عناصر الخطبة
1/طلب الشهرة من أعظم الفتن 2/ذم السلف لحب الشهرة 3/أضرار حب الشهرة 4/الشهرة المحمودة وبيانها

اقتباس

وتعظمُ الجنايةُ في حقِّ الجاهلِ الصغيرِ المسكينِ, إنْ سعى وليُّه في إشهارِه والزَّجِّ به سلعةً تتناقلُها مواقعُ التواصلِ، وتَسْلى بها عيونُ المشاهدين، وتُحكى يومياتُه في المنتدياتِ دون اكتراثٍ بمآلاتِ ذلك؛ مِن أثرٍ نفسيٍّ على الطفلِ، وتأثيرِه على سَوِيَّةِ فطرةِ الطفولةِ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.

 

أما بعدُ: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

 

أيَّها المؤمنون: إن مما غلَبَ في طباعِ النفسِ، وغدا خُلُقًا بارزًا فيها حبَّ العلوِّ وذيوعِ الصِّيتِ، وسعيَها في إبرازِ ذاتِها ونشْرِ ذِكْرِها، سيما في هذا العصرِ الذي سَهُلَ فيه تناقلُ الخبرِ، وباتت فيه الشهرةُ من وسائلِ تحصيلِ الحظوةِ وبناءِ العلاقةِ وكسبِ المالِ.

 

فما ميزانُ الشريعةِ في التعاملِ مع هذه القضيةِ الخطرةِ؟ وما مدى آثارِ الالتزامِ بهذا الميزانِ وإهمالِه؟ إنَّ من خصائصِ الميزانِ الشرعيِّ في النظرِ للأمورِ والتعاملِ معها رعيَ القِيمِ، وإيثارَ الباقي على الفاني، وتغليبَ رعايةِ أعلى المفاسدِ درءًا، وأعلى المصالحِ جَلْبًا، والشهرةُ من القضايا التي عالجتْها الشريعةُ الغرَّاءُ بميزانٍ ضابطٍ للقِيمِ, وكابحٍ لجِمَاحِ الشرِّ في النفوسِ.

 

عبادَ اللهِ: إنَّ رأسَ مالِ المؤمنِ دينُه الذي أُمِرَ بحفظِه؛ وذلك بأن لا يتعرَّضَ لما قد يفتنُه عنه، ومن أعظمِ الفتنِ التي تَعصفُ بالدينِ حبُّ الجاهِ وطلبُ الشهرةِ؛ فقد شبَّه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أثرَها على إفسادِ دينِ ذي الدينِ -فضلًا عن قليلِه- بأعظمَ من فتْكِ ذئبينِ جائعَينِ أُرسلا في زَريبةِ غنمٍ خاليةٍ من الحامي، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ, بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ"(رواه أحمدُ والترمذيُّ وقال: حسنٌ صحيحٌ)؛ ولذا كان الأصلُ المقرَّرُ شرعًا عند أهلِ العلمِ ذمَّ طلبِ الشهرةِ إن خَلَتْ من المقصدِ المشروعِ, وإنْ كانت في لباسٍ, فكيف بما زاد عنه؟! يقولُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ؛ أَلْبَسَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ مذلةٍ، ثُمَّ تُلَهَّبُ فِيهِ النَّار"(رواه أبو داودَ وحسَّنه الألبانيُّ).

 

وتزدادُ الشهرةُ قبحًا وإثمًا إن سُعيَ إليها؛ طلبًا للدنيا بالدينِ، قال ابنُ رجبٍ: "ما زال الصادقون من العُلَمَاء والصالحين يكرهون الشهرةَ، ويتباعدون عن أسبابِها، ويحبون الخمولَ -أي: خمولَ الذِّكْرِ-، ويجتهدون عَلَى حصولِه"، وقال ابنُ بطَّالٍ: "ولا ينبغي للرجلِ المسلمِ أنْ يُشْهِرَ نفسَه في خيرٍ ولا شرٍّ"، وقال ابنُ تيميةَ: "السلفُ كانوا يكرهون الشهرتيْن؛ المترفِّعَ، والمتخفِّضَ"، وقال بعضُ السلفِ: "ما اتقى اللهَ مَن أحبَّ الشهرةَ".

 

