عناصر الخطبة
1/شدة شوق ثوبان للنبي وتمنيه رؤيته في الجنة 2/حقيقة محبة النبي ومظاهرها 3/ما أحدثه الناس مما يخالف محبة النبي 4/الصحابة أشد الناس محبة واتباعا للنبي 5/المقياس الصحيح لمحبة النبي -عليه الصلاة والسلام-.اقتباس
من أراد مرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة فلابد له من طاعة الله ورسوله، والالتزام بالأوامر والنَّواهي الواردة منهما، فهذا هو السبيل الوحيد لمرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فهم أفضل رفقةٍ يصحبها المرءُ ويأنس بها...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الذي بعث فينا محمدًا نبيًا ورسولًا، وجعله سراجًا وقمرًا منيرًا، وأخرجنا به من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمة إلى النور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ حقَّ التقوى؛ فالتقوى هيَ وصيةُ اللهِ لجميعِ خلقهِ، ووصيةُ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- لأمتهِ؛ قال -تعالى-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا)[النساء: 131].
عبادَ اللهِ: كانَ ثوبانُ مولى رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- شديدَ الحبِّ لهُ، قليلَ الصبرِ عنهُ، فأتاهُ ذاتَ يومٍ وقدْ تغيّر لونهُ، ونحلَ جسمهُ، يُعرفُ في وجههِ الحزنُ، فقالَ لهُ النبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "مَا غيرَ لونكَ؟"؛ قال: يا رسولَ اللهِ، ما بي ضرٌّ ولا وجعٌ؛ غيرَ أني إذا لمْ أركَ اشتقتُ إليكَ، واستوحشتُ وحشةً شديدةً حتى ألقاكَ، ثمَّ ذكرتُ الآخرةَ وأخافُ أنْ لا أراكَ هناكَ؛ لأني عرفتُ أنكَ ترفعُ معَ النبيينَ، وأني إنْ دخلتُ الجنةَ كنتُ في منزلةٍ هيَ أدنى منْ منزلتكَ، وإنْ لمْ أدخلْ لا أراكَ أبدًا، فأنزلَ اللهُ - عزَّ وجلَّ – قولَه: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا)[النساء: 69]؛ قال الكلبي: "نزلت في ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-".
فاتضح لنا من هذه الآية أنه من أراد مرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة فلابد له من طاعة الله ورسوله، والالتزام بالأوامر والنَّواهي الواردة منهما، فهذا هو السبيل الوحيد لمرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فهم أفضل رفقةٍ يصحبها المرءُ ويأنس بها، وقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"(متفق عليه).
من التزام ثوبان -رضي الله عنه- بأمر الطَّاعة لله والرسول، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حين قال -فيما رواه الحاكم في (المستدرك)-: "مَنْ تَكَفَّلَ لِي أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا فَأَتَكَفَّلَ لَهُ بِالْـجَنَّةِ"، فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل الناسَ شيئًا؛ وذلك من شِدَّة التزامه بتوجيهات رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وطاعته لله ورسوله.
وحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يكتمل به الإيمان ليس حبا عاديًّا، وإنما حًّبا يقدم على حبِّ الوالد والولد، بل وعلى حبِّ النفس أيضا، فعن عبدالله بن هشام -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: "يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي"؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسِك"، فقال له عمر: "فإنه الآن -والله- لأنت أحب إلي من نفسي"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الآن يا عمر"(رواه البخاري).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "محبة الله بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وأكبر أصوله، وأجلِّ قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدِّين؛ قال -تعالى-: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[التوبة: 24]"؛ قال القرطبي -رحمه الله-: "في الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب"، وفي الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين".
عباد الله: إن منْ رحمةِ اللهِ بنا أنْ بعثَ فينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، وأمرنا بالإيمانِ بهِ وتصديقهِ، واتباعهِ، والاقتداءِ بهِ، والانتصارِ لهُ، ومحبتهِ، وتقديمهِ على النفسِ والمالِ والولدِ؛ فعلى يديهِ كملَ الدينُ، وبهِ ختمتِ الرسالاتُ، وأرسلَ إليهِ أفضلَ الشرائعِ، وأنزلَ إليهِ أفضلَ الكتبِ، فهوَ خليلُ اللهِ، وهوَ كليمُ اللهِ، وهوَ صفيهُ، وهوَ رسولهُ، وهوَ حبيبهُ.
