عناصر الخطبة
1/وصف حال أمة الإسلام 2/ أثر المادة على كثير من النفوس 3/ الإيمان سبب الأمان 4/ باب الدعاء مفتوح 5/ منزلة الدعاء 6/ ثمرات الدعاء 7/ الدعاء قربة الأنبياء 8/ الدعاء طريق لخروج الأمة من أزماتها 9/ إخلاص الدعاء لله 10/ من شروط الدعاء وأحكامه وآدابه 11/ التضرع إلى الله في الدعاء 12/ من مواطن الدعاء 13/ حاجة الأمة إلى وحدة الصف .اهداف الخطبة
حث المؤمنين على الدعاء / بيان بعض أحكام الدعاء ومواطنهاقتباس
الدّعاء أكرمُ شيءٍ على الله، وهو طريقٌ إلى الصّبر في سبيل الله، وصدقٌ في اللّجَأ وتفويض الأمر إليه والتوكّل عليه، وبعدٌ عن العجزِ والكسل، وتنعُّمٌ بلذّة المناجاة، فيزدادُ إيمان الداعي ويقوى يقينُه، ويبقى متّصلاً بربّه، وهو عبادةٌ سهلة ميسورَة، تصلح أصلاً في كلِّ زمان ومكانٍ وحال.
أمّا بعد: فوصيّة الله للأوّلين والآخرين تقواه، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ) [النساء:131].
أيّها المسلمون، اتّقوا الله تعالى وراقِبوه، وأطيعوا أمرَه ولا تَعصوه، فإن المعاصيَ والذنوبَ جِراحات، ورُبَّ جرحٍ وقع في مقتَل.
واعلم ـ غفر الله لي ولك ـ أنَّ لك ربًّا أنتَ مُلاقيه، وبيتاً أنتَ ساكنُه، فاسترضِ ربَّك قبل لقائِه، واعمُر بيتَك قبلَ انتقالِك إليه.
وبعد: أمَّةَ الإسلام، أمَّةَ الحِكمة والقرآن، أمَّة الهدي الإلهي والسَّنَن المحمَّدي، أمَّتِي، لا زِلنا نتراءَى صلاحَك فنجدُك بعدُ لم ترشُدِي، ويمُدّ إليكِ محبّوكِ حبالَ النجاةِ فلا تتمسّكين، ويُضيء لكِ ناصحوك الشموعَ فلا تُبصِرين ولا تتبصَّرين، تُمسِينَ وتُصبِحِين على فواجعَ وحروبٍ ومواجع وكروبٍ ثمّ لا تتوبين ولا تتذكَّرين.
أيّها المسلمون، أيّها الذين هم بربّهم يؤمنون ويثِقون، إنّ ما حلَّ ويحِلّ بالأمّة من رزايا وبلايا لهي سياطٌ تسوقُهم إلى حظيرة الإيمان والتوحيد، وتُسلِمهم إلى التعلّق بالعزيز الحميد، وتدفَع بهم إلى التّوبة وخوفِ يومِ الوعيد، (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة:126]، ولكنّها الغفلة.
لقد أثّرتِ المادّة على كثيرٍ من النفوس، وطغت على حياتِها، وضاق أفقُها فأصبَحت لا تُبصِر إلا ما تَرى أحداقُها، وأظلمَت قلوبٌ فأضحَت لا تستوعِب إلا مَا يلامِس أبدانَها. وحين ابتعَد الإنسان عن نورِ الوحي وتاه بصرُه عن التطلّع للسّمَاء وضعُفتِ الصلةُ بالله عندَ ذلك استوحَشتِ النفوس، وقستِ القلوب، وطغَت موجاتٌ من الهلَع والاضطِراب، وظهَر الخوفُ من المستقبَل وعلى المستقبَل، وبدتِ الحَيرَة، وما ذاك إلاّ لذهولِهم عن سببِ حياة القلوبِ وصلاح النفوس، ونسُوا أنَّ فوق تدبيرهم لله تدبيرًا، وله من وراءِ أسبابهم أمرًا وتأثيرًا، والله تعالى خالقُ النفوسِ وعالمٌ بأسباب زكائِها، ومبدعُ القلوبِ وشارعٌ أسبابَ حياتِها، وليستِ الحياة بقوّة الجسمِ أو التزوّد من عرَض الدنيا، بل الحياة حياةُ القلوب، (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَـاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا) [الأنعام:122].
