اقتباس
الصحابة عدالتهم وعلو مكانتهم
مصطفى قاسم عباس
نجومُ الهدى، وبدورُ التُّقى، نجومٌ لوامعُ، وبدورٌ طوالعُ، رهبانُ الليل، وفرسانُ النهار، كحَّلوا عيونَهم بنورِ المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشرَّقوا بالإسلام وغرَّبوا حتى انتشرَ في كلِّ البلاد والأصقاع، أنصارٌ نصَروا الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومهاجِرون هاجروا في سبيلِ الله تاركين دِيارَهم وأموالهم.
يعجِز اللسانُ عنِ الإحاطةِ بقدْرِهم، ويقِف القلمُ عاجزًا عن ذكْر كامل مآثِرِ هم وفضْلهم، وهم كما قال الشاعر:
عَهْدِي بِهِمْ تَسْتَنِيرُ الأَرْضُ إِنْ نَزَلُوا
فِيهَا وَتَجْتَمِعُ الدُّنيَا إِذَا اجْتَمَعُوا
وَيَضْحَكُ الدَّهْرُ مِنْهُمْ عَنْ غَطَارِفَةٍ[1]
كَأَنَّ أَيَّامَهُمْ مِنْ أُنْسِهَا جُمَعُ[2]
حَملوا رايةَ الإسلام بعدَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خَفَّاقةً في أنحاء المعمورة، وأعزَّ الله بهم الإسلامَ وأهلَه، فلهُم فضلٌ علينا إلى يومِ الدِّين.
فَمَا العِزُّ لِلْإِسْلاَمِ إِلاَّ بِظِلِّهِمْ ♦♦♦ وَمَا الْمَجْدُ إِلاَّ مَا بَنَوْه فَشَيَّدُوا
بدايةً:
لقد عرَّف البخاريُّ الصحابيَّ في صحيحه فقال: "مَن صَحِبَ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو رآهُ مِن المُسْلِمِينَ فهو مِن أصْحَابِه"، فالصحابيُّ: هو مَن لقي النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مؤمنًا به، وماتَ على الإسلام.
وهذا التعميم في تعريفِ الصحابي؛ نظرًا إلى أصلِ فضْل الصُّحبة، ولشرفِ منزلة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولأنَّ لرؤية نور النبوة قوةَ سريانٍ في قلْب المؤمِن، فتظهر آثارُها على جوارحِ الرَّائي في الطاعةِ والاستقامة مدَى الحياة، ببركتِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويَشهد لهذا قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((طُوبَى لِمَن رآنِي وآمَنَ بي، وطُوبَى لِمَن آمَنَ بي وَلَمْ يَرنِي سَبْعَ مِرارٍ))؛ رواه أحمد في مسنده.
فالصحابيُّ بهذا التعريفِ قد حصَل على "شرَف الصُّحبة وعِظم رُؤية النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وذلك أنَّ رؤيةَ الصالحين لها أثرٌ عظيمٌ، فكيف برؤية سيِّد الصالحين؟! فإذا رَآه مسلمٌ - ولو لحظة - انطَبع قلبُه على الاستقامةِ؛ لأنَّه بإسلامه متهيِّئ للقَبول، فإذا قابَل ذلك النورَ العظيم أشْرَقَ عليه وظهَر أثرُه في قلْبه، وعلى جوارحِه"[3].
وقد ذكَر الله - جلَّ وعلا - الصحابة في كتابِه العزيزِ في أكثرَ مِن موضع، مثنيًا عليهم، ومبيِّنًا فضلَهم؛ فقال - تعالى -: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29].
وقال - جلَّ ذِكْرُه -: ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
وغيرها مِن الآياتِ التي تَذكُرهم بخيرٍ وفضل الصحابة.