عبادَ اللهِ: ليس كل من ادعى حب النبي -صلى الله عليه وسلم- صدق في حبه، وإنما الدليل على صدق حب المرء للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.
فطبق هذا المقياس على نفسك، هل أنت ممن يطيعه في أوامره، ويصدقه في كل ما أخبر به؟ وهل تجتنب كل نواهيه وزواجره؟ وهل تعبد الله وفق ما جاء به؟ أم أنك تعبد الله بأمور محدثة لم تثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن صحابته الأخيار -رضوان الله عليهم-، إذن هذا هو المقياس الحقيقي لحب النبي -صلى الله عليه وسلم-، طبقه على نفسك لتعلم هل أنت صادق في حبك له أم غير ذلك.
تعالوا لنذكر بعض الأمور التي أحدثها بعض الناس اليوم بحجة حبهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- فمنها:
الاستغاثة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أو التبرك بقبره أو قبور الصالحين؛ لشفاء المرضى وكشف الضر وغير ذلك، هل هذا الفعل من الأمور التي أمر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- أم أنه عمل محدث؟!.
فمهما بحثت لن تجد دليلًا صحيحًا يدل على ذلك بل عمل أحدثه الناس، والتبرك بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في حياته، أما بعد مماته فلم يبقَ من آثر بركته إلا الإكثار من الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمن أراد البركة والشفاء وتفريج الهموم فليكثر من الصلاة والسلام عليه، فـ"من صلى عليًّ واحدة؛ صلى الله عليه بها عشرًا"، وهذا ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة مثل حديث قصة أُبي؛ قال أُبَيٌّ: قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إِنَّي أُكْثِرُ الصلاةَ عليْكَ فكم أجعَلُ لكَ من صلاتِي؟ فقال: "ما شِئْتَ"؛ قال: قلتُ الربعَ؟ قال: "ما شِئْتَ، فإِنْ زدتَّ فهو خيرٌ لكَ"، قلتُ: النصفَ؟ قال: "ما شئتَ، فإِنْ زدتَّ فهو خيرٌ لكَ"؛ قال: قلْتُ: فالثلثينِ؟ قال: "ما شئْتَ، فإِنْ زدتَّ فهو خيرٌ لكَ"، قلتُ: أجعلُ لكَ صلاتي كلَّها قال: "إذًا تُكْفَى همَّكَ، ويغفرْ لكَ ذنبُكَ".
هذه هي البركة التي ثبتت بالأحاديث الصحيحة، أما التبرك بقبره أو قبور الأولياء والصالحين والاستغاثة بها، والاحتفال بالمولد النبوي، فهذه بدع محدثة لا أصل لها، ولوكان فيها خير ودلالة على محبة العبد للنبي -صلى الله عليه وسلم- لكان أول من احتفل به بعد وفاته أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وابن عمه علي بن أبي طالب وبقية الصحابة -رضي الله عنهم-، ولو كان صحيحا لاحتفلن به زوجاته وأولهنّ أحب النساء إليه عائشة -رضي الله عنها وعن جميع صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
إن أول من أَحدث الموالد هم الفاطميون في القرن الرابع؛ لإفساد الدين فابتدعوا ستة موالد: المولد النبوي، ومولد على، وفاطمة، والحسن، والحسين، والخليفة الحاضر، ومقصودهم من هذه الموالد الستة استغفال العوام؛ ليتمكنوا من نشر مذهبهم الإسماعيلي الباطني، وعقائدهم الفاسدة بين الناس، وإبعادهم عن دين الله.
وعملوا المولد النبوي وموالد أهل البيت، وأقاموا الموائد وأحسنوا إلى الفقراء؛ خبثًا ودسيسة على أهل الإسلام؛ لاستمالة قلوب العوام ومن لا دراية لهم بدينهم.
فمن جاء ينكر فما ينكر؟ ينكر إطعام الطعام أم الصدقة أم تلاوة القرآن أم مدح الرسول وإظهار حبه؟! فلما حاربوا السنة انفسح لهم المجال لنشر البدعة.
