اقتباس
والإسلام يعتبر المتكلم بكل ما يسمع -بلا تثبت ولا تبين- كاذبًا، فها هو نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع" (مسلم)، والجريمة أشنع إن ردد الإشاعة وهو يغلب على ظنه أنها كاذبة، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من حدث حديثًا، وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين" (مسلم)..
وعن إمام الأنبياء محمد -صلى الله عليه وسلم- فصَّلوا الشائعات تفصيلًا وعددوا الافتراءات تعديدًا؛ فقالوا عنه مجنون: (وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر: ٦]، وقالوا عنه مسحور: (وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) [الفرقان: ٨]، وقالوا عنه ساحر وكذاب: (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) [ص: ٤]، وقالوا عنه شاعر وكاهن فرد القرآن عنه قائلًا: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [الحاقة: 41-42]، وعيَّروه بأنه لا يعيش له ولد ذكر فقالوا: هو "أبتر"...
وليس نبينا -صلى الله عليه وسلم- وحده هو الذي أشاعوا عنه الإشاعات، بل ما من نبي أرسل إلى قوم إلا حاربوه بالشائعات والإشاعات والافتراءات، قال -تعالى-: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) [الذاريات: ٥٢-53]، ونماذج ذلك كثيرة في القرآن الكريم. وكما نالت ألسنة الناس وشائعاتهم من الأنبياء والرسل ومن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فكذلك ما سلِم منها الصحابة الأبرار الأطهار والتابعون لهم بإحسان، ينبئك بذلك الإمام الذهبي حين يقول: "وما زال يمر بي الرجل الثبت وفيه مقال من لا يعبأ به، ولو فتحنا هذا الباب على نفوسنا لدخل فيه عدة من الصحابة والتابعين والأئمة... وهذا كثير من كلام الأقران بعضهم في بعض ينبغي أن يطوى ولا يروى ويطرح ولا يجعل طعنًا ويعامل الرجل بالعدل والقسط..." (الرواة الثقات المتكلم فيهم، للذهبي، ص: 24، ط: دار البشائر لبنان).
ومن بعد الصحابة والتابعين جاء الفقهاء المتبوعون ومنهم الأئمة الأربعة وما سلم منهم أحد من شائعات الناس وهمزهم وافتراءاتهم، يتحدث عن ذلك الإمام الذهبي أيضًا فيقول: "هذا مالك هو النجم الهادي بين الأمة وما سلم من الكلام فيه!..." (المرجع السابق)، ولو تتبعنا ما قيل في أئمة العلم والعمل الكبار كالبخاري والنووي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم لرأينا وسمعنا عجبًا من سيل افتراءات وإشاعات تسقطهم وتضيع علمهم... ولو صدقنا كل ظن وكل شائعة وكل إشاعة لأسقطنا الجميع؛ والسبب بسيط: أنه لم يسلم أحد من شائعات الناس أبدًا، وهل سَلِم من شائعاتهم الخالق حتى يسلم المخلوق!
والله لــو صاحب الإنسان جبريل *** لــن يسلــم مــن قـال ومن قيـل
قـد قيـل فـي الله أقـوالًا مـصـنـفـة *** تـتـلـى إذا رتـل الـقــرآن تــرتـيلا
قـد قـيل أن لـه ولـدًا وصـــــاحـبـة *** زورًا عـلـيه وبـهتانـًا وتـضـليـلا
فهـذا قولـهم فـي الله خالـقـهـم *** فكيف لو قـيل فينا بعض ما قيلا
ويختلف حكم الشائعة تبعًا لاعتبارات كثيرة؛ فمن الشائعات ما هو كفر -والعياذ بالله- كتلك التي قيلت على الله -سبحانه- وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-! ومنها ما هو غيبة ونميمة وفسق كالإشاعات التي تشاع على العلماء والصالحين والبرآء من عموم الخلق، ومن الشائعات شائعات كادت تُحدِث كوارث، شائعات مشهورة قد سجل القرآن بعضها، وسردت السنة المطهرة بعضها، ووصل إلينا بعضها بالأسانيد الصحيحة المتواترة، ومنها ما عايشناه وعاصرناه وبلوناه، وقد كان بطل كل إشاعة منها إنسان مظلوم ومتهم برئ قد طُعن في أغلى ما يملك، فهم "متهمون ولكن أبرياء"
فأما المتهم البريء الأول فهو هو الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم؛ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، اتهمه المجتمع المترف في شرفه وعفته ووسموه بخيانة العزيز الذي أكرمه وآواه في زوجته، وأشاعوا عليه ذلك مع علمهم أنه بريء، ثم أكدوا التهمة عليه حين ألقوه في السجن ظلمًا! وأما المتهمة البريئة الثانية فهي ربيبة المسجد الأقصى الموهوبة لله صاحبة الكرامات؛ الصديقة مريم ابنة عمران، اتهموها في عرضها وطعنوها في شرفها وهي أطهر أهل الأرض: (يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم: 28]، يقصدون إن أحدًا من أهلك لم يسبقك إلى الخنا فكيف صرت أنت امرأة سوء ولمن خرجت بغيًا! والمتهمة البريئة الثالثة هي أم المؤمنين وزوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابنة الصديق أبي بكر، إنها عائشة -رضي الله عنها- التي أشاعوا عنها ارتكاب الفاحشة مع صفوان بن المعطل -رضي الله عنه- فيما يعرف بحادثة الإفك! أما المتهم البريء الرابع فهو جريج العابد الذي يروي لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- قصته فيقول: "وكان جريج رجلًا عابدًا، فاتخذ صومعة، فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي، فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا..." (متفق عليه)، فصدَّق الناس في العابد إشاعة البغي الفاجرة! ولا يخلو زمان ولا مكان من متهم بريء أشيعت عنه الشائعات ولاك الناس قصصًا وحكايات عنه وعن أهل بيته... وما هو إلا داء الشائعات!