لذا كان الإيمانُ بالله سببَ الأمنِ والأمان، الإيمان يجعل الخوفَ من الله وحدَه والأمان ممَّا سواه، (الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ) [الأحزاب:39]. ولهذا أيضاً كانتِ الصدور الجوفاءُ من الإيمان البعيدة من الله مليئةً بالخوفِ والهلَع والجزَع والاضطراب والحَيرة.
أيّها المسلمون، وإذا امتلأ القلبُ إيمانًا عرَف صاحبُه ملجَأه ودواءَه ومفزعَه وشِفاءه. إنَّ الحياة قد طُبعَت على كدَر، وقلّما يسلَم الإنسان من خطَر، مصائبُ وأمراض، حوادثُ وأعرَاض، أحزَان وحروبٌ وفتَن، ظلمٌ وبغي، همُوم وغموم، فقرٌ وحَيرة، أسبابٌ تقصم الظهور وتنحِت الصّدور، إلا أنَّ الله تعالى لطيفٌ بعباده رحيم بخلقِه، فتح لهم بابًا يتنفّسون منه الرّحمة، ويزيلون به كدَر الحياة، وتنزِل به على قلوبِهم السكينةُ والطمأنينة، ألا وهو باب الدّعاء.
دعاءُ اللهِ وسؤاله والتضرعُ إليه والانطراح بين يدَيه وتفويض الأمر إليه أمانُ الخائفين وملجَأ المضطرِّين وسلوة المناجين، من الذي لاذَ بجنابِه فما عزَّ؟! ومن الذي فوّضَ أمرَه إليه فما رشد؟! "الدعاء هو العبادة"، (وَقَالَ رَبُّكُـمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر:60].
كرمُ الباري عظيم، وإحسانُه سبحانَه عميم، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186].
والدّعاء أكرمُ شيءٍ على الله، وهو طريقٌ إلى الصّبر في سبيل الله، وصدقٌ في اللّجَأ وتفويض الأمر إليه والتوكّل عليه، وبعدٌ عن العجزِ والكسل، وتنعُّمٌ بلذّة المناجاة، فيزدادُ إيمان الداعي ويقوى يقينُه، ويبقى متّصلاً بربّه، وهو عبادةٌ سهلة ميسورَة، تصلح أصلاً في كلِّ زمان ومكانٍ وحال.
الدعاءُ رافع للبلاء دافعٌ للشقاء، قال إبراهيم عليه السلام كما في محكَم التنزيل: (وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا) [مريم:48]، وقال الله سبحانه عن نبيِّه زكريّا عليه السلام: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً) مريم:4. فكم من بليّة ومحنةٍ رفعها الله بالدّعاء، ومصيبة كشفَها الله بالدّعاء، وكم من ذَنب ومعصيةٍ غفرَها الله بالدّعاء، وكم من رحمة ونعمةٍ ظاهرة وباطنةٍ استُجلِبت بسبَب الدعاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُغني حذَر من قدَر، والدعاءُ ينفَع ممّا نزل وممّا لم ينزِل، وإنَّ البلاء لينزل فيلقاه الدّعاء، فيعْتلِجان إلى يومِ القيامة)) رواه الحاكم والطبراني بسند حسن، وله شاهد عند أحمد.
