عناصر الخطبة
1/ السفر في الصيف ظاهرة تستحق الدراسة 2/ أقسام السفر في الإسلام 3/ آداب السفر وضوابطه 4/ حكم السفر إلى بلاد الكفار 5/ مفاسد السفر إلى بلاد الكفار 6/ تذكير بسفر الإنسان إلى الدار الآخرةاهداف الخطبة
اقتباس
والسفر في هذه الأيام أصبح ظاهرة اجتماعية تحتاج إلى دراسة ومناقشة من قبل متخصصين في عدد من المجالات، وكأن السفر أصبح لازمًا، وصار السفر من أجل السفر وهذا ليس بصحيح، فالسفر في الإجازة ليس أمرًا واجبًا، والذين لا يسافرون ليسوا على خطأ؛ إذ الأصل هو الإقامة والاستقرار.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: وبدأت الإجازة الصيفية، وكثير من الناس قد حزموا حقائبهم منذ فترة من أجل السفر في الإجازة الصيفية.
والسفر في هذه الأيام أصبح ظاهرة اجتماعية تحتاج إلى دراسة ومناقشة من قبل متخصصين في عدد من المجالات، وكأن السفر أصبح لازمًا، وصار السفر من أجل السفر وهذا ليس بصحيح، فالسفر في الإجازة ليس أمرًا واجبًا، والذين لا يسافرون ليسوا على خطأ؛ إذ الأصل هو الإقامة والاستقرار.
تذهبُ إلى المطارات فتجدُ أرسالًا من البشر وفئامًا من الناس يسابقون الريح وينافسون الآلات سرعةً واشتغالًا، قد حملوا حقائبهم، ونقلوا أغراضهم، وأعدوا عدتهم، لأسفار كثيرة ورحلات طويلة، اشرأبت أعناقهم وتطلعت أنفسهم إلى سياحة أثيرة وتنقلات مثيرة مع تباين في حقيقة أسفارهم واختلافٍ في آرائهم وأفكارهم.
ويتملّكك العجب وأنت تقرأ عن السفر والمسافرين، الإحصاءات المذهلة والأرقام الهائلة، والمليارات التي تصرف في كل عام، ولا ينتهي عجبك وأنت ترى تلك الوفود وقد أُقفلت الحجوزات وتزاحمت على البوابات وتسارعت لامتطاء المركبات، وكل ما يستهويهم هو تحقيق الرغبات، أو السفر من أجل السفر، لكي لا يأتي في نهاية الصيف ولم يسافر فيشعر بنوع من الحرج.
والغريب أنا وصلنا إلى مرحلة أن الذي يسافر في داخل البلاد، هذا لا يعده الناس أنه قد سافر؛ إذ لا بد للسفر أن يكون للخارج. والمؤسف والمحزن أن بعضهم ينسى في سبيل ذلك عقيدته وقيمهُ وأخلاقه، فيجعلها في عداد المخلَّفين والمخلَّفات، ولا يمنحها تأشيرة سفرٍ معه، فينـزع رداء التقوى وجلباب الحياء قبل أن يطاول الفضاء.
أيها المسلمون: إن الإسلام لا يحجّر على أتباعه أن يروّحوا عن أنفسهم، أو يدخلوا السرور على أهليهم وأبنائهم، وأن يعملوا بالوسائل المباحة في ذلك شرعًا، فالترفيه البريء والترويح المباح لا غضاضة على الإنسان فيه، بل قد يكون مطلوبًا أحيانًا لأغراض شرعية، وأهداف مرعية، لكن يجب أن يكون كل ترفيه وترويح في حدود ما هو مباح شرعًا، أما أن يُستغلّ ذلك فيما يُضعف الإيمان ويهزّ العقيدة ويخدش الفضيلة ويوقع في الرذيلة ويقضي على الأخلاق والقيم والمثل فلا وكلا.