كما أثْنى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الصحابة كلَّ الثناء، وبيَّن فضلهم، وأنْ لا أحدَ - مهما بلَغ من التقوى والعبادة - يبلغ جزءًا يسيرًا ممَّا بلغوه، فالناس تَعرِف فضلَ الصحابة، والحديث التالي يبيِّن ذلك؛ قالَ رَسُولُ اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يَأتي على الناسِ زمانٌ فيغزو فِئامٌ مِن الناس، فيقولون: فيكم مَن صاحَبَ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم؟ فيقولون: نعم، فيُفتَح لهم، ثم يأتي على الناسِ زمانٌ فيَغزو فِئامٌ مِن الناس، فيُقال: هل فيكم مَن صاحَبَ أصحابَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم، ثم يأتي على الناسِ زمانٌ فيَغزو فِئام مِن الناس، فيقال: هل فيكم مَن صاحَب مَن صاحَب أصحابَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فيقولون: نعم، فيُفتَح لهم))[4].
وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((النُّجومُ أَمنةٌ للسماءِ، فإذا ذَهبتِ النجومُ، أَتى السماءَ ما تُوعدُ، وأَنا أَمَنةٌ لأَصْحَابي، فإذا ذهبتُ أَتَى أَصْحَابِي ما يُوعدونَ، وأَصْحَابي أَمنةٌ لأُمَّتِي، فإِذا ذهَب أصحابي أتى أُمَّتي ما يُوعَدُون))[5].
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله اختارَ أصحابي على العالَمين، سوى النبيِّين والمرسلين، واختار لي مِن أصحابي أربعةً: أبا بكر، وعمرَ وعثمانَ، وعليًّا - رضي الله عنهم - فجعلهم أصحابي، وقال: في أصحابي كلِّهم خيرٌ، وأختار أمِّتي على الأمم، وأختار مِن أُمَّتي أربعة قرون: القَرنَ الأوَّل والثاني، والثالث والرابع))[6].
كما أنَّ الإمامَ أحمدَ - رضي الله عنه - له كتابٌ كاملٌ في فضائل الصحابة، ذكَر فيه كثيرًا مِن الأحاديث التي تتحدَّث عن فضلهم، نسوق لك طائفةً منها:
• قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهَ اللَّه في أصحابي، لا تَتَّخذوهم غرَضًا بعْدي، فمَن أحبَّهم فبحُبِّي أحبهم، ومَن أبغضهم فببُغْضي أبغضهم، ومَن آذاهم فقدْ آذاني، ومَن آذاني فقدْ آذَى الله - عزَّ وجلَّ - ومَن آذى الله يُوشِكُ أنْ يأخذَه)).
• قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفْسي بيده، لو أنَّ أحدَكم أنفق مِثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحدهم، ولا نصيفَه)).
• قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن سبَّ أصحابي فعليه لَعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يَقبل اللهُ منه صرْفًا ولا عدلاً)).
• قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن حَفِظني في أصحابي كنتُ له يومَ القيامة حافظًا، ومَن سبَّ أصحابي فعليه لَعنةُ الله)).
• وابنُ عُمرَ يقول: لا تَسبُّوا أصحابَ محمَّدٍ، فلَمقامُ أحدِهم ساعة خيرٌ مِن عمل أحدِكم عُمرَه[7].
• ولابن حزم كلمةٌ جميلة في هذا المقام يقول فيها: "ولو عُمِّر أحدُنا الدهرَ كلَّه في طاعاتٍ متصلة، ما وازَى عملُ امرئ صَحِبَ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ساعةً واحدةً فما فوقَها"[8].
فالصحابةُ قدْ أثْنَى الله - عزَّ وجلَّ - عليهم، ورضي رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عنهم، وثبتَتْ عدالةُ جميعهم بثناء الله - عزَّ وجلَّ - عليهم، وثناء رسولِه - عليه السلام - ولا أعدلَ ممَّن ارتضاه الله لصُحبة نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونُصرتِه، ولا تزكيةَ أفضلُ مِن ذلك ولا تعديلَ أكملُ منه[9].
و"للصحابةِ بأسْرِهم خصيصةٌ، وهي: أنَّه لا يُسأل عن عدالةِ أحدٍ منهم، بل ذلك أمْر مفروغٌ منه؛ لكونِهم على الإطلاق معدَّلين بنصوصِ الكتاب والسُّنة، وإجماع مَن يعتدُّ به في الإجماع من الأمَّة.
