اقتباس
والحق أنه محدث لبق يطوي صدره على مخزون من الشعر ليس له قرار، فضلا عن الفقه والتفسير والنحو والصرف والبلاغة، وهو يدرك قيمة ما عنده، فينثره على محدثيه بنغمة شجية ندية، تسترعي الانتباه، وتلفت الأنظار، وتشد الأسماع، وتشحذ الأذهان، يلين في موضع النجوى واللين حتى لتحسبه الهامس بالحب والحنين، ويشتد في موضع الشدة حتى لتخاله الأسد الهصور، يصور كل حرف ينطق به، ويمثل كل تعبير يعبر عنه...
كنا قد ذكرنا أيها الكرام في المقالة السابقة سطورا حول شخصيتنا الخطابية الفذة والموهبة الأديبة، وفي هذه الأسطر نستكمل ما سييسر الله لنا كتابته ونقله عنها.
والشيخ حفظه الله ورعاه يجمع إلى الموهبة المعرفة، وإلى الرواية الدراية، فهو عارف بشروط الخطبة الناجحة، خبير بكل ما يحتاج إليه لخطيب، وقد حضرت له في الكويت محاضرة ألقاها على الأئمة والخطباء بدعوة كريمة من وزارة الأوقاف، بسط فيها الكلام على كل ما ينبغي للخطيب، وما لا ينبغي، منوِّها بأهمية التحضير والإعداد للخطبة فضلا عما يشترط في الخطيب من شروط، ويقيني أنه من خير من حقق تلك الشروط التي نقلها الجاحظ في كتابه الماتع البيان والتبيّن عن أبي دواد حيث قال:
"رأس الخَطابة الطبْع، وعَمُودُها الدُّربة، وجناحاها رواية الكلام، وحَلْيُها الإعراب، وبهاؤُها تَخيُّر الألفاظ، والمحبَّة مقرونةٌ بقلّة الاستكراه"[1].
فالخطابة طبع لديه نشأ عليها مذ كان في مقتبل العمر وريّق الشباب، وقد تمرّس بفنونها، ونهد لها في كل محفل ومنبر، وعنده زاد وفير من رواية الشعر والحكمة والمثل والطرفة، والإعراب فنه وهمه وسدمه، وقد درَّس النحو وحاضر به في كبريات معاهد اللغة والشريعة، وله فيه تعليلات طريفة، وتخير الألفاظ صنعته وحذقه، وقد جبلت القلوب على محبته، ولعمر الله إن من كانت هذه صفاته لتهفو إليه النفوس، وتشتاقه الأرواح، وتشنف بسماعه الآذان، وتسعى إليه المنابر ولسان حالها يردد:
شرح المنبر صدرا *** لتلقّيك رحيبا
أترى ضَمّ خطيبا *** منك أم ضُمِخَ طيبا؟[2]
ومما يزيد خطبته بهاء وكمالا، حسن تخيره لما يقرأه من الآيات في صلاة الجمعة بعدها، إذ هي تناسب الموضوع الذي طرقه، وروعة أدائه لما يتلوه من هذه الآيات فيها، إذ هو يحبرها تحبيرا، ويصور ما فيها من معان تصويرا.
وأما الرواية المرسلة فأمر عرف الشيخ به أنى حل أو ارتحل، فهو نزهة المجالس، وسميرها، ومحدثها، وواسطة عقدها، يتسابق عارفوه ومحبوه إلى دعوته، ليحظوا بحديثه الشائق، وحكايته الأخبار وإنشاده الأشعار.
والحق أنه محدث لبق يطوي صدره على مخزون من الشعر ليس له قرار، فضلا عن الفقه والتفسير والنحو والصرف والبلاغة، وهو يدرك قيمة ما عنده، فينثره على محدثيه بنغمة شجية ندية، تسترعي الانتباه، وتلفت الأنظار، وتشد الأسماع، وتشحذ الأذهان، يلين في موضع النجوى واللين حتى لتحسبه الهامس بالحب والحنين، ويشتد في موضع الشدة حتى لتخاله الأسد الهصور، يصور كل حرف ينطق به، ويمثل كل تعبير يعبر عنه، فتعيش معه صورة الحدث، وروعة الموقف، وجمال الوصف، ورقيق المشاعر، وعذوبة الغزل، ورقة النسيب. وإذا كان البحتري قد ارتاب في تماثيل إيوان كسرى وصوره حتى قال:
يَغتَلي فيهِمُ اِرتيِابيَ حَتّى *** تَتَقَرّاهُمُ يَدايَ بِلَمسِ
فإنك حين تستمع إلى الشيخ هشام وهو ينشد الشعر تخال أشخاصه أمامك، تكلمهم ويكلمونك، وتجالسهم ويجالسونك.
لقد تعلمت من الشيخ هشام ألا ألقي الكلام الفصيح – شعرا كان أو نثرا- على عواهنه، بل أنشده إنشادا، أترنم بكل كلمة فيه، وأعطي كل حرف حقه وكل تعبير مستحقه. وهي سنة سنها لنا حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول:
تغنَّ بالشعر إمّا كنت قائلَه *** إن الغناء لهذا الشعر مضمارُ
وهو يخصني مع بعض الصحب بجلسات ودعوات ونزهات فيها رواحنا ومراحنا، وسرورنا وحبورنا، وسعادتنا وهناءنا، عمودها وذروة سنامها حديثه الذي يتدفق كالسيل الأتيِّ أو البحر الذي لا تنقضي عجائبه، فلكل موضوع عنده محفوظاته الحاضرة وشواهده البادية، عظة كان أم خبرا، غزلا كان أم وصفا، مدحا كان أم ذما، شعرا كان أو نثرا...