والسفر -عباد الله- على قسمين: سفر هرب وسفر طلب؛ فسفر الهرب: كأن تسافر من شر تهرب منه حفاظًا على نفسك أو دينك أو أهلك أو مالك، ومن أمثلة ذلك: ما هو حاصل هذه الأيام من هروب كثير من المسلمين في بلاد الشام وخروجهم وسفرهم هربًا حفاظًا على أنفسهم ودينهم وأعراضهم من جرم الباطنية، وضعفهم من مقاومته.
ومن أمثلة سفر الهرب: السفر للهرب من بلد حفاظًا على الدين، كأن يُبتلى المؤمن في بلد ما في دينه، ويؤذى ويضيق عليه، ويلاحق في كل مكان، فهذا يخرج ويبحث له عن أرض يعبد فيها ربه ويبلغ دين الله -عزّ وجل-، وللمؤمن في هذا قدوة بأنبياء الله ورسله، فغالب أسفارهم كان من هذا الباب، وعلى رأسهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث هاجر من مكة إلى المدينة بعدما ضيقت قريش الخناق عليه وعلى أصحابه، وصار يراقب في كل مكان، وحصلت الأذية الجسدية لبعض أصحابه، فعندها هاجر المصطفى -عليه الصلاة والسلام- وترك مكة وهو يحبها، وذهب إلى المدينة ليعبد ربه -سبحانه وتعالى-.
وهناك السفر للهرب من بلد حفاظًا على البدن، كأن ينتشر مرض في بلد -عافانا الله وإياكم- ويهلك الناس، فيرحل عندئذ الشخص حفاظًا على حياته وحياة أولاده.
ومثله أيضًا الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، ومنها الخروج من دار الكفر والبدعة التي لا يقدر الإنسان على ردها وإنكارها، قال الله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً)، وقال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وروي عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه قال: "لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسَبُّ فيها السلف".
وأما سفر الطلب: فهو كثير ومتنوع، ومن أمثلته:
السفر للجهاد: وكان ذلك أكثر أسفار النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام.
ومنها: السفر للحج والعمرة.
ومنها: السفر لطلب العلم.
ومنها: السفر للأماكن الفاضلة كالمساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال على سبيل القربة والتعبد والاعتكاف إلا إليها.
ومنها: السفر للتجارة والكسب الحلال وتحصيل الرزق عند انعدامه.
ومنها: السفر لزيارة ذوي القربى وصلة الرحم.
ومنها: السفر للتطبب والعلاج.
ومنها: السفر للنـزهة وترويح النفوس.
ومنها: السفر من أجل الدعوة إلى الله ونشر العلم الصحيح والترغيب في دين الله تعالى.
ومنها: السفر للاعتبار كما في قول الله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).
ومن الحثّ اللّطيف على السفر النافع والمفيد قولُ الثعالبي -رحمه الله-: "من فضائل السفر أنّ صاحبه يرى من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علمًا بقدرة الله تعالى, ويدعوه شكرًا على نعمه".
إن العُلا حدَّثتني وهي صادقة *** فيما تحدِّث أنّ العِزَّ في النُقَل
لا يُصلح النفسَ وهي مدبرة *** إلا التنقلُ من حال إلى حال
وقال آخر:
إني رأيـت وقـوف الماء يفسده *** إن سال طاب وإن لم يجرِ لم يطبِ
والأُسْد لولا فراق الغاب ما افتَرست *** والسهم لولا فراق القوس لم يُصبِ
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة *** لملَّها الناس من عُجم ومن عرب
وهل بلغ الصحابة الأجلاء والسلف النبلاء والأئمة الفقهاء ما بلغوا مِن ذُرى القمَم وقصَب السبق بين الأمم إلا بالرحلة في طلب الحديث وتحصيل العلوم والمعارف. ومن المعروف أن الكُحْل نوع من الأحجار كالثّرى يرمى على الطرق, فإذا تغرّب جُعِل بين الجفن والحدَق.