قال الله - تبارك وتعالى -: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110] الآية، قيل: اتَّفق المفسِّرون على أنها واردة في أصحابِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال - تعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143]، وهذا خطابٌ مع الموجودين حينئذٍ.
وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29] الآية.
وفي نصوصِ السُّنة الشاهِدة بذلك كثرةٌ، منها: حديث أبي سعيدٍ المتَّفق على صحَّته: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفْسي بيدِه، لو أنَّ أحدَكم أنفق مِثل أُحُدٍ ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه)).
ثم إنَّ الأمة مجمِعةٌ على تعديلِ جميع الصحابة، ومنَ لابس الفتنَ منهم: فكذلك بإجماعِ العلماء الذين يُعتدُّ بهم في الإجماع؛ إحسانًا للظنِّ بهم، ونظرًا إلى ما تمهّد لهم مِن المآثر، وكان الله - سبحانه وتعالى - أتاح الإجماعَ على ذلك؛ لكونِهم نقلةَ الشَّريعة"[10].
"فلا يحتاجُ أحدٌ منهم - مع تعديلِ الله تعالى لهم المطَّلع على بواطنِهم - إلى تعديلِ أحدٍ مِن الخَلْق لهم، فهُم على هذه الصِّفة إلا أنْ يثبتَ على أحدهم ارتكابُ ما لا يَحتمل إلا قصد المعصية، والخروجَ من بابِ التأويل، فيُحكَم بسقوطِ عدالتِه، وقدْ برَّأهم الله تعالى مِن ذلك، ورَفَع أقدارهم عنه، على أنَّه لو لم يردْ مِن الله - عزَّ وجلَّ - ورسوله فيهم شيءٌ ممَّا ذكْرناه لأوجبتِ الحالُ التي كانوا عليها، مِن الهجرة، والجهاد، والنُّصرة، وبذْل المُهَج والأموال، وقتْل الآباء والأولاد، والمناصَحة في الدِّين، وقوَّة الإيمان واليقين - القطعَ على عدالتِهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضلُ مِن جميع المعدِّلين والمزكِّين الذين يَجيئون من بعدِهم أبدَ الآبدين، هذا مذهب كافَّة العلماء ومَن يُعتدُّ بقولِه مِن الفقهاء"[11].
وهمْ أعلمُ شيءٍ بالسُّنة، وأعلم شيءٍ بالقرآن الكريم، "فقد بيَّن النبيُّ لهم معانيَ القرآن، وشرَح لهم مُجملَه، وأزال مُشكلَه، وهم أعلمُ بتفسيره لما شاهَدوه مِن القرائِن والأحوال، التي أحاطتْ بنزول القرآن الكريم"[12].
وأوَّلُ مَن رَوى أحاديثَ رسولِ الله أصحابُ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهم لم يَضبطوا ولا حفِظوا في عصرِهم، كما فعَل مَن بعدهم مِن علماء التابعين وغيرهم إلى زَماننا هذا؛ لأنَّهم كانوا مقبِلين على نُصرةِ الدِّين، وجهاد الكافرين إذْ كان المهم الأعظم؛ فإنَّ الإسلام كان ضعيفًا وأهلُه قليلين، فكان أحدُهم يَشغله جهادُه ومجاهدةُ نفْسه في عبادتِه عنِ النَّظر في معيشته، والتفرُّغ لِمُهِمٍّ، ولم يكُن فيهم أيضًا مَن يعرف الخطَّ إلا النَّفر اليسير، ولو حَفِظوا ذلك الزمانَ لكانوا أضعافَ مَن ذكرَه العلماء، ولهذا اختَلف العلماءُ في كثيرٍ منهم؛ فمِنهم مَن جعَله بعضُ العلماء مِن الصحابة، ومنهم مَن لم يجعلْه فيهم، ومعرفة أمورِهم وأحوالِهم وأنسابِهم وسِيرتهم مهمٌّ في الدِّين.