وكان أيوبُ السِّخْتِياني يقولُ: "ما صَدَقَ عبدٌ إلا أحبَّ أن لا يُشعرَ بمكانِه", وكان - لما اشتَهر بالبصرةِ - إذا خرجَ إلى موضعٍ يتحرى المشيَ في الطرقاتِ الخاليةِ، ويجتنبُ سلوكَ الأسواقِ والمواضعِ التي يُعرَفُ فيها، وكان بعضُ التابعين إذا جلس إليه أكثرُ من ثلاثةٍ أنفسٍ قامَ خوفَ الشهرةِ، وما ذاك التخوُّفُ والتحوُّطُ والاحترازُ إلا لما تَلُفُّه الشهرةُ من آفاتٍ قد تُودي بصاحبِها إلى مهالكَ تَعِزُّ معها السلامةُ؛ فلربما حملتِ الشهرةُ صاحبَها على الرياءِ, وحبِّ التزيُّنِ للخلْقِ, والتقربِ بأمورِ الدِّين لأجلِ حظوةِ الجاهِ, والمحافظةِ على بريقِ الشهرةِ الزائفِ، ولربما كانت دافعًا للإعجابِ بالنفسِ والتِّيه والكِبْرِ واحتقارِ الغيرِ وعدمِ قبولِ الحقِّ، ولربما قادتْ إلى الحسدِ والبغيِ والعدوانِ على العبادِ، قَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: "مَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبَّ الرِّئَاسَةَ إِلَّا حَسَدَ، وَبَغَى، وَتَتَبَّعَ عُيُوبَ النَّاسِ، وَكَرِهَ أَنْ يُذْكَرَ أَحَدٌ بِخَيْرٍ".

 

ولربما سهَّلتِ الشهرةُ تقحُّمَ دركاتِ الكذبِ والقولِ على اللهِ بلا علمٍ، وطالَما رخَّصتْ لصاحبِها قبولَ المدحِ الباطلِ، بل بَذْلَ الثمنِ البائرِ في طلبِه، كما رخَّصتْ له أَخْذَه إنْ طُلِبَ منه ذلك بالدعايةِ له، والشهرةُ مجْلَبَةٌ لعلاقاتِ سوءٍ قد يعظمُ ضَرُّها ويعسرُ علاجُها، كلُّ ذلك مع ما قد تسبِّبُه الشهرةُ من اعتلالٍ نفسيٍّ؛ بُغيةَ الحفاظِ على أَلَقِها, مما قد يَجْنَحُ بصاحبِها إلى ارتكابِ فجورٍ وحماقاتٍ وتفاهاتٍ يترفَّعُ عنها أهلُ الشرفِ.

 

كَانَ مُحَمَّدُ بنُ إبراهيم الكَرْجي يَقولُ لابنِ أخيهِ -والناس ينتابون بابَه على طبقاتِهم لسُؤْدَدِه-: "يا أسفي على ابنِ أبي القاسمِ، سَالَ بهِ السيلُ، أينَ هُوَ -والحالةُ هذه- مِنْ دِينهِ؟", وكان يقولُ إذا خلا بهِ: "يا بنيَّ! عليك بدينِك؛ فإنَّ خَفْقَ النِّعالِ خَلْفَ الإنسانِ وعلى بَابِ دَارهِ مَعَاولُ تهدمُ دينَه وعقلَه".

 

وتعظمُ الجنايةُ في حقِّ الجاهلِ الصغيرِ المسكينِ, إنْ سعى وليُّه في إشهارِه والزَّجِّ به سلعةً تتناقلُها مواقعُ التواصلِ، وتَسْلى بها عيونُ المشاهدين، وتُحكى يومياتُه في المنتدياتِ دون اكتراثٍ بمآلاتِ ذلك؛ مِن أثرٍ نفسيٍّ على الطفلِ، وتأثيرِه على سَوِيَّةِ فطرةِ الطفولةِ، وتنشئتِه منذُ نعومةِ أظفارِه على ملاحظةِ الناسِ، مع ما قد يلحقُه من ضررِ إصابةِ العينِ؛ إعجابًا، وحسدًا.

 

عبادَ الله: قد يُبتلى المرءُ باشتهارٍ دون قصدٍ منه ولا طلبٍ، وتلك من مواطنِ الابتلاءِ الشديدةِ التي كان الصادقون من أهلِ العلمِ يَحْذرون فيها غايةَ الحذرِ؛ لعظيمِ بلائِها، وكانوا لا يسْتَرْوحون لذلكَ إنْ وَقَعَ، بل يظلُّون حذرين من مَغِبَّةِ الافتتانِ به، مستشعرين ضعفَهم وفقرَهم إلى اللهِ, وعظيمَ حاجتِهم إليه, وأنه لا غنى لهم عنه طرفةَ عينٍ, ومع ذلكَ ما كان خوفُهم من الشهرةِ وتحوطُهم فيها يحملُهم على الانكفاءِ على النفسِ, وتركِ المشاركةِ في أعمالِ البرِّ ونشرِه، بل كانوا يسخِّرونَها في الدعوةِ إلى الخيرِ وتحبيبِ الناسِ فيه, والدفاعِ عنه ومقارعةِ الباطلِ؛ وبذلك غنموا خيرَها، وَوُقُوا شرَّها.