ومن اطلع على مكرهم لم يستطع الإنكار؛ لما ينتظره من القمع والتعذيب، وشيئًا فشيئًا راجت البدعة واعتادها الناس وتعلقوا بها؛ لما حفّها من الترغيب والترهيب.
ومن هنا نقول: إن الثلاثة القرون الأولى التي هي خير القرون لم تحتفل بالمولد، وإنما حدث من القرن الرابع، فهل نقتدي بخير القرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم، أم نقتدي بالفاطميين ومن سار على نهجهم؟ فأين الخير يا ترى؟.
فهل لديكم دليل صحيح على صحة ما تفعلون؟ (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[البقرة: 111]، فإن أثبتم بالدليل الصحيح اتبعناكم، فكلنا نريد أن نعبر عن حبنا لحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإن لم يكن عندكم ما تثبتون به صحة فعلكم فتوبوا إلى ربكم، فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها-: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه؛ فهو رد".
لقد أحبهُ أصحابهُ -رضي الله عنهمْ- حبًّا ما سمعَ التاريخُ بمثلهِ، سئلَ عليٌّ بنُ أبي طالب -رضي الله عنه-: كيفَ كانَ حبكمْ لرسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالَ: "كانَ -واللهِ- أحبَّ إلينا منْ أموالنا وأولادنا وأبنائنا وأمهاتنا، ومنَ الماءِ الباردِ على الظمأِ"، ومع ذلك لم يحدثوا بدعا، ولم يتجاوزا ما أمرهم الله ورسوله به؛ ليعبروا عن حبهم لنبيهم، والخير كل الخير في هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحابته المهديين من بعده -رضي الله عنهم أجمعين-.
باركَ اللهُ لي ولكمْ بالقرآنِ العظيمِ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ الذي جعلَ محبتهُ -صلى الله عليه وسلم- منَ الإيمانِ، وجعلَ سُنتهِ طريقًا لدخولِ الجنانِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، أمرَ بمحبةِ النبيِّ العدنانِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ خيرَ مَنْ صلى وصامَ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ الكرامِ، أما بعدُ:
أيها المسلمونَ: إن من يتخلف عن صلاة الجماعة، ولا يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ولا يؤدي زكاة ماله، ولا يصوم ما أوجب الله عليه، ولا يجتنب أكل الحرام ولا ارتكاب ما حرم الله من الفواحش، ولا يصل الارحام، ولا يبر والديه، ولا يقتدي بالرسول -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله، أو يتشبه بالكفار في لباسهم وعاداتهم وعباداتهم، ثم يدعي حب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فهذا كاذب في حبه للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه لم ينطبق عليه المقياس الذي ذكرناه في الخطبة الأولى الدال على صدق محبة العبد للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
لواءكَ الحمدُ يومَ الدينِ ترفعهُ *** يمناكَ يا سعدَ منْ تلقاهُ بالدعمِ
أنتَ الشفيعُ لنا في يومِ شدتنا *** تقومُ وحدكَ كلُّ الرسْلٍ لمْ تقمِ
يقولُ كلُّ نبيِّ منْ تهيبهِ نفسي *** فتسجدُ للرحمنِ منْ أمَمِ
تقولُ أنتَ لها يدعوكَ خالقنا اشفعْ *** تشفعْ هنا للخلقِ كلهمِ
أنتَ الشفيعُ الذي ترجى شفاعتهُ *** يومَ الزحامِ منَ الأهوالِ والنقمِ
أنتَ الكريمُ الذي عمتْ مكارمهُ *** كلُّ الخلائقِ منْ عربٍ ومنْ عجمِ
ثمَّ اعلموا -يا عبادَ اللهِ- أنَّ منْ علاماتِ حبهِ -صلى الله عليه وسلم- كثرةُ الصلاةِ والسلامِ عليهِ في كلِّ وقتٍ وحينٍ؛ ففي ذلكَ الراحةُ والطمأنينةُ والأجرُ والثوابُ، وهوَ دليلٌ على هذا الحبِّ.
فاللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على نبينا محمدٍ، وارضَ اللهمَّ عنْ خلفائهِ الراشدينَ، وآلِ بيتهِ الطاهرينَ وعنْ الصحابةِ أجمعينَ، وعنِ التابعينَ، ومنْ تبعهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وعنا معهمْ بمنكَ ورحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
التعليقات