ولا خفاءَ على مَن كان له قلبٌ أو ألْقَى السمع وهو شهيدٌ، أنَّ مَن تبوأ الدار والإيمان مِن المهاجرين والأنصار السابقين إلى الإسلامِ، والتابعين لهم بإحسان، الذين شَهِدوا الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسَمِعوا كلامَه وشاهَدوا أحوالَه ونقَلوا ذلك إلى مَن بعدهم مِن الرِّجال والنِّساء مِن الأحرار والعبيد والإماء - أَوْلى بالضبْط والحفظ، وهم الذين آمَنوا ولم يَلْبِسوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمْن وهُم مهتدون بتزكيةِ الله، - سبحانه وتعالى - لهم، وثَنائه عليهم؛ ولأنَّ السنن التي عليها مدارُ تفصيل الأحكام ومعرِفة الحلال والحرام إلى غيرِ ذلك مِن أمورِ الدِّين، إنما ثبتَتْ بعدَ معرفةِ رجال أسانيدها ورواتها، وأوَّلهم أصحاب رَسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإذا جَهِلهم الإنسان كان بغيرهم أشدَّ جهلاً، وأعظم إنكارًا، فيَنبغي أن يُعرَفوا بأنسابهم وأحوالهم، هم وغيرهم مِن الرواة؛ حتى يصحَّ العملُ بما رواه الثِّقات منهم، وتقومَ به الحُجَّة؛ فإنَّ المجهولَ لا تصحُّ رِوايته، ولا يَنبغي العملُ بما رواه، والصحابة يُشارِكون سائرَ الرواةِ في جميعِ ذلك إلاَّ في الجَرْح والتعديل؛ فإنَّهم كلَّهم عدولٌ لا يتطرَّق إليهم الجرحُ؛ لأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - ورسولَه زكيَّاهم وعدَّلاهم، وذلك مشهورٌ لا نَحتاج لذِكره[13].
والمسلِمون مجمعونَ على أنَّ أفضلَهم الخلفاءُ الأربعةُ - رضي الله عنهم - ثم السِّتَّة الباقون إلى تمامِ العَشرة، ثم البدريُّون، ثم أصحابُ أُحُد، ثم أهلُ بَيعة الرضوان بالحديبية، وعلى كلٍّ قالَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خَيرُ أمَّتي قَرْني، ثم الذين يَلونهم، ثم الَّذين يَلونَهم))، قال عمرانُ: فلا أدْري أذَكَر بعدَ قرنه قرنين أو ثلاثًا، ((ثم إنَّ بَعدَكم قومًا يَشهدون ولا يُستشهدون، ويَخونون ولا يُؤتَمنون، ويَنذِرون ولا يُفون، ويَظهَر فيهم السِّمن))[14].
كما أنَّ الصحابةَ - رضي الله عنهم - أحبُّوا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حبًّا جمًّا، ووقَّروه توقيرًا عظيمًا، فكان أحبَّ إليهم مِن كلِّ شيء، وما كانوا يَصبرون على فراقِه، فعندما سُئِل سيِّدنا عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - كيف كان حبُّكم لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: كان والله أحبَّ إلينا مِن أموالنا وأولادِنا وآبائنا وأمهاتنا، ومِن الماء الباردِ على الظمأ.
وهذا عمرو بنُ العاص - رضي الله عنه - قال: ما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ مِن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا أجل في عيْني منه، وما كنتُ أُطيق أنْ أملأَ عيني منه؛ إجلالاً له، ولو سُئلتُ أنْ أصفَه ما أطقتُ؛ لأنِّي لم أكنْ أملأُ عيني منه.