فهذه جملة من الأسفار الواجبة والمندوبة والمباحة، وأما غير ذلك من الأسفار فلا يليق بعاقل أن يضيع فيه وقته، أو يتعب فيه بدنه، أو ينفق فيه ماله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ). "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
أيها المسلمون: يا مَن عزمتم على الأسفار، وجَوْب الأمصار والأقطار، وركوب الأجواء والبحار، واقتحام الفيافي والقفار، وتحدي الشدائد والأخطار: تلبّثوا مليًّا، وتريّثوا فيما أنتم بسبيله، وليكن في نواياكم أسوتكم بنبيكم –صلى الله عليه وسلم-، حيث سافر من مكّة إلى المدينة، حاملًا النورَ والضياء والهدى والإصلاح، وكذلك صحابته الكرامُ في أثره، حيث كانوا لنشر رسالتهم الربانية المشرقة أجلَّ السفراء، وسار في ركابهم كوكبة من العلماء، فشقّوا الأرضَ شقًّا، وذرعوها سفرًا وتسيارًا، طلبًا للعلم والإفادة، والصلاح والسعادة، وتصعّدًا في مراقي الطّهر والنّبل، كلّ ذلك على كثرة المخاوف وشُحّ الموارد وخشونة المراكب وقلّة المؤانس, فهلاّ اعتبرنا بهم وشكرنا الباري -جلّ في علاه- على نعمِه.
وفي زمننا هذا المتضخِّم بالدّعة والرفاه وجدب النفوس، أصبَح السفر والتنقّل ظاهرةً جديرة بالاهتمام والتذكير بالآداب الشرعيّة، وقبله بما يجوز وما لا يجوز، كيف وبعض الناس يمتطون هذه الأيام متونَ الطائرات وأمثلَ المركبات، أئلى صلة الأرحام والقرابات يسافرون؟! كلا، أئلى طلب العلم والأخذ من العلماء يسافرون؟! كلا، أئلى الأعمالِ الخيريّة والدعويّة يسافرون؟! كلا، أئلى مواطنِ الطهرِ والفضيلة يسافرون؟! بكل حُرقة: لا وكلاّ، بل إلى مستنقعاتِ الآثام والشرور، ومباءات المعاصي والفجور, لمبارزة الملك الديّان, بالذنوب والعصيان، حيث أملى لهم الشيطان أنّ هاتيك المنتجعات والشطآن هي أدواء علاجِ الملل من حرّ الصيف اللافح وأجواء الترفيه والسياحةِ والاصطياف.
أيُّ دين وقيمٍ عند من يسافرون إلى مباءات الأوبئة الفتاّكة أجاركم الله؟! التي أسعرتها مُعطَيَات الحضارة السافرة، وألهبتها الشبكات الحديثة المذهلة وأذكاها الجفاف الروحي والتّرف الماديّ الساحق، فكان هذا الفهم الخاطئ لمعنى السّفر والسياحة التي آضت عند بعض المنهزمين صناعةً للتفلّت من القيم والتنصّل من المبادئ والثوابت؛ ما كان سببًا في خَلط الأوراق لدى كثيرين بين السياحة البريئة والترويح المشروع وبين ضدّها، وبضدّها تتميز الأشياء، حتى صُرفت فئام من الأمّة عن تاريخها وأصالتها وتراثها ولغتها، فأضحَوا مُزَعًا تائهين أسرَى التقليد والتبعيّة والتقاليد المستوردَة النشاز, حين هبّت أعاصير الشهوات والملذّات، وثارت لوثات الخلل الفكريّ والأخلاقي والانحرافات على جملةٍ من السلوكيات في كثير من المجتمعات، فتركتها في دياجير الظلمات.
فيا سبحان الله! كيف تقضي المرأة سحابةَ عامِها كريمة معزّزةً ثمّ تسافر لتطّرح خمارها وحياءها، فاتنةً مفتَنة؟! أتقضي الفتاة ربيعَ عامها في جوٍّ مصون محافظ ثم تسافر لتبدّد حياءها وحشمتها؟! أين أبوها؟! أين زوجها؟! أين أخوها؟! هل نحن -رجالًا ونساءً- في شك من ديننا؟! أولسنا على ثقةٍ من قيَمنا وثوابتنا؟! إذًا لماذا هذا الانفصام في الشخصيّة, والتناقض والازدواجية في قضايانا الاجتماعية؟!
