جوارٍ؛ فَجَارُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْذُولٍ وَعَهْدُهُ غَيْرُ مَنْقُوضٍ.. وَلِذَلِكَ أكد اللهُ هذا الجوار بقوله: "أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ).
وفي بيانٍ عظيمٍ من اللهِ –تعالى-، يزلزلُ القلوبَ الواعيةَ ويُفْزِعُها، ويوقظُ الأحَاسيسَ الرَاقدةَ ويهزُها.. ينادي اللهُ -تعالى- بكبريائِه وعظمَته الرَّحِمَ ويمنحُها الجوارَ والخفارةَ، يقولُ الرَسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "يَقُولُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: أَنَا اللَّهُ.. وَأَنَا الرَّحْمَنُ.. خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْماً مِنْ اسْمِي؛ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُه أَو قال: بَتَتُّهُ"(رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ).
ثم علقها الرحمنُ الرحيمُ بعرشِه الكريمِ وأذن لها أن تدعو و"تَقُولُ: مَنْ وَصَلَني وَصَلَهُ اللهُ، ومن قَطَعَنِي قَطَعَهُ الله"(أخرجه البخاري ومسلم).
أيها الأحبة: هل بعد هذا التحذيرِ من القطيعةِ والتهديدِ والوعيدِ الشديدِ عليها يبقى لذي عقلٍ من فسحةٍ؟ وهل له من حجةٍ مقبولةٍ يحتجُ بها أمامَ ربِّه، ويخرجُ من هذا الجوارِ الرباني والخفارةِ الإلهية؟ أسألُ اللهَ لنا الهداية..
اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، وَللهِ الحَمدُ.
أيها الإخوة، أيتها الأخوات، أيها الأبناء، أيتها البنات: ائذنوا لي بهذا النداءِ.. أدعوكم وأناديكم في هذا اليومِ العظيمِ، ونحن على إثرِ عبادةٍ عظيمةٍ، وفي يومٍ عظيمٍ من أيامِ الله.. ومن هنا من منبرِ الحقِ منبرِ رسولِ الله، أدعوكم وأرجوكم، نعم أرجوكم رجالاً ونساءً صغارًا وكبارًا أن ترفعوا شعارًا في هذا العيدِ تبادرون به كلَّ أبٍ وأمٍ وكلَّ ذي رحمٍ من الأولادِ والإخوةِ والأخواتِ والأعمامِ والعماتِ والأخوالِ والخالاتِ وأبنائهم..
ليقل كلُ عاقٍ أو قاطعٍ أو مقصرٍ لأبيه: "أبي أريدُ برَّك فسامحني وأعني".. وليقل لأمه: "أمي أريدُ برَّك فسامحيني وأعينيني".. وليقل لكلِ واحدٍ من قرابتِه أخي أختي عمي عمتي خالي خالتي ابن عمي أريدُ صلتَكم فأعينوني وتَقَبْلُونِي.. عفوتُ عنكم للهِ فاعفوا عني للهِ.. رجاءَ عفوِ الله -تعالى- القائل: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[الشورى:40]، عفوتُ وصفحتُ امتثالاً لأمرِ ربِنا، ورجاءَ مغفرتِه، فهو القائل: (..وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[النور: 22]؛ فمن كان بينه بين قريبٍ له أيُّ خلافٍ فليبادر بهذا العيدِ السعيدِ وليقل: "عفوتُ، أحبُ أن يغفرَ اللهُ لي"..
اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، وَللهِ الحَمدُ.