السؤال الآن: ما هو الدواء، ما العمل مع تلك الشائعات، وما الموقف منها؟ نجيب: يتلخص واجب المسلم تجاه الشائعات -التي تشيع بنفسها- وتجاه الإشاعات -التي يتعمد خبثاء ماكرون إشاعتها لغرض خبيث- في الأمور التالية: الأول: تقديم حسن الظن بالمستورين: فالأصل هو حسن الظن بالمسلم مستور الحال حتى تغلبنا البينة على تحمل العكس، يقول الله -تعالى- في سياق حادثة الإفك: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور: 12]، وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" (متفق عليه). الثاني: عدم تصديق الشائعة: وكيف نصدق من يشيع شائعة وقد سماه الله فاسقًا وإن كان صادقًا؛ فقال -عز من قائل-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6]؛ فقبل أن يأمرنا -عز وجل- بالتبين من كلامه سماه فاسقًا، لأنه حتى وإن كان صادقًا فقد وقع في جريمة الغيبة، وإن كان كاذبًا فهي النميمة، فهو في الحالين فاسق! الثالث: مطالبة مشيع الشائعة بالدليل: كما طالبهم به القرآن الكريم حين تكلموا في عرض العفيفة عائشة -رضي الله عنها-: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النور: 13]، وكل كلمة من سوء تقال بلا دليل فهي شائعة مغرضة وزعم كاذب، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بئس مطية الرجل زعموا" (أبو داود). الرابع: ألا نصغي إلى الشائعة: وقد قالوا: "الوقاية خير من العلاج"، وقد نعى القرآن الكريم على اليهود أنهم: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) [المائدة: ٤١]، فلم يقل الله: "قائلون أو مرددون للكذب" بل ذمهم لمجرد إنصاتهم له! وإن لم يكن ذلك مستهجنًا من اليهود الذين هم قتلة الأنبياء، لكنه غريب ومحزن أن يقع من بعض المسلمين! الخامس: ألا نردد الإشاعة وألا تجري على ألسنتنا: وهو توجيه الله لمن خاض فيما أشيع عن عائشة: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور: 16]، وكل مسلم موحد يوقن أنه: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: ١٨]. والإسلام يعتبر المتكلم بكل ما يسمع -بلا تثبت ولا تبين- كاذبًا، فها هو نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع" (مسلم)، والجريمة أشنع إن ردد الإشاعة وهو يغلب على ظنه أنها كاذبة، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من حدث حديثًا، وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين" (مسلم). السادس: أن نزود عن عرض إخواننا: فعن أبي الدرداء، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة" (الترمذي)، فنذكرهم بما نعلم فيهم من الخير.
وانطلاقًا من شعورنا في ملتقى الخطباء بفداحة أمر الشائعات وسرعة انتشارها وأثرها المدمر على المجتمعات الإسلامية، فقد أقمنا هذا الملف العلمي الذي قد جمع كثيرًا من صرخات الصارخين وتحذيرات المحذرين التي فحواها جميعًا: "احذروا الإشاعات وأميتوا الإشاعات، لا تكونوا كالببغاوات ينطقون ولا يعقلون، أعراض المسلمين حرام، وأعراض العلماء مسمومة...". وقد تنوعت أشكال تلك الصرخات ما بين خطبة مكتوبة وأخرى مسموعة أو مرئية، وما بين كتاب ومقال وبحث ودراسة، وما بين محاضرة أو درس أو خاطرة... وقد حاولنا أن نؤلف بين تلك الصور كلها وننتقي منها، فجاء ملفنا العلمي هذا تحت المحاور الأربع الآتية:
التعليقات