صحبته يوما في رحلة إلى لبنان، تلبية لدعوة كريمة دعانا إليها الأخ الحبيب الشيخ رمزي دمشقية رحمه الله وطيب ثراه، وحضرها جمع من الإخوة أذكر منهم الشيخ ناصر العجمي والأستاذ أحمد شميس والأستاذ إبراهيم الزيبق والأستاذ بسام الجابي، فمازال ينشدنا الأشعار ويروي أطايب الكلام حتى انقضى النهار ولم ينفد جزء مما في جعبته.
على أنه يجمع إلى قوة حافظته وسعة روايته دراية بالنظم، وشاعرية مسعفة كثيرا ما صحح فيها خللا تبين له في قصيدة يرويها، أو تمم نقصا تبدَّى له في مقطوعة يحفظها، بل إن له قصائد مفردة في الحب والطبيعة والإخوانيات والطفولة بثها فيما نشر من كتب، وتداولها إخوانه وأصحابه فيما بينهم. فمن ذلك قوله في البنت:
ما قدَّم الله ذكرَ البنتِ في آيٍ ***تُتلى على الدهر تعليما وقرآنا
وأوعد الله من يُلقي بها سفهًا *** تحت التراب هوانًا ثم نيرانا
وطالب النسل تفضيلًا لأمهمُ *** على الأبوّة إكراما وتحنانا
إلا لنوقنَ ما في البنتِ من كرمٍ *** وأنها خيرُ ما أعطى وأولانا
فنحمد الله في سرٍّ وفي علنٍ *** على عطيته شكرًا وعرفانا
ما في الجمال وما في اللطف من أثرٍ *** إلا لها منه أوفى القدر ميزانا
وأما علم الشيخ وفقهه فقد أخذه عن أربابه، ثم زكا عنده ونما، إذ تربى في كنف والده الشيخ عبد الرزاق الحمصي مفتي سورية الفقيه والخطيب المفوه، ونشأ في رحاب الثانوية الشرعية ليأخذ عن جلة شيوخها من أمثال شيخنا العلامة محمد صالح الفرفور، والشيخ لطفي الفيومي، وتخرج بكلية لشريعة التي كانت تضم أساطين العلم والمعرفة بالفقه والقرآن والحديث والعربية، أمثال الأستاذ محمد المبارك والأستاذ الدكتور فوزي فيض الله، والأستاذ الدكتور فتحي الدريني ...وغيرهم. ثم حصل على دبلوم التربية، وكان من خير المؤهلين لمتابعة الدراسات العليا، ونيل درجة الدكتوراه، ولكن الله قدر أن يكون أعلى من ذلك وأنبل، ولعمري إن كثيرا من حملة الدكتوراه ليتمنون مكانه ومنزلته ويفيدون من علمه وفضله ولسان حالهم يقول: كل الصيد في جوف الفرا.
وكان يرفده في طلب العلم حب للكتاب وشغف بالمطالعة وإدامة نظر في قضايا العلم ومسائله، حتى استوى عالما يناقش كبار العلماء ويتخير من آرائهم ما يقنع به عقله ويستقيم مع جادة فكره، ولهذا قد يجتهد فيخالف في ما يراه آراء معاصريه حول بعض المسائل الفقهية وتفسير بعض الآيات القرآنية، وهو اجتهاد مؤيد عنده بالدليل والبرهان العقلي والنقلي، ومبني على أساس متين من فهم اللغة وأسرارها لا يتطرق إليه شك.
والشيخ واحد من عشاق العربية، وحاملي رايتها، الذائدين عنها، المنافحين دونها، العاملين ليل نهار في سبيلها وسبيل قرآنها، وقد اشتهر بين الناس حرصه على اللغة والأدب وكثرة عنايته بهما في خطبه، وإلحاحه على تنبيه الناس على أسرار اللغة وجمال الأدب والشعر، حتى عيب ذلك عليه، وهو لعمري ليس بعيب، بل مفخرة من مفاخره.
وقد أخرج الشيخ هشام عصارة علمه وفقهه، وروائع حفظه واختياراته في كتب صغيرة الحجم، عظيمة القدر، كبيرة الفائدة والنفع، أقبل عليها الناس يقرؤونها ويفيدون منها، وكنت واحدا منهم، بل إني لم أستغن عنها في مغتربي فهي دائما معي أنهل منها وأعلّ، وينهل معي أولادي، وكل من يبلغه خبرها من أصحابي، أذكر منها: عيون الأشعار وروائع الأفكار، وقطوف الآداب وثمرات الألباب، والجديد في فقه لغة القرآن المجيد، ونظرات في كتاب الله تعالى، وخير الأدب عند العرب، ودراسات منهجية في التفسير والحديث والفقه واللغة، وجواهر الفوائد في علوم اللغة والتفسير والقواعد.
وبعد فإني أسأل الله العلي العظيم أن يبارك في حياة الشيخ هشام، ويسعده، ويمتع به، ويقر عينيه بأولاده وطلابه وعلمه ولغته، ويجزيه عنا وعن الأمة خير الجزاء وأوفاه، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
____
[1] البيان والتبيين 1/44.
[2] قالهما أبو عبد الله بن القيسراني الشاعر لهارون بن أحمد بن عبد الواحد (ت 537) عندما ولي خطابة حلب. معجم الأدباء لياقوت الحموي 5/581.
التعليقات