وفي صُلح الحديبية، عندَما جَعَلَ عروةُ بن مسعود يَرْمُقُ صَحابَةَ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بِعَيْنَيه، ماذا قال؟ لقد قال: والله ما تَنخَّم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نُخامةً إلا وَقَعتْ في يدِ رجلٍ منهم، فدَلَك بها وجهَه وجِلدَه، وإذا أمَر ابْتدَرُوا أمْرَه، وإذا توضَّأ كادوا يَقتتلون على وضوئِه، وإذا تَكلَّموا خفضوا أصواتَهم عندَه، وما يَحدُّون النظرَ إليه تعظيمًا له، فرجَع عروةُ إلى أصحابه، فقال: أيْ قوم! واللهِ لقدْ وفدتُ على الملوكِ، ووفدتُ على قَيصر وكِسرى والنجاشي، واللهِ إنْ رأيتُ مَلِكًا قطُّ يُعظِّمه أصحابُه ما يُعظِّم أصحابُ محمد محمدًا، والله إنْ تَنخَّم نخامةً إلا وقعَتْ في كفِّ رجلٍ منهم، فدلَك بها وجهَه وجِلدَه، وإذا أمرَهم ابتدروا أمْرَه، وإذا توضَّأ كادوا يَقتتلون على وضوئِه، وإذا تَكلَّموا خفَضوا أصواتَهم عندَه، وما يحدُّون النظرَ إليه؛ تعظيمًا له.
فاستحقُّوا لذلك ثناءَ الله عليهم، ونُزول القرآن بحقِّهم؛ ففي قوله تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 8 - 9]، فالصادقون هُم المهاجرون، والمفلِحون هم الأنصار، بهذا فسَّر أبو بكر الصِّدِّيق هاتين الكلمتين من الآيتين، حيث قال في خُطبته يوم السقيفة مخاطبًا الأنصار: "إنَّ الله سمَّانا (الصادقين)، وسمَّاكم (المفلحين)، وقد أمرَكم أن تكونوا حيثما كنَّا، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119][15].
لذلك، وبناءً على ما تَقدَّم، نرى أنَّه لا يَنتقص فضلَ الصحابة إلا مطموسُ البصيرة، أو من هو على جانبٍ كبيرٍ مِن الضلال المبين، والشرود عن الصِّراط المستقيم، أو هو زِنديق، كما قال بعضُ الأئمَّة؛ فالإمام أبو زُرعة يقول: "إذا رأيتَ الرجلَ ينتقص أحدًا مِن أصحاب رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاعلمْ أنَّه زِنديقٌ؛ وذلك أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندنا حقٌّ، والقرآنَ حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسُّننَ أصحابُ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنَّما يُريدون أن يَجْرَحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتابَ والسُّنة، والجَرْحُ بهم أوْلَى، وهم زَنادقة"[16].
فعلينا أن نُذكرهم دائمًا بخير، وبالترضِّي عليهم، وما أروعَ قولَ عَبداللَّهِ بنِ مسْعودٍ حينما قال: إنَّ الله نظَر في قلوبِ العباد، فوجَد قلب محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - خيرَ قُلوب العباد فاصطفاه لنفْسِه، فابتعثَه برِسالته، ثم نظَر في قلوب العباد بعدَ قلبِ محمَّد، فوجَد قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وُزراءَ نبيِّه يقاتلون على دِينه فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسَن، وما رَأَوا سيِّئًا فهو عندَ الله سيِّئ[17].
وقولَه أيضًا: مَن كان منكم مُتأسِّيًا فليتأسَّ بأصحابِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنَّهم كانوا أبرَّ هذه الأمَّة قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، وأقومها هَديًا، وأحسنَها حالاً، اختارهم اللهُ لصحبة نبيِّه وإقامة دِينه، فاعْرفوا لهم فضلَهم، واتِّبعوا آثارهم[18].
والإمام الشافعيُّ ذكَر الصحابةَ في رِسالته القديمة، وأثْنَى عليهم بما هم أهلُه، ثم قال: "وهم فوقَنا في كلِّ علمٍ، واجتهاد، وورَع، وعقلٍ، وأمرٍ استُدرك به عِلم، واستُنْبط به، وآراؤُهُم لنا أحمدُ، وأُولى بنا مِن آرائنا عندنا لأنفسنا، والله أعلم"[19].