الدعاء قربةُ الأنبياء، (إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـاشِعِينَ) [الأنبياء:90]، لا يهلِك مع الدّعاءِ أحد، ولا يخيب من للهِ رجا وقصَد، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِن مسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحِم إلا أعطاه الله بِها إحدى ثلاث: إمّا أن يعجِّل له دعوتَه، وإمّا أن يدَّخر له، وإمّا أن يكشِف عنه من السوء بمثلَها"، قالوا: إذا نُكثر؟! قال: "اللهُ أكثَر" رواه الإمام أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد بسند حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
ولمَّا دعا إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى للنار: (كُونِى بَرْداً وَسَلَـامَا عَلَى ابْراهِيمَ) [الأنبياء:69]، (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) [الأنبياء:76]، (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ) [الأنبياء:83، 84]، ولمّا نادى ذو النّون في الظلمات جاء الجوابُ من فوقِ السموات فقال الله جل في علاه: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذالِكَ نُنجِـى الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88]، (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء:89، 90]، وقد ذكَر الله تعالى رحمتَه بزكريّا إذ نادى ربَّه نداء خفياً، فلم يكن بدعاءِ ربّه شقياً، وفي كتابِ الله تعالى أكثرُ من ثلاثمائة آية عن الدعاء.
فيَا من تكالبَت عليه الهموم والغموم، وضاقت عليه الأرضُ بما رحُبت، أينَ أنت من سؤال الله، أينَ أنتَ من سؤال الله ورجائه؟! ويا مَن أرهقته الأمراضُ وأغرقته الديون، أين أنتَ مِن دعاءِ الغنيّ الكريم؟! ويا مَن أثقلته المعاصي والذنوب، أينَ أنتَ مِن غافرِ الذنب وقابل التّوب؟! ويا مَن غشيَه الخوف والقلق، تطلّعْ إلى السّماء فعند الله الفرَج.
هذا هو الدّعاء، فأين السائلون؟! وهذا هو الطريق، فأين السالكون؟!
أمّة الإسلام، لقد مرّ على الأمّة أزمات ومضائقُ وابتلاآت ومآزق، فكان اللجَأ إلى الله هو سبيل النجاة، والله تعالى يبتلي الناسَ لترِقَّ قلوبهم ويلجؤوا إليه بصدقٍ وتضرّع، قال الله تعالى لرسوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنعام:42، 43]. ولقد كان بعض المشركين الأوائل إذا نابَتهم النوائبُ واشتدَّ عليهم الخطب عرفوا أيَّ بابٍ يطرقون، وأين يلجؤون ويُهرَعون، فدعَوا اللهَ مخلِصين له الدّين، وهذه أمّة الإسلام اليومَ أحوجُ ما تكون إلى ربِّها ولطفِه ونصره وعطفِه، فما الذي تغيَّر من حالِها؟! أينَ الرجوع إلى الله؟! أين سؤالُه ودعاؤه وقصده ورجاؤه؟!
أيّها المسلمون، إنَّ للدعاء شروطًا وآدابًا وأحكاما وأسبابًا، ينبغي للمسلم أن يتعلَّمها تأدُّباً مع ربِّه، وتقرّباً لإجابة دعائه وطلبِه، ومنها توحيدُ الله تعالى في الدّعاء في القصدِ والطلب والوسيلة، وهذا بابٌ عظيم جعل الدعاءَ هو العبادة، فكان واجباً أن يُخلَص لله تعالى، وأن يتوجّه العبدُ إليه سبحانَه بالدعاء والمسألة والطّلب والاستغاثة والاستعانَة والاستعاذة والاستِجارة والاستسقاءِ والاستنجادِ والاستغفار وطلَب النُّصرة وتحقيقِ المرغوبِ ودَفع المَرهوب وغُفران الذنوب وهداية القلوب وسدِّ الفاقات وسؤال قَضاء الحاجات ونَيل المَسرَّات وتفريج الكرباتِ وإغاثَة اللّهفات وإزالةِ الغمّة وشفاء المريض وأَمن الطريق والتثبيتِ عند السؤال والأمن يومَ الوعيد والنجاةِ من العذاب الشديد، إلى غيرِ ذلك من أنواعِ الدعاء والمسألةِ ممَّا لا يقدر عليه إلا الله تعالى جلباً لنفعٍ أو دَفعاً لضرّ، وهذا من خالِص حقّ الله سبحانه على العَبد، وهو توحيدٌ من العبد لربّه في الدّعاء؛ لأنَّ الله سبحانه لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، وهو وحدَه الذي يسمَع دعاءَ الداعين أينما كانوا، وبأيِّ لغةٍ تكلّموا، لا يشغله سمعٌ عن سمع، ولا يتبرّم بكثرةِ الداعين وإلحاحِ الملحّين، هو سبحانه الذي لا تشتبِه عليه الأصوات، ولا تختلِف عليه الحاجات، يعلمُ ما في الضمائر وما تنطوِي عليه السرائر، وهو سبحانَه الذي ينفَع ويضرّ على الحقيقة دون أحدٍ من الخلائق.