أما ما يتعللُ به بعضُنا من أعذارٍ مثل قولِهم: كرامتي أُهينت، أو أنا لا أستطيعُ غصبٍ عليَّ، ومستحيل أنسى.. إلى آخر تلك القائمة السوداء من المعاذيرِ غيرِ الصحيحةِ.. أقولُ لهم بلا تحفظٍ: ألقوها في زبالةِ الماضي القاطعِ الآثم.. واستبدلوها بالصلةِ والعفوِ.. وأبشروا بالعفوِ والمغفرةِ والرضوان.. والوصلِ من الرحيمِ الرحمن.. والأجورِ الكثيرةِ من الكريمِ ذي الامتنان.. والبركةِ في العمرِ والمالِ والأهلِ والأوطانِ.. فقد قال سيدُ الأنامِ: "إِنَّ أَعْجَلَ الطَّاعَةِ ثَوَابًا صِلَةُ الرَّحِمِ؛ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ لِيَكُونُوا فَجَرَةً فَتَنْمُو أَمْوَالُهُمْ وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ إِذَا تَوَاصَلُوا، وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَتَوَاصَلَونَ فَيَحْتَاجُونَ"(رواه ابن حبان عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقال الألباني: حسن لغيره).
وفي لفظ عند غيره: "مَا مِنْ ذنبٍ أجدرُ أن يُعَجلَ اللهُ لصاحبِه العقوبةَ مع ما يدخرُ لَهُ في الآخرةِ من قطيعةِ الرحمِ والخيانةِ والكذبِ، وإن أَعجلَ البرِ ثواباً لصلةُ الرحمِ حتى إن أهلَ البيتِ ليكونوا فقراءَ فتنموا أموالُهم ويَكْثُرُ عددُهم إذا تواصلوا".
وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"(رواه البخاري).
اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، وَللهِ الحَمدُ.
ولئن كان دينُنا أوجبَ علينا صلةَ الرحمِ في نطاقِ الأسرةِ، فهو في الوقتِ ذاتِه أوجبَ علينا اجتماعَ الكلمةِ بين الراعي والرعية، وأكدَ على ضرورتِها في كلِ الظروفِ في المنشطِ والمكرهِ وفي العسرِ واليسرِ، ونحن بهذا نقطعُ الطريقَ على المرجفين والمغرضين.. ولا ندعُ مجالاً للشائعات أن تنالَ من تماسكنا مع ولاةِ أمرِنا.. حفظَ اللهُ بلادَنا وقادَتها من كلِ سوءٍ.
وفي العيدِ يُهدي الناسُ بعضُهم إلى بعضٍ هدايا القلوبِ المُخلصةِ المُحِبة، وكأنما العيدُ روحُ الأسرةِ الواحدةِ في الأمةِ كلِها.
في العيدِ تتسعُ روحُ الجوارِ وتمتدُ، حتى يرجعَ البلدُ العظيمُ وكأنه لأهلِه دارٌ واحدةٌ يتحققُ فيها الإخاءُ بمعناه العملي.
في العيدِ تنطلقُ السجايا على فطرتِها، وتبرزُ العواطفُ والميولُ على حقيقتِها.
والعيدُ مع ذلك كلِّه ميدانُ استباقٍ إلى الخيراتِ، ومجالُ منافسةٍ في المكرمات.
إذاً السرُّ في العيدِ ليس في يومِهُ الذي يبتدئُ بطلوعِ الشمسِ وينتهي بغروبِها، وإنما السرُّ فيما يُعْمَرُ به ذلك اليومِ من أعمالٍ، وما يَغْمُرُه من إحسانٍ وأفضالٍ، وما يغشى النفوسَ المستعدَّةَ للخيرِ فيه من سموٍّ وكمالٍ؛ فالعيدُ إنما هو المعنى الذي يكونُ في العيدِ, لا اليومُ نفسُهُ.
اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، وَللهِ الحَمدُ.
أيها الأحبة: عيدكم مباركٌ وعيدكم سعيدٌ، افرحوا بعيدِكُم أفراحًا كثيرةً؛ فرحةً بفضلِ اللهِ ورحمتِه، وكريمِ إنعامِه، ووافرِ عطائه، وفرحةً بالهدايةِ يوم ضلَّت فئامٌ من البشرِ عن صراطِ اللهِ المستقيم، فرحةً بتوفيقِ اللهِ وعونِه على ما يسّر من صيامٍ وقيامٍ وصدقةٍ وتلاوةٍ للقرآنِ.. وفرحةً ببلوغِ التمامِ وإدكِ عيدِ الفطرِ من الصيامِ.