وختامًا:
علينا أن نعلمَ، أنَّه إذا فاتنا شرفُ الصُّحْبة، فيجب ألاَّ تفوتنا أُخوَّةُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والصحابةِ، وأنْ نكونَ من الذين تمنَّى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رؤيتَهم؛ فعن أبي هُريرة، أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -خرَج إلى المقبَرة، فقال: ((السلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنَّا بكم - إنْ شاء الله - لاحِقون، وددتُ أني قدْ رأيتُ إخواننا))، قالوا: يا رسولَ الله، ألسْنَا إخوانك؟ قال: ((بل أنتُم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعدُ، وأنا فرَطُهم على الحوض))، قالوا: يا رسولَ الله، كيف تعرِف مَن يأتي بعدَكَ مِن أمَّتك؟ قال: ((أرأيت لو كان لرَجُلٍ خيلٌ غُرٌّ محجَّلة في خيلٍ دُهْم بُهْم، ألاَ يعرف خيلَه؟)) قالوا: بلى، قال: ((فإنَّهم يأتون يومَ القيامة غرًّا مُحجَّلينَ مِن الوضوء، وأنا فَرَطُهم على الحوض، فليُذادنَّ رجالٌ عن حوضي كما يُذادُ البعيرُ الضال، أناديهم: ألاَ هَلُمَّ، ألا هَلُم، فيقال: إنَّهم قدْ بدَّلوا بعدَك، فأقول: فَسُحقًا، فسُحقًا، فسحُقًا))[20].
فعَلينا أن نتشبَّه بصحابةِ رسولِ الله الأبرار، وأن نَمشيَ على نهجهم.
وَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ ♦♦♦ إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالكِرَامِ فَلاَحُ
[1] الغطارفة: جمع غطريف، والغطريف: السيِّد السخي الكثير الخير.
[2] مجموعة المعاني، عبد السلام هارون، ط1، 1412 هـ، 1992م، (1/ 556).
[3] كتاب الإبهاج في شرح المنهاج، تقي الدين السبكي، (1/12).
[4] صحيح البخاري.
[5] أخرجه مسلم (بشرح النووي) كتاب فضائل الصحابة، باب بيان أنَّ بقاءَ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - آمانٌ لأصحابه، وبقاء أصحابه أمانٌ للأمة.
[6] أخرجه البَزَّار في مسنده، قال الحافظ الهيثميُّ في "مجمع الزوائد" (10/16): "رواه البَزَّار، ورِجاله ثقات، وفى بعضِهم خلاف".
[7] فضائل الصحابة أحمد بن حنبل، (1/ 48 - 60).
[8] الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم (2/ 33).
[9] الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبدالبر (1/ 1).
[10] مقدمة ابن الصلاح، تحقيق د: نور الدين عتر، ط: 3، 1421 هـ، 2000م دار الفكر، بيروت (ص: 294).
[11] الكفاية في علم الرِّواية، الخطيب البغدادي (1/ 118).
[12] الإسرائيليَّات والموضوعات في كتُب التفسير، د: محمد أبو شهبة، ط: 4، 1408 هـ، مكتبة السنة، القاهرة، (ص: 52).
[13] أسد الغابة، ابن الأثير (1/ 1).
[14] رواه البخاري.
[15] انظر: عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ودفْع الشبهات، عماد السيِّد محمد إسماعيل الشربيني (ص:21).
[16] الكفاية في علم الرواية (1/ 119).
[17] مسند أحمد رقم (3667).
[18] الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، د: محمد أبو شهبة (ص: 52).
[19] مقدمة ابن الصلاح، تحقيق د: نور الدين عتر، ط: 3، 1421 هـ، 2000م دار الفكر، بيروت (ص: 297).
[20] مسند أبي يَعْلَى، أحمد بن علي بن المثنى أبو يَعْلَى المَوْصِلي التميمي، دار المأمون للتراث - دمشق، الطبعة: 1، 1404 - 1984، تحقيق: حسين سليم أسد (11/ 387).
التعليقات