لِذا كان من الشرك دعاءُ الأموات والقبور والملائكة والجنّ وغيرهم، وسواء كان باسم الشفاعة أو الوسَاطة أو الوجاهة أو القُربة، بل أخبر الله تعالى أنَّ الدعاءَ هو الدين فقال جلّ شأنه: (هُوَ الْحَىُّ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَـادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ) [غافر:65]، والآيات في الباب كثيرة. ومن تأمّل دعاءَ الأنبياء وجدَه بالتوحيد كدعاءِ الكرب الذي دعا به يونسُ عليه السلام، فإنَّه لم يتضمّن طلباً في الظاهر، وإنما كان توحيدًا خالصاً، (فَنَادَى فِى الظُّلُمَـاتِ أَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـانَكَ) [الأنبياء:87]، فاستجاب الله تعالى له بالتوحيد.
أيّها المسلمون، وممَّا ينبغي مراعاتُه في الدعاء بعدَ الإخلاص والمتابعة التضرّعُ والابتهال إلى الله تعالى والتملّق إليه بأسمائِه الحسنى وصفاته العلا، (وَللَّهِ الأسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180]، والاستغفار والإقرارُ بالذنب والاعتراف بالنّعم واستفتاحُ الدّعاء بالحمد والثناء على الله بما هو أهلُه والصلاة والسلامُ على خاتَم أنبيائه ورسله محمّد صلى الله عليه وسلم، وأن لا يدعوَ بإثمٍ ولا قطيعة رحِم، ولا يعتديَ في الدّعاء، ولا يستعجِل، ولا يستبطئ الإجابة، ولا يقنُط، فإنَّ العبدَ يدعو ربًّا كريماً، ويكون الداعي مؤمناً موقناً راجياً مستقبلَ القبلة متطهّراً في هيئة حسنةٍ توقيراً لله تعالى، رافعاً يدَيه لله سبحانه جازماً في المسألة عازِماً ملِحًّا في الدّعاء متحيِّناً أوقاتَ الإجابة متحرّياً الأدعيةَ النبويّة متحَلِّلاً من المظالم مقدِّماً بين يدَي نجواه صدقة، فإنَّ مثل هذا لا يكاد يُردّ أبَداً، وإن تخلّفَ أثرُ الدعاء فليتَفقَّد الداعي نفسَه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيّها الناس، إنَّ الله طيِّب لا يقبَل إلا طيّباً، وإنَّ اللهَ أمَر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَـاتِ وَاعْمَلُواْ صَـالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51]، وقال: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ) [البقرة:172]"، ثم ذكر الرجلَ يطيل السفَر، أشعَث أغبر يمدّ يدَيه إلى السّماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمُه حرام، ومشربُه حرام، وملبسُه حرام، وغذِّي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟! رواه مسلم.
واستمِعوا ـ رحمكم الله ـ لهذا النّداء الإلهيّ من ربِّكم الذي يناديكم بقوله: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:55، 56].