 

ذُكِرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ إذَا مُدِحَ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي، وَأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْهُمْ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَحْسَبُونَ وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ"، وكان سفيانُ الثوريُّ لَما اشتَهَرَ يقول: "وَدِدتُ أنَّ يديَ قُطعت من إبطي، وأني لم أشتهرْ ولم أُعرفْ"، ولما اشتَهَر ذِكرُ الإمامِ أحمدَ اشتدَّ غمُّه وحزنُه، وكَثُرَ لزومُه لمنزلِه، وقلَّ خروجُه في الجنائزِ وغيرِها خشيةَ اجتماعِ الناسِ عليه!.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أما بعدُ:

 

أما بعدُ: فاعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

أيها المؤمنون: وثمَّةَ شهرةٌ مطلوبةٌ محمودةٌ؛ قد سلِمتْ من كلِّ آفةٍ، ونَعِمتْ بكلِّ فضيلةٍ, حين دوَّى ذِكْرُها بين أهلِ السماءِ بثناءِ اللهِ على صاحبِها التقيِّ الخفيِّ, الذي لا يريدُ علوًّا في الأرضِ ولا فسادًا، وغدا اسمُه ذائعًا بين الملائكةِ وإنْ كان مغمورًا، بل ربما كان من أهلِ المسكنةِ الذين لا يُحْفلُ لهم بمحْضرٍ، ولا يُفْقدون بغياب, أوصى ابنُ مسعودٍ -رضي اللهُ عنه- أصحابَه يومًا قائلًا: "كُونُوا يَنَابِيعَ الْعِلْمِ، مَصَابِيحَ الْهُدَى، أَحْلَاسَ -جَمْع حِلْس، وهو البساط؛ تشبيهًا به لملازمته واستمراره- الْبُيُوتِ، سُرُجَ اللَّيْلِ، جُدُدَ التي -لم يشوبها شيء من تلك الأهواء، والتلون في الدين- الْقُلُوبِ، تُعْرَفُونَ فِي السَّمَاءِ، وَتَخْفَوْنَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ"، وقال: "أَيُّكُمُ اسْتَطَاعَ أَنْ يَجْعَلَ فِي السَّمَاءِ كَنْزَهُ فَلْيَفْعَلْ، حَيْثُ لَا تَأْكُلُهُ السُّوسُ، وَلَا تَنَالُهُ السَّرِقَةُ؛ فَإِنَّ قَلْبَ كُلِّ امْرِئٍ عِنْدَ كَنْزِه".

 

كان سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ -رضي اللهُ عنه- في إبلِه، فجاءه ابنُه عمرُ، فلما رآه سعدٌ قال: "أعوذُ باللهِ من شرِّ هذا الراكبِ"، فنزلَ فقالَ له: أنزلتَ في إبلِك وغنمِك، وتركتَ الناسَ يتنازعون الملكَ بينهم؟! فضرب سعدٌ في صدرِه، فقال: "اسكتْ؛ سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "إنَّ اللهَ يحبُّ العبدَ التقيَّ، الغنيَّ، الخفيَّ"(رواه مسلمٌ).

 

قال مُطرِّفُ بنُ عبدِاللهِ: "انظروا قومًا إذا ذُكِرُوا ذُكِرُوا بالقراءةِ؛ فلا تكونوا منهم، وانظروا قومًا إذا ذُكِرُوا ذُكِرُوا بالفجورِ؛ فلا تكونوا منهم، وكونوا بين ذلك", قال ابنُ رجبٍ معلِّقًا على ذلك: "وهذا هو الذِّكْرُ الخفيُّ المشارُ إليه في حديثِ سعدٍ، وهو من أعظمِ نعمِ اللهِ على عبدِه المؤمنِ، الذي رزقَه نصيبًا مِن ذوقِ الإيمانِ، فهو يعيشُ به مع ربِّه عيشًا طيبًا، ويَحجبُه عن خلقِه حتى لا يفسدوا عليه حالَه مع ربِّه, فهذه هي الغنيمةُ الباردةُ، فمن عرفَ قدْرَها، وشَكرَ عليها؛ فقد تمَّتْ عليه النعمةُ".

 

كتبَ حذيفةُ بنُ اليمانِ بفتْحِ المدائنِ إلى عمرَ -رضي اللهُ عنهم- مع رجلٍ من المسلمين، فلما قَدِمَ عليه قال: أبشرْ -يا أميرَ المؤمنين- بفتْحٍ أعزَّ اللهُ فيه الإسلامَ وأهلَه، وأذلَّ فيه الشركَ وأهلَه، قال عمرُ: النعمانُ بَعَثَكَ؟ (يريدُ النعمانَ بنَ مُقَرنٍ المزني -رضي اللهُ عنه- قائدَ المعركةِ)، قال: احتسب النعمانَ -يا أميرَ المؤمنين-، فبكى عمرُ واسترجعَ, وقال: ومَنْ ويحك؟ فقال: فلانٌ، وفلانٌ، وفلانٌ، حتى عدَّ ناسًا، ثم قال: وآخرين -يا أميرَ المؤمنين- لا تعرفُهم، فقال عمرُ -رضوانُ اللهِ عليه- وهو يبكي: لا يضرُّهم أن لا يعرفَهم عمرُ، لكنَّ اللهَ يعرفُهم.

 

المرفقات
jd7ghRbxZmYSHLxJohB6AuEmEiw27CerX3wvJt2P.doc
kLniGXjsROoGo6WX6FuNDZPoQQzSSHkOoxbqb9bs.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life