وإنّكم لتأسفون أن يُعلّق كلّ هذا على مشجب الترويح والترفيه -زعموا- وأنّى تندمل جروح أمتنا النازفة، وفي الأمّة من لا يبالي بدين ولا قيم!! فليت شعري! أبمثل هذا تبنى المجتمعات ويشاد صرح الحضارات؟! وليت شعري! أبمثلِ هذا تُعمَر الأوقات وتدوم الخيرات والبركات وتُستجلَب البهجة والسعادة والمسرات؟!
إن السفر -يا عباد الله- في الإسلام له حدود مرعية وضوابط شرعية، والسفر في الإسلام فيه حلال وحرام، وفي الإسلام سفر يجوز وسفر لا يجوز، منها أن يكون السفر في حدود بلاد الإسلام المحافظة، أما أن يكون إلى بقاع موبوءة ومستنقعات محمومة وأماكن مشبوهة وإن كانت تسمى بلادًا إسلامية فلا، ما لم يكن ثمَّة ضرورة، مع المحافظة على شعائر الإسلام لا سيما الصلاة. وهل يُلقى بالحمل الوديع في غابات الوحوش الكاسرة والسباع الضارية؟! يصطحب الشخص معه عائلته من بنات وأولاد مراهقين ومراهقات، بل ربما يصل الأمر ببعض العوائل أن تسافر العائلة وحدها دون قيّمها ودون محرم، أين هؤلاء من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في صحيح البخاري وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة وليس معها ذو محرم"!! والبعض يرسل الأولاد من بنين وبنات فقط، كل هذا بدعوى النزهة والسياحة، وعليك أن تتصور كم من المفاسد والشرور في هذه الأسفار وفي هذا النوع من التجوال.
يعتاد الأولاد على مشاهدة وجوه النساء، وسماع المعازف المحرمة في كل مكان، وتتدرب المرأة على مخالطة الرجال، والجلوس في المطاعم، والتسوق بكل حرية، والاحتكاك بالأجانب.
فيا لعجب المسلمين!! يشهدون أن لا اله إلا الله، كيف يخلعون الكرامة وينسلخون من الحياء، ويباشرون المعاصي وكأنها شيء مألوف، ويا لعجب لأناس قد يكونون هنا من رواد المساجد، ثم يرضى هناك أن يكون بهذه الصورة بين أهله وبناته وأولاده.
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، اتقوا الله في أنفسكم وفي أهليكم، فإن النفوس الضعيفة تألف هذه الأشياء رويدًا رويدًا، إلى أن تلغ في حمئها وهي لا تشعر، فإذا أشربت النفس درجة، تهيأت للتي تليها، ثم تلغ وتقع فيها، ثم تتهيأ للتي بعدها، حتى تقع في أكبر الفتن وهي لا تشعر.
إن النفوس الضعيفة تأخذ كل ما يساق إليها وينتهي بها الأمر إلى أن تفقد خصائصها الإسلامية التي بها قِوامها، ثم تموع وتذوب، أو تضمحل وتفنى، فلا تتعجب بعد ذلك -أخي المسلم- إذا رأيت نماذج ومع كل أسف من أبنائنا شخصياتهم مهزوزة، إنها إحدى نتائج السفر التي جّلها معاصٍ ومناظر محرمة؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
إنها -أيها المسلمون- نار محرقة، فأنقذوا أنفسكم، وأنقذوا معكم ذويكم الذين تزعمون أنكم تحبونهم، أنسيتم أنكم تتقلبون في نعم الله صباح مساء، ثم أتظنون أن هذا سيدوم لكم!! كلا والله، كل هذا سيترككم يومًا ما، حتى تعودوا حفاة عراة في حفرة مظلمة، يملأ التراب أفواهكم، عندها تتمنون ولو لحظة واحدة أن تعودوا إلى الدنيا فتنفقوا شيئًا من هذا المال في سبيل الله، لكن بعد فوات الأوان.
فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم على النار لا تقوى، وأن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا حذركم، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: وأما السفر إلى بلاد الكفار فحرام ولا يجوز؛ روى أبو داود والترمذي قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين". وقد ذكر أهل العلم شروطًا ثلاثة لجواز السفر إلى بلاد غير المسلمين:
أولها: أن يكون عند الإنسان دين يدفع به الشهوات.
ثانيها: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات.
ثالثها: الضرورة الشرعية كعلاج ونحوه.
قال سماحة الإمام العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-: "أما السفر إلى تلك البلاد التي فيها الكفر والضلال والحرية وانتشار الفساد من الزنى وشرب الخمر وأنواع الكفر والضلال ففيه خطر عظيم على الرجل والمرأة, وكم من صالح سافر ورجع فاسدًا, وكم من مسلم رجع كافرًا, فخطر هذا السفر عظيم"، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين". وقال أيضًا: "لا يقبل الله من مشرك عملاً بعدما أسلم أو يفارق المشركين إلى المسلمين". والمعنى حتى يفارق المشركين. فالواجب الحذر من السفر إلى بلادهم, وقد صرح أهل العلم بالنهي عن ذلك والتحذير منه". انتهى.
أيها المسلمون: إن السفر إلى بلاد الكفار مع كونه محرمًا ولا يجوز له مفاسد كثيرة:
منها: الإعجاب بالكفار، وبالتالي مدحهم والثناء عليهم بعد العودة.
ومنها: أن كثيرًا من المسافرين تعلقوا ببعض مقتنيات الكفار وملابسهم، فجلبوها وافتخروا بلبسها، وإن شئت فانظر إلى انتشار لبس القبعات بين الشباب والسراويل القصيرة وأنواع البنطلونات بين النساء، والفانيلات التي تحمل العبارات الأجنبية وغيرها.
ومنها: نزع النساء للحجاب بكشف الوجه أو جزء منه بلا حياء لأن الزوج أو الأب أو الأخ رضي أو أمر به؛ ما نتج عنه تضايقهن من تغطية الوجه عند العودة؛ ما أدى إلى ظهور موضة اللثام بأنواعه، ولا من شهم يغار، ولله در القائل:
ما كانت العذراء لتبدي سترها *** لو كان في هذي الجموع رجال!
ومن مفاسد السفر إلى بلاد الكفار: رؤية الأبناء والبنات المناظر المحرمة والمنكرات الظاهرة ابتداءً من المطارات، وعدم تجنيب الأب أولاده لتلك المناظر يعتبر من سوء التربية وتعريضهم للفتنة، فبئست التربية ويا لقبح هذا الصنيع الذي يعده بعض الآباء مكافأةً لأبنائه على نجاحهم!!
ومنها: الثناء على اعتدال الجو في تلك البلدان والتسخط من جو بلده إذا رجع؛ ما قد يوقعه في سب الدهر.
وأخيرًا: أذكرك -يا عبد الله- بسفرك إلى الآخرة: فالعبد من حين استقرت قدمه في هذه الدنيا فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كُتب له إلى أجله. فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار، ثم قد جُعلت الأيام والليالي مراحل سفره، فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر. والناس في قطع هذه المراحل قسمان:
القسم الأول: قطعوها مسافرين فيها إلى دار الشقاء، فكلما قطعوا منها مرحلة, اقتربوا من تلك الدار, وابتعدوا عن ربهم وعن دار كرامته، فقطعوا تلك المراحل بمساخط الله, وحاديهم في السفر إبليس اللعين، وأزِّ الشياطين. قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّا).
والقسم الثاني: قطعوا تلك المراحل مسافرين فيها إلى الله وإلى دار السلام، وهم ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن الله. وهؤلاء كلهم مستعدون للسفر موقنون بالرجعى إلى الله، ولكنهم متفاوتون في التزود للسير وتعبئة الزاد واختياره، وفي نفس السير وسرعته وبطئه.
فاختر لنفسك -يا عبد الله- أحد القسمين, وانزل فيما شئت من المنـزلتين، ولا بد لكل نعمة من حاسد، ولكل حق من جاحد ومعاند.
اللهم...
التعليقات