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحِد القهّار، المتصرِّف في خلقه بما يشاء ويختَار، يقبضُ ويبسط، ويرفع ويخفِض، يجعل بعضَ خلقه لبعضٍ فتنة، وله في كلِّ تصريفٍ حكمَة، وفي كلِّ محنَة على المؤمن مِنحَة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، صلوات ربّي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيّها المسلمون، مَن عامل الله تعالى بالتّقوى حالَ رخائِه عامله الله باللّطف والإعانة في حالِ شدَّته كما قال تعالى عن يونس عليه السلام لمَّا التقمَه الحوت: (فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات:143، 144]، أي: لولا ما تقدّم مِن العملِ الصّالح لبقي في بطنِ الحوتِ إلى يوم القيامة.
فاتَّقوا الله عبادَ الله، وادعُوه وألحّوا عليه في الطلَب، سيما في الأوقاتِ الحرِيَّة بالإجابة كيومِ الجمعة والثلُث الأخير من الليل وبينَ الأذان والإقامة وفي السّجود وغير ذلك ممَّا دلّت عليه السنَّة.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربّ العرشِ العظيم، لا إله إلا الله ربّ السموات السّبع وربّ العرشِ الكريم" رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب أحداً قطّ همّ ولا حزنٌ فقال: اللهمَ إنّي عبدك ابنُ عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك، سمّيت به نفسَك، أو علَّمتَه أحداً من خلقك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرتَ به في علم الغيبِ عندك، أن تجعلَ القرآنَ العظيم ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاءَ حزني وذهابَ همي، إلا أذهبَ الله عزّ وجلّ همَّه وحزنه، وأبدله مكانَه فرَحاً" فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلّمُها؟ فقال: "بلى، ينبغِي لمَن سمعَها أن يتعلّمَها" رواه أحمد والحاكم وابن حبان والطبرانيّ بسند صحيح.
فعليكم بالدّعاء والصّبر على البلاءِ والعودةِ إلى ربّ الأرض والسماء، مع اليقين بقدَر الله، وأنَّ الله تعالى لا يظلِم مثقالَ ذرة، وأنَّ ما يصيب الإنسانَ فبسبَب نفسه.
ثمَّ اعلموا ـ رعاكم الله ـ أنَّ الأمّة أحوجُ ما تكون إلى وحدة الصفّ ونبذِ الخلافات والاجتماع على المصير الواحِد والابتعاد عن الاجتهادات والتصرّفات الفرديّة عن جماعة المسلمين، فإنَّ الاختلاف والتنازعَ سببٌ للفشل كما قال الله عز وجل: (يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ) [الأنفال:45، 46]، فقد أمرنا الله تعالى بطاعةِ الله ورسوله وعدمِ التنازع، وهو إشارةٌ إلى طاعة وليِّ الأمر، وإن حصل التنازع فالنتيجة الفشلُ وذهاب الريح، أي: ذهابُ القوة، وقيل: ذهابُ مهابة العدوّ لكم، (وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ)، فالصبر واجبٌ مأمور به.
إنَّ الواجبَ على المسلمين اتباعُ توجيهات الكتاب والسنة، والواجبُ على العلماء والمسلمين توجيه الناسِ وإرشادُهم لما ينفعهم ويكشِف كربتَهم ويصلح حالهم، بتذكيرهم بالعودَة إلى الله، ومحاسبَة النفس واللجوءِ إلى الله ودعائه والإقبال عليه والطمأنينةِ به والاجتماع وعدَم الفرقة والنّزاع والائتلاف وتَرك الخلاف والإرجاف وردّ الأمور إلى ولاتِها والحذَر من إشاعة البلبَلة والقلاقِل ممّا يهدِّد مصالحَ الجماعة، ويؤدّي لاضطراب الأحوالِ وانتشار الخوف وقتل المعنويَّات، فإنَّ خلافَ ذلك إثم واعتداءٌ على الأمة، قال الله تعالى محذّراً: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83].
ثمّ اعلموا أنَّ الله تعالى أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
التعليقات