أيها الإخوة والأخوات: يأتي العيدُ وأمتُنا تعاني من جراحاتٍ غائرةٍ وأزماتٍ حالكةٍ وأحوالٍ قاهرةٍ.. فكم في أمتِنا من شريدٍ وطريدٍ! وكَمِدٍ كئِيبٍ! قد افترشَ الهمَّ وتوسدَ القلقَ، وحسيرٍ وكسيرٍ قد غصَّ بريقِه وخنقَته عبرتُه.. ولقد ادلهمَ بنا الخطبُ وهُنَّا على الناسِ هواناً عظيماً.. وتداعت علينا الأممُ كما تداعى الأكلُة على قصعتِها..
ومع ذلك كلِه نحن متعبدون بأن نفرحَ بعيدنا ونبتهجَ به.. ولن نتلقاه بهممٍ فاترةٍ، ولا حسٍّ بليد، ولا شعورٍ باردٍ، ولا أسَارِيرَ عابسةٍ، ففي ديننا -ولله الحمد- فسحةٌ، وللعيد صبغةٌ روحيَّةٌ تؤثِّرُ ولا تتأثَّرُ.
ولئن كان من حقِ العيدِ أن نَبْهَجَ به ونفرحَ، ونتبادلَ به التهاني، ونطّرحَ الهمومَ، ونتهادى البشائرَ.. فإن حقوقَ إخوانِنا المشردين المعذبين شرقاً وغرباً تقضى أن نحزنَ لمحنتِهم ونغتمَ، ونُعْنَى بقضاياهم ونهتمَ، لكن لا يعني هذا أن نلبسَ لباسَ الحزنِ ونتدثرَ بدثارِ الهمِ والوجومِ، فالمجتمعُ السعيدُ الواعي هو ذلك الذي تسمو أخلاقُه في العيدِ، إلى أرفعِ ذروةٍ، ويمتدُ شعورُه الإنساني إلى أبعدِ مدى، وذلك حين يبدو في العيدِ متماسكاً متعاوناً متراحماً، حتى لَيَخْفِقُ فيه كلُ قلبٍ بالحبِ والبرِ والرحمةِ، ولا ينسى أبناؤه مصائبَ إخوانِهم في الأقطار حين تنزلُ بهم الكوارثُ والنكباتُ.
ولا يرادُ منا تَذْرافُ الدموعُ، ولبسُ ثيابِ الحدادِ في العيدِ، ولا يرادُ منا أن نعتكفَ مَرْزُوئين بفقدِ إخواننا، ونمتنعَ عن الطعامِ، كما يفعلُ الصائمُ.
وإنما يرادُ منا أن تظهرَ أعيادُنا بمظهرِ الأمةِ الواعيةِ، التي تلزمُ الاعتدالَ في سَرَّائِها وضَرَّائِها؛ فلا يَحُوْلُ احتفاؤها بالعيدِ دون الشعورِ بمصائبها التي يرزحُ تحتَها فئامٌ من أبنائها.
هكذا أمرُنا يا أهلنا في فلسطين وسوريا وبروما والعراق واليمن ويا كلَ أخٍ لنا في شدةٍ وضيقٍ.. فأفقُ الإسلامِ أوسعُ من آفاقنا ولا سواء بيننا وبين أعداءنا.. (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ)[النساء: 104]، وقتلانا -إن شاء اللهُ- من الشهداءِ وقتلاهم في النارِ، ومصابنا مأجورٌ ومصابهم معذبٌ مقهور..
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وأتبعوا صيامَ رمضانَ بستٍ من شوال؛ فقد حث على ذلك نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وقال: "من صامَ رمضانَ وأتبعَه بستٍ من شوال فكأنما صامَ الدهرَ كلَّه".
ومن جاءَ من طريقٍ يُشرعُ له أن يعودَ من طريقٍ آخرٍ كما هي سُنةُ نبيكم -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم إن هؤلاء عبيدُك أتوكَ راغبين بعفوِك، اللهم لا تفضَّ جمعَهم إلا بمغفرةِ ذنوبِهم، وحقِّق لكلِ واحدٍ منا ما تمنى من خيري الدنيا والآخرة من غير إثمٍ أو قطيعةِ رحمٍ.
التعليقات